الخميس، 10 مايو 2012

من تاريخ العرب ( سيف الدين قطز)









السلطان سيف الدين قطز
ومعركة عين جالوت
في
عهد المماليك







                            علي محمد محمد الصَّلاَّبِّي





الإهداء




إلى كل مسلم حريص على إعزاز دين الله ونصرته أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه الحسني وصفاته العلى أن يكون خالصاً لوجهه الكريم.
قال تعالى:((فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً)) (الكهف، الآية: 110)






                            على محمد محمد الصلابي






بسم الله الرحمن الرحيم


المقدمة


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) (آل عمران، الآية:102).
((يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)) (النساء، الآية:1).
((يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً* يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)) (الأحزاب، الآية:70ـ71).
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى فللّه تعالى الحمد كما ينبغي لجلاله وله الثناء كما يليق بكماله، وله الحمد كما تستدعيه عظمته وكبرياؤه أما بعد:
هذا الكتاب جزء من كتاب المغول ( التتار ) بين الإنتشار والإنكسار، وقد رأيت نشره على إنفراد لتعم الفائدة وحتى نعطي سيف الدين قطز حقه على إنفراد، وقد سميته السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت.
 وقد تكلمت عن دولة المماليك وعن أصولهم ونشأتهم وعن نظام التدريب والتربية والتعليم والمراحل التي يمرّون بها وعن نظام التخرج وانهاء الدراسة ولغتهم ورابطة الاستاذية والزمالة بينهم وجهودهم في دحر الحملة الصليبية السابعة وصور من شجاعتهم وعن أسباب هزيمتهم ونتائجها والتي كان من أهمها:
1 ـ ارتفاع شأن ومكانة المماليك.
2ـ وعجز فرنسا عن تحقيق أهدافها.
وعن مقتل تورانشاه وزوال الدولة الأيوبية وكيفية مقتل تورانشاه؟ واسباب سقوط الدولة الأيوبية والتي من أهمها:
1ـ توقف منهج التجديد والإصلاح.
2ـ الظلم.
3ـ الترف والانغماس في الشهوات.
4ـ تعطيل الخيار الشوري.
5ـ النزاع الداخلي في الأسرة الأيوبية.
6ـ موالاة النصارى.
7ـ فشل الأيوبيين في إيجاد تيار حضاري.
8ـ ضعف الحكومة المركزية.
9ـ ضعف النظام الإستخباراتي.
10ـ غياب العلماء الربانيين عن القرار السياسي.
11ـ وفاة الملك الصالح نجم الدين وعدم كفاءة وريثه.
وكان حديثي عن شجرة الدر هل هي أيوبية أم مملوكية؟ وكيف تولت سلطنة مصر؟ وموقف الخليفة العباسي والعلماء وعامة الناس من توليها الحكم، وكيف خلعت نفسها ورشحت عزالدين أيبك لتولي السلطنة وتزوجته بعد ذلك؟ وبينت حكم الشريعة الإسلامية في تولي المرأة للولاية العامة، وأشرت للمخاطر التي تعرض لها عزالدين أيبك في حكمه، كالخطر الأيوبي والصليبي، ومحاولة لويس التاسع استغلال فرصة النزاع بين المسلمين، وتردد السفارات بين ملوك مصر والشام ولويس التاسع ومساعي الخليفة العباسي في الصلح بين المماليك والأيوبيين، وموقف المماليك من تمرد القبائل العربية في مصر، وتصدي عزالدين أيبك لخطر زملائه المماليك ومقتل الفارس أقطاي، ومقتل السلطان أيبك وشجرة الدر بعد ذلك.
وتحدثت عن سلطنة علي ابن المعز ثم تولي سيف الدين قطز، وترتيبه للأمور الداخلية. كان الحديث عن معركة عين جالوت الخالدة وانكسار المغول، وتتبعت تحرك المغول بعد سقوط بغداد، وبينت كيف تم احتلال المغول لبلاد الشام والجزيرة، ووضحت مشروع الكامل الأيوبي لمواجهة التتار وكيف استشهد عند دفاعه البطولي عن ميّافارقين، فقد صمدت المدينة الباسلة وظهرت فيها مقاومة ضارية بقيادته ونظراً لطول الحصار الذي فرضه المغول على المدينة، نفذت الأرزاق من داخلها وعم القحط وانتشر الوباء وتهدمت الأسوار من شدة ضرب المنجنيقات حتى هلك أكثر سكان المدينة، فقد وقعت المجاعة فيها بسبب الحصار الطويل وفي عام 658هـ/1260م سقط آخر معقل للمقاومة في الجزيرة ودخل التتار ميّافارقين فوجدوا جميع سكانها موتى، ما عدا سبعين شخصاً نصف أحياء وقبضوا على الكامل الأيوبي فعنفه هولاكو وأمر بتقطيعه وأخذوا يقطعون لحمه قطعاً صغيرة ويدفعون بها إلى فمه حتى مات ثم قطعوا رأسه وحملوه على رمح وطافوا به في البلاد وذلك سنة 657هـ/1259م إلى أن وصل دمشق، فعلّقوه على باب الفراديس، حتى أنزله الأهالي ودفنوه.
وكان السلطان الناصر الأيوبي سلطان بلاد الشام متردد بين المقاومة والاستسلام، وكان متخوفاً من المغول، الذين هددوه بالرسائل وذكروه بما حدث لبغداد وخليفتها وجاء في رسائلهم للسلطان الناصر:... واستحضرنا خليفتها وسألناه عن كلمات فكذب فواقعه الندم واستوجب منا العدم وكان قد جمع ذخائر نفيسة وكانت نفسه خسيسة، فجمع المال ولم يعبأ بالرجال وكان قد نمى ذكره وعظم قدره ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال:
        إذا تم أمر دنا نقصه
                    توقّ زوالاً إذا قيل تم
        إذا كنت في نعمة فارْعها
                    فإن المعاصي تُزيل النعم
        وكم من فتى بات في نعمة
                    فلم يدر بالموت حتى هجم
إذا وقفت على كتابي هذا فسارع برجالك وأموالك وفرسانك  إلى طاعة سلطان الأرض، ملك الملوك على وجه الأرض، تأمن شره، وتنل خيره، كما قال تعالى في كتابه العزيز:"وأن ليس للانسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يرى* ثم يجزاه الجزاء الأوفى". ولا تعوق رسلنا عندك، كما عوقت رسلنا من قبل "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". وقد بلغنا تجار الشام وغيرهم انهزموا إلى كروان سراي، فإن كانوا في الجبال نسفنها وإن كانوا في الأرض خسفناها.
هذه طرق من الحرب النفسية التي كان المغول يشنونها ضد أعدائهم. واستمر المغول في هجومهم على ديار المسلمين وسقطت حلب وسلمت دمشق وسيطر المغول على بلاد الشام وكانوا شديدي الوطأة على المسلمين، فبادروا إلى تدمير الاستحكامات والأسوار والقلاع في البلاد التي خضعت لهم مثل حلب ودمشق وحمص وحماة وبعلبك وبانياس وغيرها، وحققوا بذلك ما لم يستطع تحقيقه الصليبيون من قبل، ولقد مال المغول منذ اللحظة الأولى لغزوهم للشرق الأدنى إلى العنصر المسيحي النسطوري. وأصبح الملك الناصر مسلوب الإرادة مرعوباً ليس له رأي ووقع أخيراً في أسر هولاكو الذي قام بقتله فيما بعد عند سماعه لهزيمة المغول في عين جالوت.
كان من نتائج سقوط بلاد الشام في أيدي المغول وحلفائهم أن عم الرعب والخوف سائر أرجائها، فهرب الناس، باتجاه الأراضي المصرية وكانت القيادة الإسلامية بمصر تستقبل فلول المسلمين من العراق والشام وتجهز نفسها لمعركة فاصلة مع المغول وكان السلطان سيف الدين قطز على رأس السلطة في مصر وكان يدرك أن بقاء دولته الفتية يتوقف على إجتيازه ذلك الإمتحان الكبير المتمثل في الغزو المغولي للممالك الإسلامية الذي استشرى خطره، وأن يثبت أنه بحق أهل للثقة التي أولاها إياه الأمراء في مصر ورجل الساعة بالفعل بعد اجماعهم على عزل الملك المنصور علي ابن المعز أيبك وتنصيبه على دولة المماليك وأخذ سيف الدين في إعداد الجبهة الداخلية، وحرص على رص الصفوف والتصالح مع المخالفين، وحكّم الشريعة الإسلامية في دولته واستجاب لتعاليم وترشيد الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ورد على رسالة هولاكو بإعلان الحرب على المغول والقبض على رسلهم وضرب أعناقهم أمام أبواب القاهرة وعلق رؤوسهم على باب زويلة وأبقى على صبي من الرسل وجعله من مماليكه وكانت تلك الرؤوس أول ما علق في مصر من المغول، وشرع في إعداد العدة للمعركة الفاصلة واستطاع المسلمون بقيادة سيف الدين قطز تحقيق نصراً ساحقاً على المغول وتمّ تطهير بلاد الشام من السيطرة المغولية، ورتّب سيف الدين قطز أمور الولايات الشامية، وبعد ذلك قصد البلاد المصرية وفي طريق عودته تمّ اغتياله على يد ركن الدين قطز ومجموعة من فرسان المماليك لأسباب تمّ بيانها وتفصيلها في هذا الكتاب، وذكرت أهم العوامل التي ساهمت في تحقيق النصر في معركة عين جالوت والتي منها:
1ـ القيادة الحكيمة.
2ـ توسيد الأمر إلى أهله.
3ـ الجيش القوي.
4ـ إحياء روح الجهاد.
5ـ الإعداد وسنة الأخذ بالأسباب.
6ـ عبقرية التخطيط.
7ـ بعد نظر سيف الدين قطز وقيادته الحكيمة.
8ـ توفر صفات الطائفة المنصورة.
9ـ سنة التدرج ووراثة المشروع المقاوم.
10ـ الاستعانة بالعلماء واستشارتهم.
11ـ الزهد في الدنيا.
12ـ صراعات داخل بيت الحكم المغولي.
13ـ سنة الله في أخذ الظالمين والطغاة.
وبينت أن الأسباب في انتصار المسلمين في عين جالوت متشابكة ومتداخلة، ويؤثر كل منها في الآخر تأثيراً عكسياً، وما ذكرنا من الأسباب ليس على سبيل الحصر وإنما هذا ما أمكن الوصل إليه ومع البحث والتنقيب في صفحات التاريخ، يمكن للباحثين والمهتمين أن يصلوا إلى المزيد، لكي نستخرج الدروس والعبر والسنن والقوانين المهمة في قيام الدول وسقوطها وانتصار الشعوب وهزيمتها، ومعرفة صفات قادة التمكين، وفقهاء النهوض قال تعالى: ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديث يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)) (يوسف، الآية:111).
ولخصت أهم النتائج والآثار المترتبة على انتصار المسلمين في عين جالوت فذكرت منها:
1ـ تحرير بلاد الشام من المغول.
2ـ تحقق الوحدة بين الشام ومصر.
3ـ خمود القوى المناوئة للماليك.
4ـ انتصار الإسلام على الوثنية.
5ـ حدث حاسم في تاريخ البشرية.
6ـ روح جديدة في الأمة.
7ـ إنحسار المد المغولي.
8ـ فشل التحالف بين الصليبيين والتتار.
9ـ إضعاف الوجود الصليبي.
10ـ مدينة القاهرة عاصمة المماليك.
11ـ ميلاد دولة المماليك الفتية.
12ـ الدور الرمزي للخلافة العباسية.
13ـ تطوير الجيش المملوكي وتحديث عتاده وأنظمته.
لقد تعرفت من خلال دراستي في هذا الكتاب على طبيعة المشروع المغولي ونقاط ضعفه وقوته، وكيف استباح العالم الإسلامي وتهاوت مدن المسلمين، كبخارى وسمرقند وكابل وبغداد وغيرها أمام جيوش المغول، فاستباحت الديار وهتكت الأعراض، وصودرت الممتلكات وغابت أسباب النصر، وتعمقت عوامل الهزيمة في الأمة أمام المشروع الغازي ومضت السنن والقوانين الإلهية وعملت عملها ولم تجامل أحد، وما تغيرت ولا تبدلت والناس في همّ وغمّ وذل وضعف وخور، وصغار، حتى استوعبت القيادة الإسلامية في مصر فقه المقاومة وادارة الصراع وعرفت كيف تدفع أقدار الله بأقداره من خلال سنن النهوض، وأسباب النصر، فكانت النتيجة المذهلة في معركة عين جالوت لقد تحرك سيف الدين قطز من خلال مشروع اسلامي ملك مقومات الصمود والتحدي وحقق الانتصار، فكانت الرؤية واضحة والهوية صافية، والبعد العقائدي حاضر، والفقه السياسي ناضج، والقوة العسكرية متفوقة في مجاليها المعنوي والمادي، وعرف سيف الدين قطز مكانة العلماء في الأمة وقوة تأثيرهم ونفوذهم الروحي على الشعب فقربهم واحترمهم وفتح لهم أبواب التعليم والوعظ والإرشاد فقاموا بدور كبير في تعبئة الأمة ودفعها لكي تلتف حول المشروع الإسلامي الذي قاده سيف الدين قطز.
إن تاريخ الأمة ثروة فكرية لا تفنى، وكنوز علمية لا تنفذ، تمنحنا الأصالة وعز الإيمان وشرف الانتماء فيعيننا هذا المخزون الحضاري في تشكيل الحاضر واستشراق المستقبل واستئناف الحياة الكريمة في ظل مجتمع إسلامي تسوده العقائد الصحيحة وتزكيه العبادات السليمة وتحركه مشاعر رفيعه وتحكمه تعاليم الإسلام وتوجه اقتصاده وفنونه وسياسته على أننا إذا تلفَّتنا إلى الماضي فلا نلتفت إليه لنرجع القهقري ونمشي إلى الوراء، بل لنستمد منه القوة على السير سعياً إلى الأمام لنربط بين الماضي المجيد والمستقبل المشرق، إلى الأمام لنصل مجدنا الجديد بمجدنا التليد إننا نعلم أن الاستغراق في الماضي وحده نوم أو جمود والاستغراق في المستقبل وحده هوس وجنون، والاستغراق في الحاضر وحده عجز وقعود، ونحن نريد أن نستمد من الماضي دافعاً وحافزاً، ومن المستقبل موجّهاً ومرشداً ومن الحاضر عماداً وسناداً.
ونحن نعلم أن هذا المجد لا يعود بالأحاديث والخطب ونعلم أن السجين المصفّد بالاغلال لا يطلقه تذكر الحرية والتغني بلذاتها، وأن الجائع لا يشبعه تذكر موائد الماضي واستعراض ألوانها وأن الفقير لا يغنيه تذكر زمان غناه والزهو بما ضاع فيه، وأن الذلة لا تُدفَع عن الذليل بنظم قصائد الفخر بعزة جده، ولكننا نعلم أيضاً أن السجين الذي ينسى أيام الحرية يستريح إلى القيد ولا يجد حافزاً إلى الإنطلاق، وأن الفقير الذي ينسى زمان الغنى يطمئن إلى الفقر ولا يجد دافعاً إلى الإستغناء، وأن الذليل الذي ينسى عزة أبيه يألف الذل ولا يجد قوة على دفعه، فإذا اطمئنّنا إلى جلال ماضينا وحسبنا أن خطبة بتجميده ومقالة بالإشادة به تغنينا وتكفينا فلن يعود لنا هذا الجلال أبداً، وإن نسينا أننا أبناء سادة الأرض وأساتذة الدنيا لم يحرك أعصابنا شيء إلى إستعادة هذا المجد، فلنأخذ من الماضي بقًدْر، نأخذ منه ما يدفع ويرفع وينفع، وندع منه ما يثبط ويُقعد وينيم إننا لا نريد أن نعود إلى الزمان الماضي، فالزمان يمشي أبداً لا يقف ولا يعود، ولا نعود إلى مثل معيشة الزمان الماضي، ونترك ثمرات الحاضر، ولكن نعود إلى المُثُل العلياء وإلى الفضائل التي لا تفقد قيمتها بمرور الزمن، فكما أن الذهب والألماس لا يغيرّه القِدَم ولا يصدأ كما يصدأ الحديد، فإن في المعاني ما هو كالألماس والذهب في المعادن.
نحن نريد نعود إلى حياة الإيمان، والتقوى، والإحسان والعدل، والعبودية الخالصة لله عز وجل والشريعة الحاكمة على الأفراد والشعوب والأمة والدول ونتحرر من أنواع الشرك ما ظهر منه وما بطن ونعمل لقول الله تعالى: "وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون* وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون)) (النور، الآية : 55 ـ 56).
إن أمر النهوض بهذه الأمة والتصدي للمشاريع الغازية يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتم القران الكريم اهتماماً كبيراً بإرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة وأوجب الله تعالى على الأمة الأخذ بأسبابها، لأن التمكين لهذا الدين طريقه للوصول إلى القوى بمفهومها الشامل وقد قال الأصوليون: وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إن القرآن الكريم أوجب على أتباعه إعداد القوة قال تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم ظالمون" (الأنفال، الآية : 60) وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحصّلوا كل أسباب القوة، فهم يواجهون نظاماً عالمياً وقوى دولية لا تعرف إلا لغة القوة، فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد ويقابلوا الريح بالإعصار ويقاتلوا الغزاة بكل ما اكتشف الإنسان ووصل إليه العلم في هذا العصر من سلاح وعتاد واستعداد حربي لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون.
إن قادة المماليك قدموا للأمة أعمالاً جليلة في الفداء والبطولة، فقد استطاعوا أن يقاوموا طوال فترة حكمهم عدوين غاشمين، كانت لهم أطماع في البلاد الإسلامية دينية وسياسية واقتصادية هما المغول والصليبيون، غير أنهم جميعاً لم يستطيعوا تحقيق رغباتهم ولا الوصول إلى اهدافهم إذ كان المماليك يقفون سداً منيعاً حماية للبلاد الإسلامية ودفاعاً عن الدين والأخلاق، فكان جهادهم في هذا المضمار من أعظم الأعمال التي قاموا بها وكانت وقائعهم مع أعداء الإسلام صفحات مضيئة ومشرقة يستفيد منها ويقتدى بها المسلمون كلما أرادوا العزة والكرامة، لقد استطاع المماليك أن يثبتوا كفاءتهم وشجاعتهم في الميادين العسكرية والسياسية، فنظر إليهم حكام الدول الإسلامية وشعوبها نظرة إكبار وإجلال في حين نظرت إليهم القوى الدولية الأخرى نظرة خوف واحترام، فحرصت على ملاطفتهم ومسالمتهم أو مهادنتهم اتقاء بطشهم وانتقامهم وبذلك تكون دولة المماليك قد فرضت احترامها على الأعداء والأصدقاء وتسابق الجميع في كسب مودتها وإقامة العلاقات معها، وشهدت القاهرة نشاطاً سياسياً ضخماً في تلك الحقبة من تاريخ المماليك.
وقد وصف عصر المماليك بأوصاف واتهامات جائرة، فوصف بأنه عصر تدهور واضمحلال، وعصر تخلف وجمود وعصر إجترت فيه العلوم اجتراراً، إلى غير ذلك من الأحكام التي انطلقت من أفواه المستشرقين خاصة، فعلى الرغم من أن الحقائق تشير إلى أن أضخم إنتاج فكري في العصور الإسلامية قد جاءنا من عصر المماليك إلا أن المستشرق الفرنسي جاستون فييت يعده  إنتاجاً من الدرجة الثانية، ويقول عن ذلك: ولكن القاهرة لم تكن في أي وقت مضى مركزاً علمياً في مستوى بغداد وقرطبة، وكانت في القرنين الرابع عشر والخامس الميلاديين ـ الثامن والتاسع الهجريين مركزاً للسياسة والإدارة وبصفة خاصة للتجارة العالمية، ورغم أنها احتفظت بذوقها الفني الرفيع، فإنها في مجال الإنتاج الفكري كانت من الطبقة الثانية، ويصف بروكلمان هذا الإنتاج بأنه، إنتاج يكاد يكون خلواً من الأصالة والإبداع بالكلية، وثم إننا نجد أن عدداً من الباحثين العرب والمسلمين قد انساقوا وراء آراء المستشرقين، فأصيبوا بداء الإعجاب بهم، فانطلقت أكثر أحكامهم من حدود آراء المستشرقين، ولم تنطلق من دراسة علمية متخصصة وموضوعية، وهؤلاء الباحثين الذين ساروا على نهج المستشرقين، كفيليب حتى ابتعدت أحكامهم عن الموضوعية وجاءت مطلقة، كما ورد في رأي بروكلمان الذي جعل العصر المملوكي بطوله وعرضه خالياً من الإنتاج الأصيل المبدع بالكلية وقاصرة كما جاء في رأي جاستون فييت الذي وصل إلى رأي لا أظن أن أحداً من الباحثين يسمع له فيه عندما قصر الحياة الفكرية على مقدمة ابن خلدون وحدها في عصر امتد قرابة قرون ثلاثة، وخلَّف العشرات من العلماء الذين يُشار إليهم بالبنان ويعرفهم الصغير والكبير، لقد حاول غالبية المستشرقين أن يصفوا عصر المماليك بعصر الإنحطاط وتخلف وجمود بدافع من الجهل أو الحقد أو كليهما ثم تابعهم كالعادة بعض المؤرخين والعلماء المحسوبين على ثقافتنا وحضارتنا ورددوا هذه الأقاويل حتى وسموا عصر المماليك كله بالتخلف والإنحطاط والهجين والفوضى، والإنحلال، والواقع أن هذا الرأي الذي يؤيده غالبية المستشرقين ـ كما تتشدق به غالبية المستغربين من أهل المشرق ـ ينطلق من حقد الغربيين الدفين على المماليك الذين دمروا الصليبيين وأجلوهم عن الشام، كما دمروا حلفاؤهم المغول، وحفظوا لبلاد الشام والأماكن المقدسة فيها والحجاز إستقلالها قرابة ثلاثة قرون في فترة زمنية قياسية.
إن الحقائق التاريخية تثبت للباحثين المنصفين، بأن عصر المماليك لم يكن بحال من الأحوال عصر إنحطاط، بل هو الذي ظهرت فيه حضارة عظيمة في مختلف نواحي الحياة، لقد كان عصر المماليك هو العصر الذهبي في العمارة الإسلامية، وهذا يبدو اليوم بوضوح تام في القاهرة التي سميت بمدينة الألف مئذنة والتي تنتشر فيها الآثار المملوكية الهائلة بدءاً من البيمارستان المنصوري إلى جامع السلطان حسن، وخانقاه بيبرس الجاشنكير ومسجد الأمير أيبك ومسجد الغوري وغير ذلك، وأما الذين لم يزوروا القاهرة، فبإمكانهم مشاهدة الآثار المملوكية في دمشق مثل الدراسة الظاهرية، والجقمقية التي بجوارها، وبين هذه وتلك يمكنهم مشاهدة نموذج رائع من نماذج العمارة المملوكية وهو المئذنة الغربية من مآذن الجامع الأموي التي أمر ببنائها السلطان قايتباي بعد حريق الجامع الأموي 884هـ وتم ذلك في بضعة شهور.
وفي ميدان الفكر قد امتاز العصر المملوكي بأنه عصر الموسوعات الكبرى في الآدب والتاريخ والتفسير والفقه والحديث وغيرها، ففي علوم الدين والفقه والحديث نجد الموسوعات الضخمة للإمام النووي وابن تيمية وابن رجب والبدر العيني وابن حجر، وفي التاريخ نجد اليونيني والبرزالي وابن كثير وابن خلدون وابن تغري بردي والنويري وفي الموسوعات العلمية نجد مسالك الأبصار، وصبح الأعشى، وخطط المقريزي وغيرها، وهؤلاء وأمثالهم حفظوا لنا التراث الإسلامي بالدرجة الأولى ثم زادوا عليه حتى أصبحنا اليوم نعرف أدق التفاصيل عن القاهرة في عصر المماليك، وهناك جانب آخر من الحضارة المملوكية لم يلتفت إليه الكثيرون ونعني به الجانب العسكري، ذلك أن الانتصارات المذهلة التي حققها المماليك على برابرة الشرق والغرب أي على المغول والصليبيين في غضون أربعة وأربعين عاماً فقط من سنة 658هـ ـ 702هـ فقد تحققت بسبب الشجاعة والعقيدة ونتيجة ازدهار ما يسمى بلغة اليوم بالصناعات الهندسية والعسكرية، التي مكنت المسلمين من تحرير قلعة عكا في فلسطين، وهو الفتح المبين الذي لم يكن في أهميته عن فتح القسطنطينية فيما بعد بشهادة الغربيين أنفسهم لقد كانت دولة المماليك من حيث طبيعتها إمتداداً طبيعياً للأيوبيين ولمن سبقهم من الملوك والسلاطين، فهي دولة عريقة الحضارة، أعجمية الحكام، تقود الجهاد الإسلامي في وجه الخطر الذي كان يتهدد المسلمين، ومن الأوهام التي تأثر بها كثير من الباحثين هو أن تدمير المغول لبغداد عام 656هـ ـ 1258م كان نهاية الحضارة الإسلامية، ولذلك لا يتطرقون إلى ذكر شيء من إبداعات عصر المماليك وإنجازاته، وهذه فكرة خاطئة ووهم يتطلب الوقوف عنده كثيراً، وسنجيب عنها بإذن الله تعالى في كتبنا القادمة ونبين الحياة العلمية والفكرية وأشهر الأعلام في عهد المماليك.
 إن هذه الأمة تنبض بالحياة، وقادرة على تجاوز المحن العظيمة، وأثبت التاريخ بشواهده ووقائعه بأن طاقاتها الكامنة تتفجر عندما تتعرض للمخاطر والشدائد وحينئذ تستجمع قواها وتستثير كوامنها وتظهر ذخائرها وتتصدى للمشاريع الغازية والمصائب القاسية، بإيمان عظيم وصبر جميل حتى يجعل الله من ظلام ليلها صباحاً مشرقاً ونهاراً مضيئاً، قد رأينا الصحابة الكرام، وفتوحاتهم الربانية وسار على هديهم التابعون بإحسان، ولما جاءت جحافل الصليبيين والمغول تصدى لهم السلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك، وكان الإسلام هو المحرك لقادة الجهاد الإسلامي من أمثال عماد الدين، ونور  الدين، وصلاح الدين، وسيف الدين قطز، وركن الدين بيبرس، ومن سار على نهجهم، ولسان حال المسلمين في الماضي وفي الحاضر والمستقبل قول الشاعر:
            أنا مسلمُ أنا مسلمُ
                            هذا نشيدي المُلَهمً
            من أعمق الأعماق
                            أبعث لحنه يترنم
            رُوحي تُردِّدُه وقلبي
                            والجوارح والدَّم
            شوقاً وتحناناً
                            لأمجاد لنا تتكلم
            أنا مسلمُ أنا مسلمُ
                            بالرغم ممن يحقدون
            أنا هاهنا بشريعتي
                            في موكب الحق المبين

وبقول الشاعر:
        أظننت دعوتنا تموت بضربة
                            خابت ظنونك فهي شر ظنون   

        بليت سياطُكَ والعزائمُ لم تزل
                            منا كحد الصارم المسلول
        تالله ما الطغيان يهزم دعوة
                            يوماً وفي التاريخ برُّ يميني
        ضع في يديَّ القيد ألهب أضلعي
                            بالسوط ضع عنقي على السكين
        لن تستطيع حصار فكري ساعة
                            أو نزع إيماني ونور يقيني
        فالنور في قلبي  وقلبي في يدي
                            ربي وربي ناصري ومعيني
        سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي
                            وأموت مبتسماً ليحيا ديني

إن الذين استطاعوا التصدي للمشاريع الغازية، وانتزاع المدن والقلاع والحصون من المغول والصليبيين هم الذين تميزوا بمشروعهم الإسلامي الصحيح، وعرفوا خطر المشاريع الباطنية الدخيلة فتصدوا لها بكل حزم وعزم، إن أية أمة تريد أن تنهض من كبوتها لا بد أن تحرك ذاكرتها التاريخية لتستخلص منها الدروس والعبر والسنن في حاضرها وتستشرق مستقبلها.
إن قراءة التاريخ تضيف للباحث والقائد والزعيم والملك والرئيس أعمار السابقين وأما الوعي بالتاريخ فإنه يوظف ثمرات هذه القراءة في تغيير الواقع، واستشراف المستقبل، ولذلك يستحيل التقدم وينعدم النهوض عند الذين لا يفقهون ولا يتعرفون على سنن الله وقوانينه وعبره وعظاته من خلال التاريخ.
إن النهوض بوجه عام يحتاج إلى سلاح القلم واللسان ولم ينجح مشروع نهضوي عبر التاريخ من غير أقلام قوية أو ألسنة تعبر عن قلوب صادقة تدعو إليه وتنشر مبادئه بين الناس وإيجاد الكتب النافعة في هذا المجال من الضرورات في عالم الحوار والجدال والصراع والممانعة والمطالبة بالحقوق، وهذا يدخل ضمن سنة التدافع في الأفكار والعقائد والثقافات والمناهج وهي تسبق التدافع السياسي والعسكري فأي برنامج سياسي توسعي طموح يحتاج لعقائد وأفكار وثقافة تدفعه، فالحرف هو الذي يلد السيف، واللسان هو الذي يلد السنان، والكتب هي التي تلد الكتائب، إن موسوعة الحروب الصليبية، والتي صدر منها كتاب السلاجقة وعصر الدولة الزنكية، وصلاح الدين الأيوبي، والحملات الصليبية الرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة وهذا الكتاب، قد أجابت عن الكثير من الأسئلة المطروحة على الساحة القطرية والإقليمية والعالمية، وهذه الحقبة من تاريخ الأمة تأتي شاهداً تاريخياً مقنعاً على أن الإسلام قادر في أية لحظة تتوافر فيها النية المخلصة، والإيمان الصادق، والإلتزام المسؤول، والذكاء الواعي واستيعاب فقه السنن والنهوض وقوانين الحضارات وبناء الدول على إعادة دوره الحضاري والقيادي، واخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب((السلطان سيف الدين قطز)) يوم الخميس من تاريخ 17 صفر 1430هـ/ الموافق 12/2/2009م، والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للإنتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده قال تعالى: "ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم" (فاطر، الآية : 2).
ولا يسعني في نهاية هذا الكتاب إلا أن أقف بقلب خاشع منيب أمام خالقي العظيم وإلهي الكريم معترفاً بفضله وكرمه وجوده متبرئاً من حولي وقوتي ملتجئاً إليه في كل حركاتي وسكناتي وحياتي ومماتي، فالله خالقي هو المتفضل، وربي الكريم هو المعين وإلهي العظيم هو الموفق، فلو تخلّى عني ووكلني إلى عقلي ونفسي، لتبلد مني العقل، ولغابت الذاكرة، وليبست الأصابع، ولجفت العواطف، ولتحجرت المشاعر، ولعجز القلم عن البيان، اللهم بصّرني بما يرضيك وأشرح له صدري وجنبي اللهم ما لا يرضيك وأصرفه عن قلبي وتفكيري، وأسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل عملي لوجهك خالصاً ولعبادك نافعاً وأن تثيبني على كل حرف كتبته وتجعله في ميزان حسناتي، وأن تثيب إخواني الذين أعانوني على إتمام هذا الجهد الذي لولاك ما كان له وجود ولا إنتشار بين الناس، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب ألا ينسى العبد الفقير، إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه قال تعالى: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" (النمل ، آية : 19).
وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: "ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم" (الحشر، آية : 10).
(سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك).
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه ، علي محمد محمد الصلابي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين.





الفصل الأول:

قيام دولة المماليك

المبحث الأول: أصول المماليك ونشأتهم:
أولاً: من هم المماليك؟: المماليك، جمع مملوك، وهم من الرقيق الذين كانوا يشترون يستخدمون لأغراض عديدة في المجتمعات منذ القدم، ويعتبر الرقيق الأتراك أول من استخدموا في الجندية في الدولة الإسلامية زمن الأمويين، إذ يذكر الطبري بأن نصر بن سيار، والي الأمويين على خراسان، اشترى: ألف مملوك من الترك وأعطاهم السلاح وحملهم على الخيل، وكانت بلاد ما وراء النهر المصدر الرئيسي للرقيق الأتراك، وفي العصر، تزايد إستخدام الأتراك في وظائف الدولة إضافة وإستخدامهم في الجيش، وتوسعت أسواق النخاسة البيضاء، من شبه جزيرة القرم، وبلاد القوقاز والقفجاق ,آسيا الصغرى وتركستان وبلاد ما وراء النهر، وكان فيهم عنصر الأتراك، وفيهم الشراكسة والروم والأكراد وبعضهم من البلاد الأوربية أيضاً، وكان الخليفة المعتصم العباسي (218 ـ227هـ/ 833 ـ 842م) أول من شكل فرقاً عسكرية ضخمة منهم وأحلهم مكان العرب الذين أسقط أسماؤهم من ديوان الجند، وقد بلغت مماليك الخليفة المعتصم بضعة عشر ألفاً، وقد امتلأت بهم بغداد مما أدى إلى اصطدامهم بالناس في الطرقات، وأثار سخط أهل العاصمة، فبنى لهم مدينة سامراء لتكون عاصمة لهم، ومقراً لجيوشه التركية من المماليك والأحرار، وقد استخدم المعتصم الجيش التركي تخلصاً من النفوذ الفارسي والعربي في الجيش والحكومة سواء، وقد لجأ إلى الأتراك بالشراء والتربية والإعداد إعتقاداً منه بأنه مجردون من الطموح الذي اتصف به الفرس، ومن العصبة التي عرف بها العرب. ولكن سرعان ما أخذ أولئك المماليك في التدخل في شئون الدولة حتى أمست في أيديهم يفعلون بها ما يشاؤون، وأصبح الخليفة منذ مقتل المتوكل سنة 247هـ/861م في أيديهم كالأسير، إن شاؤوا خلعوه وإن شاؤوا قتلوه، وهكذا أصبح هؤلاء الجنود عنصر تمرد ضد الخلفاء فأساؤوا التصرف في شئون الإدارة والحكم فانفضت الولايات من حول العاصمة، وكان من الطبيعي أن يزداد نفوذ الترك في الخلافة العباسية، بعد أن صار منهم الجيش والقادة، فلما ضعف سلطان الخلافة طمع عمال الأطراف إلى الاستقلال بولاياتهم، وصار الجيش وقادته من الأتراك وسيلة الخلفاء للقضاء على الحركات الاستقلالية المختلفة، فازداد المماليك الأتراك في الدولة العثمانية أهمية على أهميتهم، وأضحى منهم الولاة والوزراء وأرباب الدولة، والواقع فمنذ العصر العباسي الأول إتخذ مصطلح ((مماليك)) معنى إصطلاحياً خاصاً عند المسلمين، إذ اقتصرت التسمية على فئة من الرقيق الأبيض الذي كان يشترى من اسواق النخاسة، ويستخدم كفرق عسكرية خاصة ومع ضعف الخلافة العباسية في العصر العباسي الثاني، كان من الطبيعي أن تزداد الحاجة للرقيق الأتراك، ذلك أن الدويلات التي انفصلت عن جسم الخلافة مثل الطولونيين، والأخشيديين في مصر، والصفاريين والسامانيين في خراسان وما جاورها، والغزنويين والغوريين في الهند، أقبلوا على شراء الأتراك الإرقاء لتأكيد سلطتهم وبظهور الأتراك السلاجقة على مسرح السياسة في المشرق الإسلامي إزداد نفوذ الأتراك عموماً ذلك أن السلاجقة في الأصل من العناصر التركية، كما أن الدولة السلجوقية زادت من الاعتماد على المماليك الأتراك، ويعد نظام الملك الوزير الكبير للسلطان السلجوقي ألب أرسلان وملكشاه هو أساس النظام التربوي المملوكي في كتابه سياسة نامة، وقد جاء فيه أنه: يجب ألا يثقل على المماليك القائمين على الخدمة إلا إذا دعت الحاجة ولا ينبغي أن يكونوا عرضة للسهام، ويجب أن يتعلموا كيف يجتمعون على الفور مثلما ينتشرون على الفور، ولا حاجة إلى التكليف كل اليوم بإصدار الأمر بمباشرة الخدمة لمن يكون الغلمان، صاحب الماء، صاحب السلاح، والساقي، وأشباه ذلك، ولمن يكون في خدمة كبار الحجاب وكبير الأمراء، ويجب أن يؤمرا بأن يبرز للخدمة في كل يوم من كل دار عدد منهم، ومن الخواص عدد معين، هذا وقد كان للسلطان مماليك صغار، وكان عليهم من الصبيان الخاص رقباء، وعلى طوائفهم من جنسهم نقباء، ونظم نظام الملك وزير السلطان ملكشاه السلجوقي المماليك، وكان أشد الناس تمسكاً بهم، وقد أحاط نفسه بجيش كبير من المماليك عرفوا بالمماليك النظامية نسبة لاسمه، فقوى بهم نفوذه، ويعتبر نظام الملك أول من أقطع الاقطاعات للمماليك الأتراك، وبعد إن كان عطاء الجندي يدفع نقداً صار يعطى إقطاعاً، فتسلم الأرض إلى المقتطعين يضمن عنايتها وعمارتها مما يحفظ قوة وثروة الدولة، كما فتحت القلاع والمدن والولايات للقادة من مماليكهم الذين سموا بالاتابكة، والجدير بالذكر أن الوزير نظام الملك أول من لقب بلقب أتابك، وقد منحه أياه السلطان ملكشاه حين فوض إليه تدبير أمور الدولة سنة 465هـ، وهكذا إتخذ السلاجقة أشخاصاً من كبار المماليك ليكونوا مربيين لأولادهم في القصر ومنحوهم الإقطاعات الكبيرة مقابل قيامهم بشؤونهم وتأديبتهم الخدمة الحربية وقت الحرب، ولكن سرعان ما صار هؤلاء الأتابكة أصحاب النفوذ الفعلي في تلك الإقطاعات وبخاصة عندما ضعفت الدولة وتفككت فاستغلوا بولاياتهم شيئاً فشيئاً، وأقاموا دويلات منفصلة عن جسم الدولة السلجوقية عرفت باسم: دويلات الأتابكة: وكان عماد الدين زنكي أقوى هؤلاء الأتابكة، وأسس دولة ضمت الموصل وحلب وديار ربيعة، وعند وفاة عماد الدين زنكي، خلفه ابنه نور الدين محمود وتوسع بالدولة وضم دمشق وقضى على الدولة الفاطمية، وأصبحت مصر من ضمن الدولة الزنكية، وقد توسعت عن الحديث عن عماد الدين وابنه نور الدين في كتابي عصر الدولة الزنكية، وقد استكثر نور الدين محمود من شراء المماليك الأتراك الذين صاروا يكونون غالبية جيشه، وبعد الزنكيين جاء الأيوبيين فأكثروا من المماليك الأتراك واستخدموهم في الجيش، وتجدر الإشارة أن الجيش الذي قاده أسد الدين شيركوه إلى مصر كان معظمه يتكون من المماليك والأمراء النورية، وقد سمي مماليك صلاح الدين الأيوبي بالمماليك الصلاحية، كما سمي مماليك أسد الدين شيركوه بالمماليك الأسدية، وفي عهد الملك العادل سمي المماليك بالعادلية نسبة إلى العادل، ولما توفي خلفه أبناؤه الأشرف: موسى العادل، والكامل، وغيرهم، ونسب عدد من المماليك لكل واحد منهم، فعرف المماليك الأشرفية، والمماليك الكاملية.
1 ـ نجم الدين أيوب والمماليك: ينسب إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب إدخال تشكيلات جديدة على القوة العسكرية التي كان يتكون منها جيش السلطان الأيوبي، فقد إتخذ جملة من الإجراءات العسكرية تبناها السلطان الملك الصالح نجم الدين لتقوية الجيش الذي كان يترأسه، ومن أهمها: إهتمامه الكبير بشراء المماليك والغلمان الأتراك بشكل لم يسبق له نظير في تاريخ السلطة الأيوبية، فخلا مدة حكمه أضاف إلى الجيش في دفعة واحدة ما تعداه من أكثر من ألف مملوكاً تركياً جلبهم من إقليم التركستان (خوارزم)، ومن مناطق شمالي البحر الأسود وبحر قزوين، وغيرها من الأماكن، وقد أصبح العنصر التركي في عهد الملك الصالح هو الغالبية المتميزة للجيش الأيوبي وسرعان ما شكلوا نواة عسكرية ـ سياسية نشطة تحولت إلى دولة المماليك البحرية، بعد أقل من بضع سنين على وفاة الملك الصالح لتختفي تدريجياً العناصر المتكون منها الجيش الأيوبي، كالبربر والسودان، ومن أهم معالم التطوير في البنية العسكرية الأيوبية في عهد السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب الآتي:
أ ـ الصالحية: وهي القوة العسكرية الجديدة من المماليك الأتراك باسم (الصالحية) نسبة إلى الملك الصالح أيوب نفسه، ومن الواضح أن الملك الاصالح نجم الدين أيوب هو صاحب الفضل في تكوين هذه الفرقة الجديدة من المماليك التي تحمل أيضاً إسم البحرية، والتي قدر لها أن تنهض بدور خطير في تاريخ مصر السياسي لما يقارب من قرنين ونصف، ومما يقوله: ابن تغري بردي نقلاً عن ابن واصل مؤرخ الأيوبيين: اشترى من المماليك الترك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتى صاروا معظم عسكره وأرجحهم على الأكراد وأمرهم، ويبدو أن الملك الصالح أراد أن يشكر المماليك في مساندتهم له للوصول إلى دست السلطنة، ولذلك عمل منهم جيش قوي يسانده في فرض إرادته على الأقاليم الأيوبية بعد أن لمس غدر الطوائف الأخرى من الجند المرتزقة مما دفعه إلى الاعتماد على تلك الفرقة الجديدة وترجيحهم على العناصر الأخرى السائدة، وأما عن السبب في تسميةهذه الفرقة بالبحرية فالمرجح أن ذلك يرجع إلى إختيار السلطان الملك الصالح نجم الدين جزيرة الروضة على بحر النيل مركزاً لهم ولثكناتهم العسكرية وكان معظم هؤلاء المماليك من الأتراك المجلوبين من بلاد القفجاق شمال البحر الأسود ومن بلاد القوقاز، قرب بحر قزوين، وقد كان للأتراك القفجاق، ميزاتهم الخاصة بين طوائف الترك العامة من حيث حسن الطلعة وجمال الشكل وقوة البأس فضلاً عن الشجاعة النادرة، ولا شك في ولاء هؤلاء لسيدهم وقد كانوا قد شكلوا نواة لقوة عسكرية ضاربة في الجيش الأيوبي واحتلوا نتيجة لنيلهم ثقة واعتماد السلطان رتباً عسكرية كبيرة في جيش الملك الصالح نجم الدين أيوب مثل المكانة التي كان يتمتع بها مقدمهم ركن الدين بيبرس والذي لعب دوراً كبيراً في صعود الملك الصالح إلى السلطنة وفيما بعد في المعارك ضد الصليبيين الفرنج وخاصة معركة المنصورة.
ب ـ ثكنات المماليك الصالحية في جزيرة الروضة:
اتخذ الملك الصالح أيوب لمماليكه قاعدة في جزيرة الروضة تعرف قلعة الجزيرة أو قلعة الروضة، وجعلها مقراً لهم وشرع في حفر الأساس وبنائها بين عامي 637هـ/1239م و638هـ/1240م، ولتطوير هذه الثكنات هدم الكثير من الدور والقصور والمساجد التي كانت في الجزيرة وأدخلت في نطاق القلعة مشيداً فيها مبانٍ كثيرة منها ستين برجاً وأقام بها مسجداً وغرس بداخلها أنواعاً شتى من الأشجار، ومن شحنها بالسلاح وآلات الحرب وما يحتاج إليها من الغلال والأزواد والأقوات وقد أنفق السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على عمارتها أموالاً كثيرة، وكان السلطان يقف بنفسه ويرتب ما يعمل بها، وقد عمل كل ذلك من أجل أن ينتقل من قلعة الجبال ويسكن مع مماليكه البحرية.
جـ ـ هل السلطان الصالح نجم الدين هو أول من سمّي المماليك البحرية بذلك؟
إن معظم المؤرخين السابقين والمحدثين أجمعوا عل أن السلطان الصالح نجم الدين أيوب هو أول من رتب المماليك البحرية وأول من سماهم بذلك نسبة إلى بحر النيل الذي أحاط بثكناتهم في جزيرة الروضة، غيرأن هذا الرأي لا يستند إلى أساس صحيح للأسباب التالية:
ـ المؤرخون المعاصرون للصالح أيوب أمثال ابن واصل وأبي شامة لم يشيروا إلى بحر النيل كأصل لكلمة بحرية، هذه النسبة أوردها بعض المؤرخين المتأخرين من أمثال المقريزي وأبي المحاسن.
ـ من المعروف أن الفاطميين من قبل كانت لهم طائفة من الجند تعرف بالغز البحرية، كذلك كان للسلطان العادل الأول جد الصالح فرقة من المماليك، أسماها البحرية العادلية، وهذا يدل على أن الملك الصالح أيوب لم يكن أول من اخترع هذا اللفظ.
ـ يروي الخزرجي أن سلطان اليمن نور الدين عمر بن رسول (ت 647هـ) الذي كان معاصراً للصالح أيوب في مصر، استكثر من المماليك البحرية حتى بلغت عدتهم ألف فارس وكانوا يحسنون الفروسية والرمي ما لا يحسنه مماليك مصر، وكان منهم في حلقته وعساكر أمرائه، هذا النص يدل عل أن لفظ بحرية استخدم في بلاد إسلامية بعيدة كل البعد عن بحر النيل.
ـ أطلق المؤرخون العرب المعاصرون على بعض الفرق المسيحية العسكرية التي جاءت من أوربا إلى الشام أثناء الحروب الصليبية إسم الفرنج الغرب البحرية، فيروي أبو شامة أنه في سنة 593هـ فتح الملك العادل يافا ومن عجيب ما بلغني أنه كان في قلعتها أربعون فارساً من الفرنج البحرية، فلما تحققوا نقب القلعة وأخذها دخلوا كنيستها وأغلقوا عليهم بابها وتجالدوا بسيوفهم بعضهم لبعض إلى أن هلكوا وكسر المسلمون الباب وهم يرون أن الفرنج ممتنعون فألقوهم قتلى عن آخرهم فعجبوا من حالهم. فلفظ بحرية إذن لم يكن جديداً على مصر حينما أنشأ الملك الصالح أيوب فرقته البحرية، بل كان لفظاً عاماً أطلق على المسلمين والمسيحيين سواء، كما استخدم في مصر وفي خارج مصر قبل عهد الصالح أيوب، وهذا يؤيد القول بأن نسبة هذا اللفظ إلى بحر النيل أمر مشكوك في صحته، وأغلب الظن أنه سموا بحرية لأنهم جاءوا من وراء البحار. وجوانفيل الذي حارب المماليك البحرية الصالحية في حملة لويس التاسع وأسر عندهم وتحدث إليهم، وروايته لها قيمتها بصفته رجلاً معاصراً وشاهد عيان، وإذا علمنا أن المماليك البحرية زمن الأيوبيين والمماليك عبارة عن فئة من الغرباء الذين جلبوا من اسواق النخاسة بالقوقاز وآسيا الصغرى وشواطئ البحر الأسود، ثم بحر القرم إلى خليج القسطنطينية ومنه إلى البحر الأبيض المتوسط، حيث يسيرون فيه إلى ميناء الأسكندرية أو دمياط تأيدت لدينا عبارة جوانفيل.

ثانياً: نظام التدريب والتربية والتعليم للمماليك:
كان الصالح أيوب ـ ومن تبعه من الأمراء ـ لا يتعاملون مع المماليك كرقيق، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد كانوا يقربونهم جداً منهم لدرجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم، ولم تكن الرابطة التي تربط بين المالك والمملوك هي رباطة السيد والعبد أبداً، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأبناء عائلته، وهذه كلها روابط تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو العسف، حتى أنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب (الأستاذ) وليس لقب السيد. وكانت المدةالتي يقطعها المملوك ليعتبر منتهياً من تعليمه تمر بمراحل ثلاث:
1 ـ المرحلة الأولى: تبتدئ من الصغر إلى سن البلوغ، حيث كان المماليك يجلبون صغاراً، تحقيقاً لرغبة الملوك والسلاطين ثم يوزعون على طباق القلعة حسب أجناسهم، تحت إشراف جهاز إداري محكم يتولى شئونه في التعليم والتدريب والإعداد العسكري وكان هذا الجهاز يتكون من الموظفين المختصين بشئون الجيش وبخلفيات الأمم التي ينتمون إليها وبالدين الإسلامي الحنيف، فأول ما يبدأ به المماليك في المرحلة الأولى تعليمهم ما يحتاجون إليه من القرآن الكريم، ولكل طائفة فقيه يأتيها كل يوم ويأخذ في تعليمها القرآن ومعرفة الخط والتمرين بآداب الشريعة الإسلامية، وملازمة الصلوات والأذكار، وكان من ضمن المنهج الدراسي الخاص في هذه المرحلة الإهتمام بالتمرينات والألعاب الرياضية مدة من الزمن، وكانت الصلاة تؤدى في أوقاتها تحت المراقبة الدقيقة حتى تؤدى على وجهها الصحيح، وحتى تصبح ملكة عند المماليك من صغرهم، ويؤمرون بحفظ بعض الأدعية المأثورة لتلاوتها في مناسباتها وأهم ما في هذه المرحلة، إبراز التعاليم الدينية في صورة تعلقهم بها، حتى يصبح أحب شئ إليهم هو الجين والأخلاق الفاضلة.
إن الفقهاء والعلماء والمؤدبين الذين أشرفوا على تربية المماليك ساروا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستفادة من القرآن الكريم وتربية الأتباع على معاني العقيدة الصحيحة والتصور الصحيح عن الله عز وجل، ومن أهم الجوانب التي إهتمت بها التربية الدينية في هذا الجانب:
ـ إن الله منزه عن النقائص موصوف بالكمالات التي لا تتناهى فهو سبحانه الواحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
ـ وأنه سبحانه خالق كل شئ ومالكه ومدبر أمره "ألا له الخلق والأمر" ((الأعراف ، آية: 24)).
ـ وأنه تعالى جدّه مصدر كل نعمة في هذا الوجود، دقت أو عظمت، ظهرت أو خفيت "وما بكم من نعمة فمن الله" (النحل ، آية : 53) .
ـ وأن علمه محيط بكل شئ، فلا تخفى عليه خافية  في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى الإنسان وما يعلن: "وأن الله قد أحاط بكل شئ علماً" (الطلاق ، آية : 12).
ـ وأنه سبحانه يخفي على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب "مال هذا الكتاب  لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلاأحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً" (الكهف ، آية : 49".
ـ وأنه سبجانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون، وما يهوون ليعرف الناس معادنهم، من منهم يرضى بقضاء الله وقدره ويسلم له ظاهراً وباطناً فيكون جديراً بالخلافة والإمامة  والسيادة، ومنهم من يغضب، ويسخط فلا يساوي شيئاً ولا يسند إليه شئ "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" (الملك ، آية : 2".
ـ وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه ، ولاذ بحماه، ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر: "إن وليّ الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين" (الأعراف ، آية : 196).
ـ وأنه سبحانه، حدد مضمون هذه العبودية وهذا التوحيد في القرآن الكريم.
إن تربية أفراد الأمة على المعاني الإيمانية والتصورات الصحيحة خطوة مهمة في نهوض الأمة وتحتاج التذكير والتعليم والتربية لكل أفراد المسلمين، وقد ظل صلى الله عليه وسلم يطرق مع أصحابه هذه الجوانب ويكررها عليهم وعلى من آمن به ويفتح عيونهم عليها من خلال الكتاب المنظور والكون المسطور حتى خشعت قلوبهم وسلمت أرواحهم وطهرت نفوسهم، ونشأ لديهم تصور وإدراك لحقيقة ومضمون الألوهية يخالف تصورهم الأول وإدراكهم القديم.
واهتم صلى الله عليه وسلم بغرس حقيقة المصير وسبيل النجاة لأصحابه مؤقناً أن من عرف منهم عاقبته وسبيل النجاة والفوز في هذه العاقبة، سيسعى بكل ما أوتي من قوة ووسيلة لسلوك هذا السبيل، حتى يظفر غداً بهذه النجاة وذلك الفوز، فقد ركز صلى الله عليه وسلم في هذا البيان على الجوانب التالية:
ـ إن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال، ,أن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير: "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون" (يونس ، آية : 24" "قل متاع الدنيا قليل" (النساء ، آية : 77".
ـ وأن كل الخلق إلى الله راجعون، وعن أعمالهم مسئولون ومحاسبون وفي الجنة أو في النار مستقرون، "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" (القيامة ، آية : 63).
ـ وأن نعيم الجنة ينسي كل تعب ومرارته في الدنيا وكذلك عذاب النار ينسي كل راحة وحلاوة في هذه الدنيا: "أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون" (الشعراء ، آيات : 205 ـ 207) ، "كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية" (الحاقة ، آية : 24).
ـ وأن الناس مع زوال الدنيا واستقرارهم في الجنة، أو في النار سيمرون بسلسلة طويلة من الأهوال والشدائد "يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئٌ عظيم * يوم يرونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى  وما هم بسكارى ولكنَّ عذاب الله شديد"(الحج ، آيات : 1 ـ 2)، وقال تعالى: "وكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً * السماء منفطر به كان وعده مفعولاً" (المزمل ، آيات : 17 ـ 18).
ـ وسبيل النجاة من شر هذه الأهوال ومن تلك الشدائد والظفر بالجنة والبعد عن النار، وبالإيمان بالله تعالى وعمل الصالحات إبتغاء مرضاته "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير" (البروج ، آية : 11).
ـ ومضى صلى الله عليه وسلم كذلك يبصرهم ويذكرهم بدورهم ورسالتهم في الأرض، ومنزلتهم ومكانتهم عند الله، وظل صلى الله عليه وسلم معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم ما لهم عند الله وما دورهم ورسالتهم في الأرض، وتأثراً بتربيته الحميدة تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس أصحابه فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكل ما في وسعهم وما في طاقتهم دون كسل أو توان، ودون كلل أو ملل، ودون خوف من أحد إلا من الله، ودون طمع من مغنم إلا أداء هذا الدور وهذه الرسالة، لتحقيق السعادة في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة.
إن الفقهاء والعلماء الذين تولوا مهام تربية وتعليم المماليك في نهاية عهد الدولة الأيوبية حرصوا على الإعداد الرباني وكانت خطواتهم تتم بكل هدوء وتدرج وانصبَّت أهدافهم التربوية على تعليم الكتاب والسنة وتلاوة القرآن الكريم وتطهير النفوس من أمراضها وإعداد الأفراد لتحمل تكاليف الجهاد والدفاع عن حياض الإسلام والهجوم على أعدائه وقد غرست تلك التربية الكثير من القيم الأخلاقية، كالإخلاص لله والصبر، والتوكل والاستعانة وكثرة الدعاء والثبات والخوف والحذر من الله عز وجل، وكان لهذه التربية المتميزة أثرها على أطفال وشباب المماليك فنشأوا على تعظيم أمر الدين الإسلامي، وتكونت لديهم خلفية واسعة عن الفقه الإسلامي، وأصبحت مكانة العلماء عالية عند المماليك طيلة حياتهم وهذا من أسباب النهضة الحضارية الثقافية العلمية الراقية التي وجدناها في عهد المماليك.

2 ـ المرحلة الثانية:  وهي التي تبتدئ بسن البلوغ حيث يشرع في تعليمه فنون الحرب من رمي السهام ولعب الرمح والضرب بالسيف وركوب الخيل، ويراعى في هذ المرحلة الأخذ بشدة، فلا يتسامح مع المملوك إذا أخطأ ةإنما يعاقب عقاباً قاسياً إذا بدا عليه الشذوذ في أخلاقه أو الانحراف عن المبادئ الدينية، ثم يقسمون إلى فرق يتولى كل منهم معلم في العلوم الرياضية والتدريبات العسكرية، فيتمرنون على فنون من الرياضة العنيفة مثل  السباحة والعوم لمسافات طويلة والمبارزة، ولعب الكرة راجلين وراكبين، وأما في أوقات الفراغ فإنهم يتركون إلى هواياتهم العملية أو الدينية أو الأدبية، ومن هنا ندرك السر في ظهور عدد من المماليك في صفوف الفقهاء والشعراء والكتاب البارزين.
وقد كان لهم خداماً وأكابر من النواب يفحصون الواحد منهم فحصاً شافياً ويؤخذونه أشد المؤاخذة ويناقشونه على تحركاته وسكناته فإن عثر أحد مؤدبيه الذي يعلمه القرآن أو رأس النوبة الذي هو حاكم عليه على أنه اقترف ذنباً أو أحل برسم أو ترك أدباً من آداب الدين أو الدنيا قابله على ذلك بعقوبة شديدة بقدر جرمه فلذلك كانوا سادة يدبرون الممالك وقادة يجاهدون في سبيل الله وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل ويردعون من جار أو تعدى.
3 ـ المرحلة الثالثة: وهي مرحلة ظهور المواهب العسكرية، ووضوح الاتجاهات والكفايات السياسية، وفي هذه المرحلة تعقد المبارزات بين المماليك، لمعرفة مقدار المهارة الفنية والعسكرية في صفوفهم، ثم يرسلون إلى ميادين القتال ليعرف بلاؤهم هناك، ثم يكافأ المبرزون منهم بمنحهم الحرية، وعتقهم من الرق، وهناك من يبقى في الرق مع تولي المناصب كالذين باعهم سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام ثم اعتقهم ووضع اثمانهم في بيت مال المسلمين، ويوضعون في وظائف عسكرية صغيرة، يترقى فيها المملوك حتى يبلغ الإمارة،فيمنحه السلطان لقبها، ثم يترقى في سلكها، حتى يصل إل كبريات المناصب في الدولة وكثيراً ما كانت ترتفع به مواهبه وعبقريته إلى منصب السلطنة ورياسة الدولة، وبفضل الله ثم هذه التربية المتميزة نبغ من بين هؤلاء من خلّد التاريخ بطولاتهم، وسجل على صفحاته امجاداً عظيمة للمسلمين من تصديهم للمشروع المغولي والقضاء على الوجود الصليبي في ديار المسلمين، يقول بروكلمان في شأنهم: وعدت الاجيال التالية عصر بيبرس كما عدت عهدي الرشيد وصلاح الدين ـ أحد العصور الذهبية في الإسلام.
4 ـ نظام الأكل والثياب والراحة: كان لتعليم المماليك نظام دقيق، فليس لهم أن يخرجوا من مقرهم، إطلاقاً، لا سيما ليلاً، وكان عليهم أن يذهبوا إلى الحمام يوماً في الأسبوع، ويكون أكلهم اللحم والأطعمة والفواكه والحلوى، والفول المسلوق وغير ذلك، وكانوا يتسلمون كسوات فاخرة، وقد يأخذون مرتباً قليلاً قد يصل إلى ثلاث أو عشرة دنانير في الشهر، وكان السلطان يذهب ليتفقد أحوالهم من طعام وغيره، ولكن منذ عهد السلطان برقوق سمح للمماليك بالخروج من الطباق والمبيت خارجها في القاهرة، بحيث أصبحت فقط مكاناً لتعليمهم، ويلاحظ المقريزي أن ذلك جرَّ إلى نسيان تقاليد المماليك في التعليم بالطباق وأنهم أخلدوا إلى البطالة، وسعوا إلى نكاح النساء، حتى صارت المماليك أرذل الناس وأدناهم.
5 ـ نظام التخرج وإنهاء الدراسة: كانت الدراسة في الطباق بين أربعة أو خمسة عشر شهراً، وإن كانت أحياناً تمتد إلى عدة سنين، فإذا إنتهت الدراسة، أعتق المملوك، ويكون الإعتاق بالجملة ويقام له إحتفال خاص يحضره السلطان والأمراء وذلك بناء على شهادة تسمى إعتاق أو عتاقه، فسلم المملوك سلاحاً وفرساً ولباساً خاصاً ((قماشاً)) وإقطاعاً يبقى له مدى الحياة، وحينئذ يسمى عتيقاً أو معتوقاً ـ جمعها معاتيق ـ ومعتقه يسم أستاذه أما رفاقه المتحررون معه، فيسمون خشداشية، مفردها خشداش وكان المماليك المتخرجون يقسمون أقساماً، لكل جماعة منهم باش أو نقيب، أما الذين يصلون إلى الإمارة وهي مرتبة تهيء الوظاف الكبرى الحاكمة في البلاط والجيش أو حتى للسلطنة نفسها وكان من المفروض أن المملوك لا يحصل على الإمارة إلا بعد أن ينتقل من مرتبة إلى مرتبة، فلا يليها إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه وامتزج بروح الإسلام وبرع في الشئون الحربية، بحيث من كان منهم من يصير من كثرة علمه في مرتبة فقيه أو أديب أو حاسب،، لذلك كانوا سادة يديرون المماليك وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة.
6 ـ لغة المماليك: هي اللغة التركية، وهي لغة مملوءة بالفارسية والعربية حتى لو لم يكونوا تركاً، فعدد كبير من سلاطين المماليك وأمرائهم وصلوا إلى السلطنة ووظائفها العالية، دون أن تكون لهم معرفة بالعربية، ومع ذلك، فكثير من المماليك أتقن العربية وأصبح فصيح اللسان، وله مسائل في الفقه عويصة، يرجع له فيها العلماء.
7 ـ رابطة الأستاذية بين المماليك: كانت أقوى الروابط بين المماليك هي رابطة الأستاذية بين الأستاذ ومماليكه الذين اشتراهم وأشرف على تربيتهم وتدريبهم، كما كان يوليهم عناية كاملة، بل إن الأستاذ كان يتناول طعامه مع مماليكه ويحرص على مجالستهم وزيادة أواصر العلاقة بينه وبينهم لكي يضمن ولاءهم وكان الملك المنصور قلاوون يخرج في غالب أوقاته إلى الرحبة عند استحقاق حضور الطعام للمماليك ويأمر بعرضه عليهم ويتفقد لحمهم ويختبر طعامهم في جودته ورداءته، فإن رأى فيه عيباً اشتد على المشرف والاستادار، ونهرهما، وحلَّ بهما أي مكروه. وكان يقول: كان الملوك يعلموا شيئاً يذكرون به ما بين مال وعقار، وأنا عمرت أسواراً، وعملت حصوناً مانعة لي لأولادي وللمسلمين، وهما المماليك، وكانت المماليك تقيم بهذه الطباق. لا تبرح فيها. وهذا النص يكشف عن أحد أركان المؤسسة المملوكية والعلاقات داخلها، فالسلطان ـ وهو مملوك في الأصل ـ يدرك أهمية المماليك في حماية عرشه وأسرته، ويصفهم بأنهم مثل الأسوار والحصون المانعة، كما أنهم عمل يخلد اسمه بين الملوك والحكام. ومن ناحية أخرى يكشف هذا النص عن أسباب قوة رابطة (الأستاذية) التي ربطت برابطة الولاء الشخصي بين السيد ومماليكه، فواجبه أن يرعاهم ويغدق عليهم ويعتني بهم، وواجبهم أن يحموه وأن يصونوا عرشه ويدافعوا عن أسرته.
8 ـ رابطة الخشداشية (الزمالة): وهي من اقوى الروابط القائمة على الولاء الشخصي في الدولة، وتفسير ذلك أن هؤلاء الذين جلبوا أطفالاً، ثم عزلوا عن المجتمع في معسكرات صارمة القوانين،وعاشوا حياتهم الباكرة في سن الشباب سوياً، لم يكونوا يجدون الأمان والطمأنينة سواء مع بعضهم البعض، ولهذا تميزت الفرقة المملوكية بالطائفية القائمة على الولاء الشخصي، فالمماليك كانوا عادة ينسبون إلى السلطان الذي إشتراهم، فالمماليك الظاهرية مثلاً نسبة إلى الظاهر بيبرس، والمعزية نسبة إلى المعز آيبك، والناصرية نسبة إلى الناصر محمد بن قلاوون، وهكذا، ومن ناحية أخرى أدى هذا إلى زيادة نسبة الصراعات الدموية في سبيل الوصول إلى الحكم.
ولقد أحسن السلاطين الذين جمعوا بين التربية الدينية والتدريب العسكري للمماليك في معسكراتهم، ولذلك نجد هؤلاء المقاتلين الأفذاذ في الفترة الأولى من عهد المماليك يتميزون بالحماسة والغيرة على البلاد والمقدسات الإسلامية وهو الأمر الذي تجلى واضحاً على تصديهم للمشروع المغولي وقضائهم على الوجود الصليبي في بلاد الإسلام.
9 ـ هل هؤلاء أجلاب؟: لا يمكن أن نتخيل مدلول كلمة ((المماليك)) بمعنى الرقيق المجلوب من أسواق النخاسة بالنسبة لكل هؤلاء المماليك، لأننا نعلم أن جماعات من الأتراك الفارين من وجه المغول إلى الشرق الأدنى دخلوا في خدمة سلاطين مصر، ولم تمض سوى فترة وجيزة حتى نشأ بين هذه الجموع التركية، جيل جديد من الحكام، بسط سلطانه على مصر وسوريا حتى الفتح العثماني، كما أن بعض هؤلا المماليك، كان من سلالة ملكية يتصل في نسبه إلى ملك خوارزمشاه، مثل السلطان ((قطز)) بطل موقعة عين جالوت،ولقد كفل نظام تربيتهم الدقيق، الذي يفوق نظام الداخلية الآن في أي مدرسة أو جامعة أو كلية عسكرية كفل لهؤلاء القوم، صيانة مركزهم الأدبي، كما أتى ثماره في الحفاظ على أخلاقهم، وأتاح فرصة الظهور في المجالات المختلفة مما عاد على البلاد بالخصب والغنى، وعلى العلم والثقافة والفنون، بما فاق كل إنتاج علمي وثقافي وفني في العالم الإسلامي.
10 ـ الكليات العسكرية الحديثة: إن الدول العربية والإسلامية في يومنا هذا، عليها أن تعيد النظر في عقيدة جيوشها، وأن تربي المنتسبين إليها على العقيدة الصحيحة، والعبادة السليمة والأخلاق الفاضلة، وتجارب الحروب في تاريخ أمتنا، وسنن الله في إنتصار الأمم وهزيمتها،وهذا يحتاج إلى إعادة النظر في برامج الدراسة، والقائمين عليها، ولا ننسى أبداً أهمية الاستفادة من التكنولوجية المعاصرة، والحرب النفسية وتطوير السلاح ومعرفة أسراره والعمل بقول الله تعالى: "واعدوا ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون" (الأنفال ، آية : 60).
11 ـ الشيخ عز الدين عبد السلام بائع أمراء المماليك: رأى الشيخ عز الدين عبد السلام أن المماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين واستغلهم في خدمته وجيشه، وتصريف شئون الدولة يمارسون البيع والشراء وهو تصرف باطل، لأن المملوك لا ينفذ تصرفه، فأخذ سلطان العلماء لا يمضي لهم بيعاً ولا شراء، فضايقهم ذلك وشجر بينهم وبينه كلام حول هذا المعنى فقال لهم بائع الملوك: أنتم الآن أرقاء لا ينفذ لكم تصرف، وإن حكم الرق مستصحب عليكم لبيت مال المسلمين، وقد عزمت على بيعكم فاحتدم الأمر، وبائع الملوك مصمم، لا يصحح لهم بيعاً ولا شراء، ولا نكاحاً، فتعطلت مصالحهم، وكان من جملتهم نائب السلطان الذي اشتاط غضباً، واحمر أنفه، فاجتمع مع شاكلته، وأرسلوا إلى بائع الملوك، فقال: نعقد لكم مجلساً وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه، فلم يرجع فخرجت من السلطان كلمة فيها غلظة حاصلها الإنكار على الشيخ ـ رحمه الله ـ في دخوله في هذا الأمر، وإنه لا يتعلق به، وهنا أدرك الشيخ العز أن أعوان الباطل تمالؤوا عليه ووقفوا في وجه الحق وتطبيق الشرع، وتنفيذ الأحكام التي لا تفرق ـ في الدين ـ بين كبير وصغير، وحاكم ومحكوم وأمير ومواطن، فلجأ إلى سلاحه الضعيف الباهت في ظاهره القوي الفعال المدمر في حقيقته وجوهره وسنده، وأعلن الإنسحاب وعزل نفسه عن القضاء وقرر الرحيل عن القرية الظالم أهلها والتي ترفض إقامة شرع الله، ونفذ العز قراره فوراً، وحمل أهله، ومتاعه على حماره وركب حماراً آخر وخرج من القاهرة، وما انتشر الخبر بين الناس في مصر حتى تحركت جموع المسلمين وراءه فم تكن إمرأة ولا صبي ولا رجل لا يؤوبه إليه بتخلف، ولا سيما العلماء والصالحين، والتجار، وأمثالهم ولسان حالهم يقول: لا خير في مصر إن لم يكن فيها العز بن عبد السلام وأمثاله، القائمون بالكتاب والسنة والآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، والمجاهدين في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، ولا شماتة شامت، ورفعة التقارير حول هذه الظاهرة إلى القاهرة، وكانت التوصيات: متى راح ذهب ملكك فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فرجع أن ينادى على ملوك مصر وأمرائها ويبيعهم، وأرسل إليه كبيرهم ـ نائب السلطان ـ بالملاطفة والشيخ لم يتغير، لأنه يريد إنفاذ حكم الله، عندئذ إنزعج نائب السلطان وأصدر قراره بتصفية الشيخ جسدياً وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض والله لأضربنه بسيفي هذا بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف في يده صلتاً وطرق الباب فخرج إليه ولد الشيخ، فرأى أمراً جلداً، وعاد إلى أبيه، وأخبره الحال، فقال بائع الأمراء ممتلئاً إيماناً بربه، قائلاً لولده: يا ولدي: أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، فلما رآه نائب السلطان اهتزت يده وارتعدت فرائصه وسقط أرضاً، فبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له قائلاً: يا سيدي، خيراً أي العمل؟ فقال الشيخ أنادي عليكم وأبيعكم، قال نائب السلطان: ففيما تصرف ثمننا؟ قال الشيخ: في مصالح المسلمين قال ناب السلطان: من يقضيه؟ قال الشيخ: أنا وأنفذ الله أمره على يد الشيخ ـ رحمه الله ـ فباع الأمراء منادياً عليهم واحد تلو الآخر وغالى سلطان العلماء في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير التي تعود بالنفع على البلاد والعباد. ومن هنا عرف الشيخ العز بأنه (بائع الملوك) واشتهر أمره في الآفاق، وسجل له التاريخ موقفاً فريداً لم يشهده العالم أجمع، وعلا صوت الحق، وعز العلماء وتم تطبيق شرع الله تعالى، وهزم الباطل وطاشت سهام السلطة والقوة المادية، أمام سلطان الله تعالى، وأحكامه، وصدق على العز حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". وعاد العز إلى عرينه في كنف الله تعالى ورعايته وهو القائل: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفر" (الحج ، آية : 38)، والقائل: "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (يوسف ، آية : 21).

12 ـ عصر الأفذاذ: هذه التسمية انفرد بها على حسب علمي الشيخ محمد محمد حسن شُرَّاب حيث قال: لا أدري من الذي أضاف هذا العصر إلى لفظ (المماليك) ولا أعرف من أول من أعطاهم هذا اللقب، إن كان الذين وضعوا هذا الوصف (المملوكي) هم العرب، فإنهم والله أساءوا إلى من أحسن إلى بلادهم، وإن كان الذين وضعوا هذا الوصف هم الغربيين الأوربيين كان علينا أن نعرف أن الأعداء لا يصفون عهودنا التاريخية إلا بأحسن الصفات إليهم، وأبغض الصفات إلينا، فما كان لنا أن نقلدهم ونسير على هديهم، فالغربيون الصليبيون يحقدون على عصر صلاح الدين، وعلى عصر (الأفذاذ)، وقولهم (المماليك) إنما هو لقب (ذم)، هم يحقدون على هؤلاء الأفذاذ، لأنهم حرموا الصليبيين من تحقيق أطماعهم في العودة إلى القدس، ذلك أن الحملات الصليبية لم تفتر بعد صلاح الدين وذكرنا قول هذا أنهم دخلوا القدس مرتين بعد أن حرره صلاح الدين، وكانت بقيت لهم ممالك وحصون كثيرة على الساحل وهؤلاء الذين نلقبهم (المماليك) هم الذين نظفوا البلاد من الصليبيين وأزالوا آخر مملكة صليبية سنة 690هـ/1291م أي: بعد فتح القدس بمائة سنة.. وهؤلاء الذين نصفهم بالمماليك، هم الذين هزموا أكبر غزو وحشي على البلاد الإسلامية، بعد الغزو الصليبي ألا وهو الغزو المغولي، ومعركة عين جالوت تتحدث عنها الركبان، وتعد رمزاً لقوة الإسلام.. وعهد هؤلاء الأفذاذ العلمي من العهود الزاهرة وآثارهم العلمية والعمرانية شاهدة لتاريخهم المجيد، فقد عددت لهم في القدس وحدها خمس وثلاثين مدرسة لتعليم العلوم النافعة، وعشرات المساجد، والبنايات والأوقاف والأربطة والإصلاحات، إنهم إذا كانوا مماليك، فإنهم في رأيي مماليك الإحسان عل معنى قول الشاعر:
            أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
                            فطالما استعبد الإنسان إحسان

فأولئك أحسوا في قرارة نفسوهم إن الله أحسن إليهم عندما جلعهم مسلمين وحكاماً، فامتلك قلوبهم هذا الإحسان، لم يفخروا بنسب ينتمون إليه، وإنما فخروا بأعمالهم التي خلدتهم، ومن حقهم علينا، أن نلقبهم بأحب الألقاب إليهم في حياتهم، ومن حقهم علينا أن نذكرهم في التاريخ بالصفة التي تدل على الوفاء لهم جزاء ما قدموا للعرب والمسلمين، ومن الأوصاف المناسبة لعصرهم أن نقول: عصر الأفذاذ.

ثالثاً: جهود المماليك في دحر الحملة الصليبية السابعة:
عندما قرر الصليبيون الزحف نحو القاهرة توفي الملك الصالح أيوب، وكانت محنة عظيمة ألمت بالمسلمين، وكان عمره عند وفاته 44 سنة، وقد عهد لولده الملك المعظم تورانشاه ولم يكن موجوداً في مصر، وظهرت على مسرح الأحداث زوجته شجرة الدر وأدركت خطورة إذاعة خبر وفاة زوجها نجم الدين على الجند، فقررت إخفاء خبر الوفاة، ولم يعرف ذلك إلا الخاصة وقدمت وثيقة تحمل توقيع السلطان بتعيين إسمه تورنشاه قائداً عاماً للجيوش ونائباَ للسلطان اثناء مرضه، وخلال ذلك كان الصليبيون يتحركون جنوباً ووصلوا إلى مدينة فارسكور في الثاني عشر من ديسمبر 1249م، ومنها تقدموا إلى شار مساح ثم البرامون واصبح بحر أشمون هو الفاصل بين المسلمين والصليبيين، وعند هذه المرحلة توقفت القوات الصليبية واقامت معسكرها على الضفة الشمالية وعملت على تأمين معسكرها بحفر الخنادق وإقامة المتاريس وظلوا على هذا حوالي شهر ونصف، ثم شرعوا في بناء جسر ليعبروا عليه على الضفة الجنوبية لبحر أشموم، ولم تكن عملية إقامة الجسر بالأمر الهين، فقد أمطرهم المسلمون وابلاً من القذائف ولم يتمكنوا من إقامته وأخيراً نجح الصليبيون في التعرف على مخاضة ـ دلهم عليها أحد العربان وفي رواية أحد الأقباط ، بعدما رشوه بالمال، تمكنوا من العبور إلى المعسكر الإسلامي وكانت خطة الملك لويس أن يعبر هو واخوته وجزء كبير من الجيش المخاضة إلى الجنوب، ويقوم بقية الجيش الصليبي بحراسة المعسكر الصليبي، وبعد إتمام عملية العبور تقوم الفرقة المخصصة للحراسة باستكمال عملية إقامة الجسر، وإذا تم النصر على القوات الإسلامية في المنصورة يتقدم الجيش الصليبي إلى القاهرة، وعبرت القوات الصليبية في عجز الثامن من فبراير عام 1250م وكانت عملية شاقة وبطيئة بسبب عمق المخاضة، وكان في طليعة القوات الصليبية الكونت آرتو الذي شن على القوات الإسلامية المواجهة له هجوماً، وحقق نصراً عليها، وعندما وصلت هذه الأخبار إلى الأمير فخر الدين أسرع بدعوة القوات الإسلامية والتحم مع الصليبيين في معركة عنيفة وقع فيها فخر الدين شهيداً، فغسل بذلك عار إنسحابه من جيزة دمياط واغتر الكونت آرتو بالنصر الذي أحرزه ولم يبال بأوامر الملك لويس التاسع ونصائح القادة الصليبيين بالتريث حتى تتكامل القوات الصليبية وأراد أن ينفرد بشرف النصر لنفسه.

1 ـ معركة المنصورة: اغتر روبرت آرتو بقوته، وتابع زحفه إلى المنصورة لاقتحامها، والقضاء على الجيش الأيوبي، وأعرض عن توسلات الراوية بأن ينتظر وصول الملك والجيش الرئيسي، ونصحه بعضهم بالحيطة والحذر، ثم بادر، باقتحام المنصورة، فأضحت المنصورة ساحة لحرب الشوارع وتولى قيادة المسلمين الأمير بيبرس البندقاري فأقام جنده في مراكز منيعة داخل المدينة، وانتظروا حتى تدفق الصليبيون بجموعهم إلى داخلها، ولما أدركوا أنهم بلغوا أسوار القلعة التي إتخذها المصريون مقراً لقيادتهم، خرج عليهم المماليك في الشوارع والحارات والدروب وأمعنوا في قتالهم، ولم يستطع الصليبيون أن يلتمسوا لهم سبيلاً إلا الفرار، فوقع الاضطراب بين الفرسان ولم يفلت من القتل إلا من ألقى بنفسه في النيل، فمات غريقاً أو كان يقاتل في أطراف المدينة.، وكانت المنصورة مقبرة الجيش الصليبي، وأول إبتداء النصر على الفرنج، وجزع لويس التاسع بتلك الصدمة لكنه تملك نفسه، وبادر إلى إقامة خط إمامي لمواجهة ما توقعه من هجوم، من قبل فرسان المماليك ضد قواته، كما اقام جسراً من الصنوبر على مجرى البحر الصغير عبر عليه النيل مع رجاله ووزع رماته على الطرف البعيد للنهر حتى يكفلوا الحماية للجند عند عبورهم متى دعت الضرورة إلى ذلك، لكن المماليك لم يتركوه وشأنه وبادروا إلى شن هجوم على المعسكر الصليبي وقاد الملك الفرنسي المعركة بنفسه وأجبر المسلمين على التراجع نحو المنصورة، وعلى رغم من الانتصار الصليبي، إلا موقف الصليبيين أخذ يزداد سوءاً بسرعة واضحة، بعد أن قلت المؤن، كما فقدوا نسبة مرتفعة من فرسانهم في معركة المنصورة، وانتشرت الأمراض في معسكرهم، وظل الملك الفرنسي زهاء ثمانية أسابيع، في معسكره أمام المنصورة، آملاً بأن يحدث إنقلاب في مصر، أو يقوم المصريون بثورة على الحكم الأيوبي.

2 ـ تورانشاه يقود المعركة: وصل تورانشاه إلى المنصورة في 17 ذو القعدة 647هـ/21 شباط 1250م بعد أن أعلن سلطاناً في دمشق، وهو في طريقه إلى مصر، فأعلنت عندئذ وفاة الصالح أيوب وسلمته شجرة الدر مقاليد الأمور، فأعد خطة عسكرية كفلت له النصر النهائي على الصليبيين. وكان وصوله إلى مصر إيذاناً بإعادة إرتفاع الروح المعنوية عند المصريين وبين صفوف المماليك وتيمّن الناس بطلعته. وأمر بإنشاء اسطول من السفن الخفيفة نقلها إلى فروع النيل السفلى وأنزلها في القنوات المتفرعة، فأخذت تعترض طريق السفن الصليبية التي تجلب المؤن للجنود من دمياط، فقطع بذلك الطريق عليها وحال دون اتصال الصليبيين بقاعدتهم دمياط، وفقد الصليبيون عدداً كبيراً من سفنهم قدّرتها المصادر بما يقرب من ثمان وخمسين سفينة، انقطع المدد من دمياط عن الفرنج ووقع الغلاء عندهم، وصاروا محصورين لا يطيقون المقام، ولا يقدرون على الذهاب وتشجع المسلمون وطمعوا فيهم وأدرك لويس التاسع استحالة الزحف نحو القاهرة في ظل هذه الاوضاع وبدأ يفكر في العودة إلى دمياط وفعلاً أمر بالإرتداد وأحرق الصليبيون ما عندهم من الخشب وأتلفوا مراكبهم ليفروا إلى دمياط، كما أدرك أن عملية الانسحاب لن تكون سهلة، وأن المماليك سوف يطاردون جيشه لذلك لجأ قبل أن يبدأ بعملية الإنسحاب إلى فتح باب المفاوضات مع تورانشاه على أساس ترك دمياط مقابل أخذ بيت المقدس، غير أن الوقت قد فات على مثل هذه المساومة وكان طبيعياً لأن يرفض تورانشاه هذا الإقتراح وبخاصة أنه علم بحرج موقف الملك، وفي صباح المحرم عام 648 هـ / نيسان عام 1250م بدأت عملية المهندسون الصليبيون على أن يدمروا الجسر الذي أقاموه لإجتياز البحر الصغير فلم يلبث المماليك أن عبروه وراءهم، وقاموا بعملية مطاردة منظمة، وهاجموه من كل ناحية، وبفضل ثبات الملك الفرنسي وحسن إدارته بعملية الإنسحاب، وصل الصليبيون إلى شرمساح عند منتصف الطريق بين المنصورة ودمياط، ولكن كان هذا الملك مريضاً، وأحاط المماليك بجيشه من كل جانب، وراحوا يتخطفونهم، وشنوا عليهم هجوماً عاماً في فارسكور ولم يقو الملك على القتال ، وتم تطويق الجيش بأكمله، وحلت به هزيمة منكرة، ووقع كل أفراده تقريباً بين قتلى وجرحى وأسرى، حيث سيق مكبلاً إلى المنصورة، وسُجن في دار فخر الدين إبراهيم بن لقمان وعُهد إلى الطواش صبيح بحراسته وخُصّص من يقوم بخدمته، وكانت معظم الحرب في فارسكور، فبلغت عدَّة القتلى عشر’ آلاف في قول المقل وثلاثين ألفاً في قول المكثر وأسر من الفرنج عشرات الألوف بما فيهم صناعهم وسوقتهم، وغنم المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى كثرة وأبلت الطائفة المملوكية البحرية ـ لا سيما بيبرس البندقداري ـ في هذه المعركة بلاء حسن وبان لهم أثر جميل.
3 ـ صور من شجاعة المماليك: تعددت صور شجاعة هؤلاء المماليك في التعدي لأعداء الإسلام وشهد التاريخ ببسالة الدور الذي لعبه المماليك في مقاومة الصليبيين فذكر جوانقيل آن الكونت بواتييه والكونت فلاندر وبعض قادة قواتهم كان يرسلون إلى الملك لويس يتوسلون إليه: أن يقصر عن الجريمة لعجزهم عن متابعته لضغط المماليك الشديد عليهم. ويقول ثم جاء للكونتابل جندي كان يعمل صولجاناً ويرتجف خوفاً وأخبره أن الترك قد أحدقوا بالملك وأنه في خطر عظيم فرجعنا، وأبصرنا بيننا وبينه ما لا يقل عن ألف مملوك والملك قريب من النهر والمماليك يدفعون قواته ويضربون السيوف والصولجانات وأرغم القوات الأخرى على التقهقر، وقد وصفهم أحد المؤرخين عن تلك المعركة بقوله: والله لقد كنت أسمع زعقات الترك كالرعد القاصف ونظرت إلى لمعان سيوفهم وبريقها كالبرق الخاطف فلله درهم لقد أحيوا في ذلك اليوم الإسلام من جديد بكل أسد من الترك قلبه من حديد، فلم تكن إلا ساعة وإذا بالأفرنج قد ولوا عل أعقابهم منهزمين وأسود الترك لأكتاف خنازير الأفرنج ملتزمين.
وتضمنت انتصارات المماليك على الصليبيين أنهم استطاعوا الاستيلاء على ثمانين سفينة من سفن الصليبيين بعد أن قاموا بسحب بضعة سفن من سفن المسلمين إلى اليابسة وأنزلوها ثانية إلى الماء على بعد فرسخ من شمال معسكرهم فاستحالت عودة الفرنج الذين ذهبوا إلى دمياط لجلب المؤنة،وتم قتل جميع بحارة الثمانين سفينة كما استولوا على اثنين وثلاثين مركباً مما أضعفهم وطلبوا الصلح.
4 ـ لويس التاسع في الأسر وشروط الصلح:لم يهتم المسلمون كثيراً، بعد إنتصارهم، بأمر دمياط، ونظروا إلى أبعد من ذلك ففكَّروا باسترداد ما بأيدي الصليبيين في بلاد الشام، فاستغلوا وجود الملك الفرنسي في الأسر لتحقيق هذه الغاية، لكن لويس التاسع أجاب بأن هذه البلاد ليست في أملاكه، بل تخص الملك كونراد ابن الإمبراطور فريدريك الثاني، وعبثاً حاول تورانشاه إرغامه على الاعتراف  وأصرَّ لويس التاسع على رأيه، وقال: أنه أسيرهم، ولهم أن يفعلوا به ما يشاؤون، فبادر تورنشاه إلى إغفال هذا الموضوع لكنه قرَّر غزو بلاد الشام، وغالى في شروط الصلح، إذ كان لزاماً على الملك الفرنسي أن:
ـ يفتدى نفسه بأن يؤدي مليون بيزنتة وهذا مبلغ كبير.
ـ يُطلق سراح عدد كبير من الأسرى المسلمين.
ـ يسلم دمياط إلى المسلمين.
ـ يستمر الصلح مدة عشر سنوات.
وافق الملك الفرنسي على هذه الشروط، وأقسم الطرفان على احترامها،، وانتظر لويس لبعض الوقت حيث كانت زوجته تعاني آلام الوضع، وأرسل بعض رجاله إلى دمياط لتسليمها للمسلمين، ودخلت القوات المدينة في السابع من مايو بعدما ظلت في أيدي قوات لويس ما يقرب من عام، ودفع لويس نصف الفدية حسبما اتفق عليه وأطلق سراح الصليبيين من البر الشرقي إلى جيزة دمياط، ثم تابعهم باقي الصليبيين.
وفي يوم الأحد الربع من صفر عام 648هـ الموافق الثامن من مايو عام 1250م أقلعت سفن الفرنج واتخذت طريقها إلى عكا حاملة فلول الحملة بعد أن أنهكتها الهزائم وحلت بها الكوارث.
5 ـ من أسباب هزيمة الصليبيين في الحملة الصليبية السابعة:
ساهمت مجموعة من الأسباب في هزيمة الحملة الصليبية السابعة والتي من أهمها:
أ ـ التطوير العسكري في الجيش الأيوبي.
ب ـ وحدة الصف الإسلامي.
جـ ـ هيبة القيادة الإسلامية.
ح ـ نزول العلماء والفقهاء أرض الجهاد.
خ ـ جهل الفرنجة بجغرافية البلاد الإسلامية.
د ـ خطأ كبير في تقدير العامل الزمني.
ذ ـ العصيان وعدم الطاعة عند الصليبيين.
ر ـ إنحلال الحملة السابعة خلقياً.
ز ـ فتور الروح الدينية عند الصليبيين.
س ـ التهور وقصور النظر.
وقد فصلت في شرح الأسباب المذكورة في كتابي عن الحملات الصليبية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة.
6 ـ من نتائج الحملة الصليبية السابعة: لقد ترتب على هزيمة لويس التاسع عام 1250م/648هـ مجموعة من النتاج من أهمها:
أ ـ إرتفاع شأن ومكانة المماليك: فقد تبين بوضوح الدور البارز الذي قام به المماليك في معركة فارسكور وكيف أن جهادهم أعداء الإسلام كلل بالنجاح، وفي حقيقة الأمر، أن ذلك الدور كان له أثره في ارتفاع شأنهم وبذلك سيصبح لهم السند التاريخي في الوصول إلى العرش، وليس غريباً أن العام الذي شهد الانتصار على الغزاة وهو عام 1250م/648هـ هو ذاته الذي شهد نهاية تورانشاه حريقاً غريقاً لتنتهي الدولة الأيوبية، ويتم إفساح الطريق لدولة المماليك الأفذاذ لتدافع عن الإسلام، بقوة وعزم ونشاط وحيوية جهادية رائعة.
ب ـ عجز فرنسا عن تحقيق أهدافها: والملاحظ أن فعاليات فرنسا في دعم الحركات الصليبية وفي التوجه إلى البعد الأفريقي نالها الخسران المبين وعجزت فرنسا عن صنع واقع حربي وسياسي في المنطقة على حساب الأيوبيين وبذلك تأكد للدارسين كيف أن كافة المحاولات الصليبية لاخضاع مصر سواء في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي/ السادس والسابع الهجريين لم تحقق أدنى نجاح، ولا شك في أن صورة أسرة آل كايبة الحاكمة في فرنسا، ضعف أمرها بين الأسر الحاكمة في أوربا بسبب الهزيمة الشنيعة التي تعرض لها لويس التاسع ووقوعه في الأسر وغير ذلك من النتائج التي ذكرتها في كتابي عن الحملات الصليبية الرابعة والخامسة، السادسة والسابعة.
7 ـ مقتل تورانشاه وزوال الدولة الأيوبية: تباينت الآراء واختلف المؤرخون حول شخصية تورانشاه وتعددت أسباب قتله في نظرهم ولكنهم اجتمعوا على قتله على يد مماليك أبيه البحرية، ويرى المؤرخ المصري الدكتور قاسم عبده قاسم: بالرغم من الإنتصار الإسلامي الرائع على الحملة الصليبية فإن السلطان الأيوبي تورانشاه كان إخفاقاً أيوبياً جديداً مهد الطريق أمام نهاية الدولة الأيوبية وصعود الدولة الجديدة التي شادها المماليك، لقد فشل تورانشاه في الإستجابة للتحديات التي كانت تفرضها الظروف التاريخية وبدلاً من تكريس جهوده لتوحيد المسلمين للقضاء على الخطر الصليبي تماماً، بدأ يدبر للتخلص ((من شجرة الدر )) وكبار أمراء المماليك، وقد ذكر المؤرخون مجموعة من الأسباب أدت لقتل تورانشاه منها:
ـ أن هؤلاء المماليك خدموه أتم خدمة وانتظروا مجازاتهم واعتقد أنه سيملأ فراغ والده ولكنه قدم أمراءه وتوعد مماليك أبيه ـ الذين رباهم كأولاده ـ وقطع أخبازهم ونهب أموالهم ولم يعمل بوصية أبيه تجاههم.
ـ ومن الاسباب التي ذكرت في قتله أن مماليكه أشاروا عليه بصلح الفرنج بعد أن كان ملكهم في يديه حتى لا يحتاج إلى شجرة الدر أو مماليك أبيه لأنهم مسيطرين على الحكم وسولوا له لأن هؤلاء هم أعداءه وأن في صلح الملك وتركه وأخذ الأموال والجواهر صلاح الحال وتسليم دمياط، فشعر أمراء أبيه بتغيره عليهم واستهتاره بما قاسوه حتى وصلوا إلى هذا النصر على الصليبيين فدبروا قتله.
ـ وقيل أن من أسباب قتله أنه كان قد وعد الفارس أقطاي حين ذهب إليه يستدعيه من حصن كيفا أن يؤمره ولم يف بوعده فحقد عليه أقطاي، ولما ذكره بوعده، على لسان بعض خواصه رد قائلاً: أعطيه جباً مليحاً يليق به.
ـ وقيل من أسباب قتل المماليك له أنه تعرض لحظايا أبيه، فلماذا حظايا أبيه وقد كان في عصرمن الممكن الحصول فيه على أكبر عدد من المماليك والجواري والحظايا وكان طبيعياً أن لكل سلطان حظايا، فلم تكن ثروة ثمينة لا يستطيع الحصول على مثلها.
ـ وقيل من أهم أسباب قتله أنه طالب زوجة أبيه شجرة الدر بمال أبيه والجواهر وهددها فخافت منه فتلاقت مخاوفها مع مخاوف زعماء المماليك وغضبهم بعد أن حرمهم السلطان الجديد من إقطاعاتهم فاستقر الرأي على ضرورة التخلص من آخر سلاطين الايوبيين في مصر.
ـ وكان حبه لشرب الخمر أحد تصرفات تورانشاه التي اثارت حنق المماليك البحرية عليه وذكرها معظم من أرخ لتلك الفترة فقد كان يشرب الخمر حتى تدور راسه ويأتي بالشموع ويسميها باسم مماليك أبيه ويطيح بها بسيفه وقد حذره أبوه في وصيته بترك شرب الخمر، ولكن يبدو أنه لم يسمع النصيحة وقد جاء في الوصية: يا ولدي قلدت إليك أمور المسلمين، فأفعل فيهم ما أمرك به الله وبه رسوله يا ولدي إياك والشراب فإن جميع الآفات وما تأتي على الملوك إلا من الشراب.
ـ وذكر ابن العبري أن أحد تصرفات تورانشاه التي أثارت حفيظة البحرية ضده حين علم أن الملكة زوجة الملك لويس التاسع المعتقل لديه ولدت له إبناً في دمياط فسير إليها المعظم عشرة آلاف دينار ذهباً ومهداً للطفل ذهبياً وحللاً ملكية، وغير ذلك من الاسباب والمهم أن نعرف حقيقة هامة وهي أنهم شعروا باختلاف شديد في معاملة السلطان لهم ومعاملة تورانشاه المختلفة فقد كان الملك الصالح يحب مماليكه ويهتم بهم ويغدق عليهم الكثير من الإنفاق وقد بلغ من شدة اهتمامه بهم أنه ذكرهم في وصيته لابنه تورانشاه: الولد يتوصى بالخدم محسن ورشيد والخدم المقدمين لا تغيرهم فما قدمت أحد من الخدم ولا من المماليك إلا بعد ما تحققت نصحه وشفقته واستاذ الدار وأمير جاندار تتوصى بهم وكذلك الحسام لا تغييرهم فإني اعتمد عليهم في جميع أموري، وقد عينت في ورقة عند الأخ فخر الدين عشرين من المماليك تقدمهم وتعطي كل واحد منهم كوس وعلم وتحسن إليهم وتتوصى بالمماليك غاية الوصية، فهم الذين كنت أعتمد عليهم واثق بهم وهم ظهري وساعدي، تتلطف بهم وتطيب قلوبهم وتوعدهم بكل خير، ولا تخالف وصيتي ولولا المماليك ما كنت قدرت اركب فرسي ولا أروح إلى دمشق ولا إلى غيرهم فتكرمهم، وتحفظ جانبهم، وجاء في الوصية: والوصية بجميع الأمراء وأكرمهم واحترمهم وأرفع منزلتهم فهم جناحك الذي تطير به وظهرك الذي تركن إليه وطيب قلوبهم وزيد في إقطاعهم وزيد كل أمير على ما معه من العدة عشرين فارساً، وأنفق الأموال وطيب قلوب الرجال يحبوك وتنال غرضك في دفع هذا العدو، ومن الراجح أن هؤلاء المماليك توقعوا بعد الانتصارات التي حققوها والصعاب التي واجهوها في سبيل تخليص البلاد من ذلك الخطر الصليبي وحفظ البلاد للسلطان وحتى مجيئه وحلفهم له وتنصيبهم إياه سلطاناً على البلاد أن يقدر ذلك الجميل ويكافئهم كما تعودوا من أبيه، ويبدو أن الأمر كان مغايراً تماماً لما توقعوه وبعد أن كان لهم الحل والعقد والأمر والنهي آثر مماليكه ودأب على تهديد هؤلاء ووعيدهم، فلم يستطيعوا تقبل الأمر كما هو فقتلوه، وكانت أكبر أخطاء تورانشاه أنه أقام بنيابة السلطنة الأمير جمال الدين أقوش النجيبي بدلاً من الأمير حسان الدين أبي علي الذي كانت له هيبة في عهد الصالح وهو الذي كان قد أمر الخطباء بالدعوة لتورانشاه على المنابر يوم الجمعة بعد الدعاء لأبيه وهو الذي حرضّ على استدعائه في سرعة حتى لا يتغلب الأمير فخر الدين على البلاد عقب وفاة الصالح، فكان من الممكن أن يسانده ويتقوى به.
8 ـ كيفية مقتل تورانشاه:ونتيجة لبعض التصرفات الغير مسؤولة وعدم أخذ الحيطة اللازمة من تورانشاه قرر المماليك البحرية التخلص من تورانشاه وتزعم المؤامرة مجموعة من الأمراء البحرية منهم فارس الدين أقطاي وبيبرس البندقداري، وقلاوون الصالحي وأيبك التركماني وتم تنفيذ المؤامرة في صباح يوم الأثنين 28 محرم 648هـ / 2 أيار 1250م وكان السلطان آنذاك في فارسكور يحتفل بإنتصاره ويتهيأ لإستعادة دمياط، وجلس على عادته ليتناول طعامه، فتقدم إليه بيبرس البندقداري وضربه بسيفه ضربة تلقاها بيده، فقطعت بعض أصابعه، فأسرع تورانشاه إلى البرج الخشبي الذي أقامه على النيل ليمضي فيه بعض وقته وإحتمى به وهو يصيح، من جرحني؟ فقالوا: (الحشيشية) فقال: لا والله إلا البحرية! والله لا أبقيت منهم بقية، وضمد جراحه، فاجتمع أمراء المماليك، وقرروا قتله وقالوا: بعد جرح الحية لا ينبغي إلا قتلها ودخل ركن الدين بيبرس وفارس أقطاي وغيرهما من أمراء المماليك البحرية إلى البرج وهم شاهرون سيوفهم ففر تورانشاه إلى أعلى البرج، وأغلق بابه والدم يسيل من يده، فأضرموا النار في البرج ورموه بالنشاب، فالقى تورانشاه نفسه من أعلى البرج، وهو يصيح مستنجداً: ما أريد ملكاً دعوني أرجع إلى الحصن يا مسلمين، أما فيكم من يصطنعني ويجبرني، فلم يجبه أحد وأخذ يركض نحو النيل ونبال المماليك تأخذه من كل جانب حتى ألقى بنفسه في الماء على أمل أن يسبح إلى أحدى سفنه الراسية ليعتصم بها، ولكن سرعان ما لحق به اقطاي فقتله، وتركت جثته على شاطئ النيل ثلاثة أيام دون أن يتجاسر أحد على دفنه إلى أن شفع فيه رسول الخليفة العباسي، فحمل إلى الجانب الآخر من النهر ودفن، بعد أن حكم واحداً وستين يوماً،وقيل مدة سلطته بالمنصورة نحو أربعين يوماً، لم يدخل فيها إلى القاهرة ولا طلع قلعة الجبل ولم يعتلي سرير الملك، وبوفاة تورانشاه انقضت دولة بني ايوب بعد أن أقامت إحدى وثمانين سنة وسبعة عشر يوماً، وكان تورانشاه آخر من تولى السلطنة من بني أيوب، على أن بعض المصادر ذكرت أن الدولة الأيوبية بخلع شجرة الدر، فقد ذهب مجموعة من المؤرخين أن حكم شجرة الدر استمراراً للحكم الأيوبي، وأما في بلاد الشام فقد حكم الدولة الأيوبية لعدة سنوات أخرى.

رابعاً: أسباب سقوط الدولة الأيوبية:
إن أسباب سقوط الدولة الأيوبية كثيرة جامعها هو الابتعاد عن تحكيم شرع الله في أمور الحكم وغيرها، فقد وقع الظلم على الأفراد وتورط بعض السلاطين في الترف وحدث بينهم نزاع عظيم سفكت فيه الدماء وأدى ذلك إلى زوالهم، فعندما يغيب شرع الله في أمور الحكم ـ كما حدث في الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين ـ يجلب للأفراد والدولة تعاسة وضنكاً في الدنيا وأن آثار الابتعاد عن شرع الله لتبدو على الحياة في وجهتها الدينية والاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، وأن الفتن تظل تتوالى تترى على الناس حتى تمس جميع شئون حياتهم، قال تعالى : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" (النور ، آية : 63). لقد كان في إبتعاد سلاطين الأيوبيين بعد وفاة صلاح الدين عن تحكيم الشرع في نزاعاتهم وخلافاتهم آثار على أفراد البيت الأيوبي والدولة، فقد أصيبوا بالقلق والجزع والخوف، والشقاق والخلاف ونزع منهم الأمن وأصبحوا في الضنك من الحياة، إن هلاك الأمم وسقوط الدول وزوال الحضارات لا يحدث عبثاً في حركة التاريخ، بل نتيجة لممارسة هذه الأسرة الحاكمة أو الدولة، أو الأمة الظلم والانحراف وبعد أن يعطوا الفرصة الكافية حتى تحق عليهم الكلمة، فيدفعوا ثمن إنحرافهم، وإجرامهم وطغيانهم وفسقهم والآيات صريحة في ذلك، فالله إذا أنعم على دولة نعمة أياً كانت فهو لا يسلبها حتى يكفر بها أصحابها، قال تعالى: "ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الأنفال ، آية : 53)، والآيات في هذا كثيرة سواء ما يخص الفرد أو الأمة، بل أن القرآن الكريم ليذكر أن بعض ما يصيب الأمم والأفراد من استدراج حين يمهلهم الله تعالى وتواتيهم الدنيا، وتفتح عليها خيراتها فينسوا مهمتهم وما خلقوا له، بل ينسون المنعم جل جلاله وينسون ما عندهم لجهدهم وذكائهم، وقد يفلسفون الأمر فيقولون: لو لم تكن نستحق هذه النعم لما منحت لنا، وفي هؤلاء يقول الله تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا لهم ابواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" ( الأنعام ، آية : 44 ـ 45)، لقد نسى هؤلاء أن الله يمنح خيرات الدنيا لمن يطلبها ويجد فيها، قال تعالى: "ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها" (آل عمران ، آية : 45). ولكن هناك من يريد الآخرة بحق ويسعى لذلك فهو الفائز "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموماً مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * وكلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا" (الإسراء ، آيات : 18 ـ 20). وقال تعالى: "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون * ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون" (النحل ، آية : 112 ـ 113). ولنستمع لهذه الدعوة الكريمة "ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين" (هود ، آية : 52). وهناك آيات كثيرة تحاول قطع الطريق على بعض المتفلسفين من أهل الكتاب "ي أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" (المائدة ، آية : 19) ، فكل إنسان وكل مجتمع وكل أمة مسئولة عما يصدر عنها، ولا يتحمل أحد جريرة غيره "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون" (البقرة ، آية : 134). المهم أن الله تعالى لا يحجب نعمة عن أحد، بل يوزعها على المؤمن والكافر، ثم يراقب تصرف الكل فيها، فمن طغى وظلم، ومن كفر بها واستعملها استعمالاً سيئاً فإن العقاب العادل سينزل به في الوقت المناسب، وقد يطول ذلك العهد قبل نزول العقاب ولكنه يكون في الطريق، وبعد هذا وذلك فإنه "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" (البقرة ، آية : 286)، ومثل هذا في الأمم والمجتمعات وعلى مستوى الأفراد فإن الله خلق النصوص ملهماً إياها طريق الخير والشر، يقول تعالى: "ونفسٍ وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها" (الشمس ، آيات : 7 ـ 10). وقال "وهديناه النجدين" (البلد ، آية : 10)، ومن الملاحظ في دراسة أسباب سقوط الدول والحضارات بأنها لا تسقط بسبب واحد كما لا تقوم بسبب واحد، بل بتجمع عدة أسباب لقيامها، وعدة أسباب لتدهورها وسقوطها، بعضها يعمل ببطء، بينما يعمل البعض بسرعة أكبر، ولا تسقط الدولة والحضارة بضربة واحدة، بل بتضافر جملة من العوامل، وهذا ما حدث للدولة الأيوبية التي زالت من الوجود في مصر عام 648هـ وأهم هذه الأسباب في نظري:
1 ـ توقف منهج التجديد الإصلاحي: كان صلاح الدين رحمه الله رجل المرحلة، وجدت فيه صفات عظيمة، ساعده على ذلك الأجواء التي هيأها نور الدينت محمود من حبه للجهاد والعلم وتقريب العلماء، وإشاعة العدل، وسرى هذا في الأمراء والوزراء، ولكن المعضلة الرئيسية التي بقيت هي أن التجديد لم يتحول إلى مؤسسات راسخة إلى إتجاه عام في الدولة حتى لا ينقطع  بوفاة القائد أو المؤسس وذلك يرجع إلى أمور منها:
أ ـ نقص الفقه الحركي الذي وجه نشاطات المدارس الإصلاحية:
فإن مدارس الإصلاح في هذا العصر ركزت نشاطاتها على تحقيق عنصر "الإخلاص" في العمل ، أي أنها ركزت على التربية أكثر من الاستراتيجية، ولذلك لم تفرز ((فقه الحكمة)) اللازم لتنظيم مؤسسات السياسة والإدارة والاقتصاد وتنظيم مسئوليات العاملين فيها وأداهم وحسن إستثمار الموارد البشرية والمادية بما يناسب حاجات المكان والزمان، وإنما اكتفت بـ(فقه) الآباء الذي يركز على ((المظهر الديني للقيادة)) دون ((المظهر الاجتماعي))، وصار شيوخها ومتعلموها يسلكون طريق ((الزهو)) وينتمون إلى مذهب من المذاهب الفقهية التقليدية في آن واحد، ولهذا يوصف الواحد منهم بأنه ـ مثلاً ((قادري السلوك)) ((وشافعي المذهب))، كذلك لم تطرق هذه المدارس ميادين ((الفقه)) المتعلق بالمظهر الكوني للعبادة والمؤدي إلى تطور العلوم الطبيعية، وتسخير تطبيقاتها في ميادين الحضارة المادية المختلفة، وهذا النقص في الفقه السياسي والإداري جعل المنجزات التي حققها جيل صلاح الدين تعتمد على الشخصيات أكثر من فاعلية المؤسسات، فلما غابت الشخصيات القيادية على مسرح الحياة برز تأثير العامل الثاني، أي أثر العصبيات الأسرية والقبلية التي عادت لتوجه مؤسسات الحكم والإدارة بما فيها مدارس الإصلاح نفسها، وهذا التطور السلبي حقق إفراز ظواهر غير إيجابية منها:
ـ حين لم يحد جيل الأبناء فقهاً سياسياً وإدارياً ينظم عملية تعيين الحاكم ومؤسسات الحكم والإدارة إرتد إلى تقاليد العصبية الأسرية والقبلية وروابط الدم التي تعتبر الحكم وقيادة المؤسسات التربوية والعلمية ميراثاً يرثه الأبناء عن الآباء، الأمر الذي أدَّى إلى تفكك الدولة وإنقسامها حيث تقاسم الأبناء ما وحدَّه جيل الآباء، وأداروه طبقاً لتقاليد العصبيات الأسرية التي سبقت جيل صلاح الدين والتي كانت تعتبر أراضي الدولة ومدنها وسكانها إقطاعات يتصرف بها الحكام ويتبادلونها بالبيع والشراء وصفقات الحرب والصلح.
ـ أدى النقص في الفقه السياسي والإداري إلى إنفجار الفتن بين الملوك وأمراء الجيش من ذلك ما حدث بين الملك الكامل وبين عماد الدين أحمد بن المشطوب الكردي الهكاري الذي يصفه ابن خلكان بأنه كان صلاح الدين أطعمه وهو شاب إقطاع نابلس إكراماً لوالده سيف الدين أبو الهيجاء المشطوب الهكاري الذي كان من كبار أمراء الجيش الصلاحي وقادته، فقد اتفق عماد الدين بن المشطوب مع الأكراد الهكارية على خلع الملك الكامل وتمليك أخيه الفايز، ولكن المحاولة لم تنجح ودب الاضطراب في معسكر الجيش الذي كان في مواجهة الصليبيين وانسحب عماد الدين إلى قلعة حران حيث بقي فيها حتى وفاته عام 610هـ، والخلاصة أن الجدب في الفقه السياسي والإداري أفرز ـ بعد جيل صلاح الدين ـ قيادات وإدارات متسلطة فردية عملت على أن تحكم الأمة بقيم القوة فوق الشريعة، والفردية بدل العمل الجماعي، والتسلط بدل الشورى والإرتجال بدل التخطيط.
ـ قامت الدولة الأيوبية على تبني فكرة الجهاد وتحرر ديار المسلمين من الغزو الصليبي، وكانت التغيير العملي على مدى إصالة فكرة الجهاد الإسلامي وعن مدى عمق هذه الفكرة في نفوس المسلمين في كل من مصر والشام وقد انعكس هذا العمق وتلك الأصالة في الصفحات المشرقة التي سجلها بجهاده صلاح الدين، إذا انتقلنا إلى الصورة التي كانت لها في سنواتها الأولى وهذا يعني أنها قد أصبحت في وادي والفكرة التي قامت عليها في وادٍ آخر، ولو قدر واستمرت الدولة الأيوبية بالصورة التي كانت عليها في سنواتها الأخيرة لكان معنى ذلك نهاية أو سقوط فكرة الجهاد الإسلامي وترك الساحة للصليبيين يرسمون مستقبلها ومقدرات شعوبها كما يريدون، وإذن فإن إختفاء الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك مقامها كان التعبير العملي لرفض زوال فكرة الجهاد، ونخلص من هذا إلى القول بأن إختفاء الدولة الأيوبية، وقيام دولة المماليك مقامها كان رفضاً عملياً لسقوط فكرة الجهاد، كما كان أيضاً تأكيداً عملياً لقوة هذه الفكرة وضرورة إستمرارها حتى تحقق أهدافها كاملة، وخير للأجيال أن تستمر الفكرة حتى ولو على حساب سقوط الدولة والرجال مهما كانت درجة التعاطف مع هذه الدول وهؤلاء الرجال
ب ـ ومن الظواهر السلبية: التي ساهمت في توقف حركة التجديد والإصلاح، تسلل قيم العصبية الأسرية إلى مدارس الإصلاح نفسها، إذ يستفاد مما كتبه مؤرخو تلك الفترة كابن الوردي وابن المستوفي، إن الأبناء والأحفاد تسلموا مشيخات هذه المدارس بعد وفاة المصلحين الآباء دون أن يكون لأولئك الأبناء والأحفاد المؤهلات العلمية والدينية والأخلاقية، الأمر الذي أحال مدارس الإصلاح إلى إقطاعات دينية، وعصبيات مذهبية، وأدى إلى إنصراف النابهين المثقفين من صفوفوها وإجتماع العامة فيما عرف باسم ((الطرق الصوفية)) الني إشتقت اسماءها من اسماء الآباء المؤسسين، كالطريقة القادرية والطريقة البيانيه والطريقة الرفاعية التي راحت تركز على الطقوس والأشكال بدل التربية والعلوم والأعمال.

2 ـ الظلم: إن الظلم في الدولة كالمرض في الإنسان يعجل في موته، بعد أن يقضي المدة المقدرة له وهو مريض، وبإنتهاء هذه المدة يحين أجل موته، فكذلك الظلم في الأمة والدولة يعجل في هلاكها، مما يحدثه فيها من آثار مدمرة تؤدي إلى هلاكها، وإضمحلالها من خلال مدة معينة يعلمها الله هي الأجل المقدر له، أي الذي قدره الله بموجب سنته العامة التي وضعها لآجال الأمم بناء على ما يكون فيها من عوامل البقاء كالعدل أو من عوامل الهلاك كالظلم الذي يظهر أثرها وهو هلاكها بعد مضي مدة محددة يعلمها الله، قال تعالى:" ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" ( الأعراف: آية: 34). قال الألوسي رحمه الله في تفسيره هذه الآية(( ولكل أمة أجل)) أي لكل أمة من الأمم الهالكة أجل، أي وقت معين مضروب لاستئصالهم ولكن هلاك الأمم وإن كان شيئاً مؤكداً ولكن وقت حلوله مجهول لنا، أي أننا نعلم يقيناً أن الأمة الظالمة تهلك حتماً بسبب ظلمها حسب سنة الله فلا يمكن لأحد أن يحدد بالأيام ولا بالسنين وهو محدد عند الله تعالى:" ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد* وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادهم غير تتبيت* وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه اليم شديد" (هود: آية: 100 ـ 102). إن الآية الكريمة تبين أن عذاب الله ليس مقتصراً على من تقدم من الأمم الظالمة بل أن سنته تعالى في أخذ كل الظالمين سنة واحدة فلا ينبغي أن يظن أحد أن هذا الهلاك قاصراً بأولئك الظلمة السابقين، لأن الله تعالى لما حكى أحوالهم قال:" وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة" (هود: آية: 102) فبين الله تعالى أن كل من شارك أولئك المتقدمين في أفعالهم التي أدت إلى هلاكهم فلا بد أن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد، فلآية تحذر من خطورة الظلم.إن الدولة الكافرة قد تكون عادلة بمعنى أن حكامها لا يظلمون الناس والناس أنفسهم لا يتظالمون فيما بينهم فهذه الدولة مع كفرها تبقى، إذ ليس من سنته إهلاك الدولة بكفرها ولكن إذا انضم إلى كفرها ظلم حكامها للرعية وتظالم الناس فيما بينهم،تزول قال تعالى:" وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" (هود: آية: 117) قال الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره: إن المراد من الظلم في هذه الآية الشرك والمعنى: أن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين، إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، يعامل بعضهم على الصلاح وعدم الفساد، وفي تفسير القرطبي رحمه الله قوله ((بظلم)) أي بشرك وكفر ((وأهلها مصلحون)) أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق، ومعنى الآية: أن الله تعالى لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى يضاف إليه الفساد كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان وقوم لوط باللواط، قال أبن تيمية رحمه الله في هلاك الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة: أمور الناس إنما تستقيم بالعدل الذي يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة ويقال: إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام وذلك إن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم تقم بالعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة، ولقد حدثت مظالم عظيمة في عهد الأيوبيين، فقد سفكوا الدماء فيما بينهم، فقاتل الأخ أخيه والعم بني أخيه ظلماً وجوراً وتسلطاً على العباد والبلاد وحصرت دمشق وتعرض أهلها للمجاعة بسبب الأهواء والنزوات وإسراف بعض سلاطينهم في المال العام وتم الإعتداء في بعض الأحوال على أموال الرعية بدون وجه حق وقد بينا ذلك في مناسبات عديدة في كتابي (( الأيوبيون بعد صلاح الدين، والحملات الصليبية، الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة)).
3 ـ النزف والإنغماس في الشهوات: قال تعالى: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً مما أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيع وكانوا مجرمين" (هود ، آية : 116)، قال تعالى: "واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه" أراد الذين ظلموا: تاركي النهي عن المنكرات أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما إهتموا بالتنعم والترف والإنغماس في الشهوات والتطلع إلى الزعامة والحفاظ عليها والسعي لها وطلب أسباب العيش الهنئ، وقد مضت سنة الله في المترفين الذين أبطرتهم النعمة وابتعدوا عن شرع الله بالهلاك والعذاب قال تعالى: "وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين* فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون" (الأنبياء ، آيات : 11 ـ 13)، ومن سنة الله تعالى هلاك الأمة بفسق مترفيها قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا" (الإسراء ، آية : 16). وجاء في تفسيرها وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها: أي : متنعميها وجباريها وملوكها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فأهلكناها، وإنما خص الله تعالى المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع، لأنهم أمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سوئهم، إنما وقع بإتباعهم وإغوائهم، فكان توجه الأمر إليهم آكد.
إن أمر بني أيوب مازال مستقيماً في عهد صلاح الدين حتى أفضي أمرهم إلى إبنائه، فوقع بعضهم في الترف وآثروا الشهوات، وأقبلوا على اللذات والدخول في المعاصي والتعرض لسخط الله، والشواهد عل ذلك كثيرة نذكر منها ما كان في عهد الملك الأفضل وفي عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب ما فعله أستاذ الدار وهو كبير أمناء الملك أو الرئيس والذي كان يجمع إلى منصبه إختصاصات الوزير وقاد الجيش في المعارك وفتح دمشق وكان متحللاً وعابثاً ومعتداً بقوته ومنصبه وتجرأ على منكر كبير، يخالف أحكام الدين ويسخر بالشرع ويسئ إلى مشاعر المسلمين، فبني فوق أحد مساجد القاهرة طبلخانة أي قاعدة لسماع الغناء والموسيقى، وقد تصدى لذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام كما بينا ذلك في الكتاب الذي قبل هذا،ومن صور الترف في عهد الدولة الأيوبية التوسع في المآكل والمشارب وما يترتب على ذلك من آفات، وحب التكثر من المال والتوسع في الركوب وفي المسكن والملبس والنكاح لدى بعض أمراء وملوك البيت الأيوبي.
4 ـ تعطيل الخيار الثوري: ضرب الأيوبيون نظام الشورى في الحكم بالحائط ذلك النظام القائم عل حرية الانتخاب وحرية المعارضة والذي كانت القيادة الراشدة نفذته التزاماً بمعطيات القرآن والسنة في هذا المجال ولقد ولدت خطوة الأيوبيين هذه ردود أفعال خطيرة في الدولة الأيوبية، بل أصبح التسلط والغلبة هو الطريق للسلطة والحكم، فهذا الملك العادل بعد أن تغلب على بني أخيه قال لوزرائه ومعاونيه أنه قبيح بي أن أكون أتابكاً مع الشيخوخة والتقدم مع أن الملك ليس هو بالميراث وإنما هو لمن غلب ولقد كان يجب أن أكون بعد أخي السلطان الملك الناصر ـ رحمه الله ـ صاحب الأمر، غير أني تركت ذلك إكراماً لأخي ورعاية لحقه، فلما حصل من الاختلاف ما حصل خفت أن يخرج الملك من يدي، ويد أولاد أخي، فمشيت الأمر إلى آخره، ثم أن الملك العادل ورَّث أبنائه من بعده وحدث قتال بينهم ورجع إلى نظام التوريث الذي كان له سلبيات خطيرة، ساهمت في سقوط الدولة الأيوبية منها:
ـ إن هذا النظام قد سيطرت فيه عاطفة الأبوة والأقرب نسباً وقوة العصبية على عملية التولية بصفة عامة، وقد أدى ذلك إلى الآتي:
تقيد حق الأمة في إختيار سلطان بحصره في أسرة معينة.
تقييد مبدأ الشورى بحصره في أهل عصبية وشوكة الأسرة الحاكمة.
دفعت المفضول إلى تولي السلطنة مع وجود الأفضل، بل وبمن إفتقد بعض شروط السلطنة مع وجود المستجمعين لهذه الشروط وفقاً لما سلف ذكره.
وضع الحكام موضع تهمة وشبهة، كما أشار الشك ـ عند بعض الناس ـ حول مشروعية البيعة بولاية العهد والبيعة للسلطان.
أدى إلى ظهور العداوة والبغضاء بين البيت الأيوبي وذلك مما أدى في النهاية إلى ضمور قوتهم وزوال شوكتهم.
5 ـ النزاع الداخلي في الأسرة الأيوبية:إن سنة الله تعالى ماضية في الشعوب والأمم لا تتبدل ولا تتغير ولا تجامل، وجعل الله سبحانه وتعالى من أسباب هلاك الأمم وزوال الدول الاختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا، وفي رواية ((فأهلكوا))، وعند ابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه: فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، إن من الدروس المهمة في هذه الدراسة التاريخية أن نتوقى الهلاك بتوقي أسباب الاختلاف المذموم، لأن الاختلاف كان سبباً من الأسباب في ضياع الدولة الأيوبية وهلاكها وإندثارها، وكان لهذا الاختلاف الذي وقع في البيت الأيوبي أسبابه منها: ضعف الوازع الديني عند بعض الأمراء الأيوبيين الأنانية وحب الذات والتكالب على المصالح الدنيوية والتناحر من أجلها والحرص على السلطة والجاه والمنصب وتحكيم بعض الأمراء الأيوبيين أهواءهم في الأمور، فهذه الأسباب كانت وقوداً للمنازعات والخلافات التي وقعت بين أفراد البيت الأيوبي، فكانت من أكبر معاول الهدم وأسباب الضعف وتلاشي الدولة، وقد إستقرأ هذه الحقيقة ابن خلدون، حيث ذكر أن من آثار الهرم في الدولة إنقسامها، وأن التنازع بين القرابة يقلص نطاقها، كما يؤدي إلى قسمتها ثم إضمحلالها، لقد بدأ الخلاف المؤثر في الأسرة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين وسرعان ما انغمس الأيوبيون في صراعاتهم الداخلية فلم يحترم الأخ أخيه والعم بني أخيه، واستغل الملك العادل الأيوبي الجهل والطيش الذي إتسم به أبناء صلاح الدين، إذ أنه إستخدم علاقاته القديمة ومكانته لتحقيق هزيمة سياسية وعسكرية لجيش الملك العزيز قبل أن يستل جندي واحد سيفه من غمده، إذ كانت المنافسة قائمة بين الأمراء الصلاحية ((أمراء صلاح الدين)) والأمراء الأسدية، أمراء أسد الدين شيركوه الذين ورثهم صلاح الدين في جيشه، ونجح العادل في الإيقاع بين الفريقين، وقد وصف القاضي الفاضل الخلاف في البيت الأيوبي بقوله: أما هذا البيت فإن الآباء منه اتفقوا فملكوا وإن الأبناء منهم اختلفوا فهلكوا، وإذا غرب نجم فما الحيلة في تشريقه، وإذا بدأ تخريق في ثوب فما يليه إلا تمزيقه، وهيهات أن يسد على طريقه، وقد قدر طروقه، وإذا كان مع خصم على خصم فمن كان معه فمن يطيقه، واستمر الصراع في الأسرة الأيوبية بعد وفاة الملك العادل، حيث اشتد النزاع بين أولاده الملك المعظم والملك الكامل أبناء البيت الأيوبي.
6 ـ مولاة النصارى: من لوازم الإيمان الصحيح الولاء والبراء، فكانت الدولة في عصر صلاح الدين عاملة بقول الله تعالى: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير"(آل عمران ، آية : 28). وقول الله تعالى: "يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارىأولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن لا يهدي القوم الظالمين" (المادة ، آية : 51)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عري الإيمان، الموالاة في الله، والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله، أما في عصر الملك الكامل فضعف الولاء والبراء ويظهر ذلك في تسليم القدس للإمبراطور فريدريك الثاني على طبق من ذهب وبدون إراقة للدماء، وقد استعظم المسلمون ذلك وأكبروه ووجدوا له من الغم والهم والتألم ما لا يمكن وصفه وكان الملك الكامل لديه إستعداد للتحالف مع النصارى لقتال أخيه المعظم الذي تحالف مع الخوارزميين، كما أن الملك الصالح نجم الدين إسماعيل الذي دخل في صلح مع الصليبيين وسلّم لهم أحد الحصون وتصدى الشيخ عز الدين بن عبد السلام وابن الحاجب  فاعتقلهما مدة ثم أطلقهما وألزمهما منازلهما وتحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين لقتال الملك الصالح نجم الدين أيوب في مقابل تسليم القدس وإعادة مملكة بيت المقدس الصليبية إلى ما كانت عليه قديماً بما فيها الأردن، ولكي يبرهن صاحب دمشق على صدق نيته تجاه الصليبيين بادر فوراً بتسليم القدس وطبرية وعسقلان، فضلاً عن قلعة الشقيف وأرنون وأعمالها، وقلعة صفد وبلادها ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالهم وجبل عاملة وسائر بلاد الساحل، وأمام هذا السخاء العجيب ثار الرأي العام الإسلامي في مصر والشام على الصالح إسماعيل، حتى إن حاميات بعض القلاع رفضت طاعة الأوامر الصادرة إليها من الصالح إسماعيل في تلك الأثناء أسرع الصليبيون إلى تسلم بيت المقدس وأعادوا تعمير قلعتي طبرية وعسقلان، ثم رابطوا بعد ذلك بين يافا وعسقلان استعداداً للخطوة التالية وهنا وعدهم الصالح إسماعيل بأنه إذا ملك مصر أعطاهم جزءاً منها، فسال لعابهم لذلك، واتجهوا صوب غزة عازمين على غزو مصر، وسار الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والملك المنصور إبراهيم الأيوبي صاحب حمص على رأس جيوشهما في مهمة غزو مصر.
ولكن قادة القوات الشامية رفضوا طعن إخوانهم المصريين فما كانوا يلتقون بجيش الملك الصالح أيوب قرب غزة حتى تخلوا عن الصالح إسماعيل والمنصور إبراهيم وساقت عساكر الشام إلى عسكر مصر طائعة ومالوا جميعاً على الفرنج فهزموهم وأسروا منهم خلقاً لا يحصون، وهكذا تحالف الملك الصالح إسماعيل مع الصليبيين وتنازل لهم على مدن المسلمين من أجل الحكم والسلطان، إن بعض ملوك بني أيوب أمنعوا في موالاة النصارى الصليبين وألقوا إليهم بالمودة وركنوا إليهم واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين وعملوا على اضعاف عقيدة الولاء والبراء في الأمة وأصابوها وفقدت أبرز مقوماتها وسهل بعد ذلك زوالها من الوجود.
7 ـ فشل الأيوبيين في ايجاد تيار حضاري: حاول صلاح الدين بإيمان صادق وذكاء متميز حمل لواء المشروع الإسلامي الحضاري الذي تزعمه نور الدين محمود زنكي وحرص على الفتوحات العسكرية والدعوية، بحيث لاتطغى الأرض على الحضارة ولا الدولة على الدعوة، ولا تصبح اعتبارات السياسة أهم من مبادئ الدين وتقيد بالسياسة الشرعية، وعمل على ايجاد تيار حضاري عقدي يملأ أركان الحياة، ومهما يكن من أمر، فإن الدولة الأيوبية بعد صلاح الدين، لم تستوعب قانون الامتداد الحضاري، فبعد الامتداد والانتصارات كان عليها أن تمتد بالدعوة وتطور المدارس الإصلاحية حتى تواكب احتياجات العصر العلمية والتربوية والثقافية والحضارية إلا أن خلفاء صلاح الدين لم يستطيعوا أن يقدموا مشروعاً حضارياً يجدد حيوية الدولة ويرسم اهدافها ويدفعها بقوة نحوها، وإنما دخلوا في أنفاق مظلمة أنتهت بزوال دولتهم لقد فشل ملوك بني أيوب بعد صلاح الدين في إيجاد تيار حضاري ولم يستطيعوا أن يحققوا التوازن بين الدولة والدعوة والأرض والعقيدة والسياسة والفكر، وكانت هذه رساله سامية تأخر فيها الأيوبيين وغلبتهم الظروف والتحديات فأصبحوا أمام قانون التاريخ الحضاري الذي لا يجامل ولا يحابي أما أن يتقدموا أو يزولوا من الوجود، فلا سكون في تاريخ البشرية.
8 ـ ضعف الحكومة المركزية: قسمّ صلاح الدين دولته إلى أقاليم إدارية يتمتع كل منها بإمكاناته الخاصة وطابعه المميز، مثل مصر والشام وشمالي العراق والنوبة والمغرب واليمن والحجاز وقضى أكثر سنين حكمه في ميادين القتال يمارس سياسة التخطيط والتنفيذ والإشراف وتوجيه سياسة الدولة العليا، ثم يترك حرية التنفيذ في الأمور المحلية في الاستعداد والدفاع للولاة وفقاً لظروف وإمكانات كل إقليم، وهو ما يُعبَّر عنه في مفهومنا الحديث( اللا مركزية الإدارية). والحقيقة أن صلاح الدين لم يضع كافة السلطات في يده على الرغم من أنه كان الحاكم الذي يدير دفة الحكومة المركزية، والراجح أنه أدرك أن توزيع السلطات يجعل من كل سلطة رقيبة على السلطة الأخرى، وموازتة لها في ممارسة اختصاصاتها، كما أن تقسيم العمل بين عدة أشخاص أكفاء يحقق عدة مزايا تتعلق بإجادة العمل وسرعة انجازه، وقد ارتبطت الدولة الأيوبية التي بناها صلاح الدين الأيوبي بصفاته وسجاياه وشخصيته الفذة، فحين توارت هذه الشخصية من على مسرح التاريخ في المنطقة حدث فراغ كبير أضرّ بالجانب الإسلامي وعاد بالفائدة على الجانب الصليببي إذ كانت شخصيته ومواهبه وأداؤه السياسي والعسكري هو الذي حفظ الدولة من التفكك، ولم تكن هناك مؤسسات تضمن استمرار بقاء هذه الدولة الكبرى من ناحية، كما أن صلاح الدين قسَّم دولته، كما يُقسمَّ الإرث، بين أبنائه وأخوته وبني عمومته على نحو ما كان مألوفاً هي تلك العصور وكان طبيعياً ان تعود المنطقة إلى الوراء مرة اخرى نتيجة المنازعات والتشرذم السياسي الناجم عن الخلاف بين ورثة صلاح الدين، لقد كان خليفة صلاح الدين في مصر ابنه أبو الفتوح عثمان وكان وقت وفاة أبيه مقيماً بالقاهرة، وعنده جُل العساكر والأمراء من الأسدية والصلاحية والأكراد، وتولى أخوه الأفضل نور الدين على حكم دمشق، على حين تولى الملك العادل الكرك والشوبك وولي الظاهر غازي حكم بلاد الشام الشمالية وكانت حلب عاصمته وتولى بقية أجزاء الدولة غير المهمة أبناء عمومته، ففي حمص حكم أفراد من أسرة تقي الدين عمر بن شاهنشاه، وهكذا تفككت عُرى الدولة الإقليمية الكبرى التي جاهدت ثلاثة أجيال في إقامتها بمنطقة العراق والشام ومصر، عماد الدين زنكي، نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، لقد كان تقسيم الدولة على نحو، كتقسيم التركات الخاصة سبباً في انهيار الوحدة السياسية للمنطقة وإطالة عمر الكيان الصليبي من ناحية أخرى، فتفتت دوله صلاح الدين، وضعفت الحكومة المركزية بعد وفاته، وقامت الحروب بين ملوك بني أيوب بدافع التملك والتوسع.
9 ـ ضعف النظام الاستخباراتي: كانت مؤسسة البريد والاستخبارات في عهد صلاح الدين قد اشتهرت بالتفوق الدائم على ما كان عند الصليبين واتصفت بالدقة والسرعة حتى أن أخبار العدو كانت تتواصل إليه ساعة فساعة، إلى الصبح، لا سيما في حصار عكا، وكانت استخباراته تضم بعضاً من الصليبين الذين استأمنهم السلطان في مناسبات مختلفة،  وتكمن أهمية هؤلاء أنهم كانوا يعرفون لغة العدو، ولا يشك فيهم أنهم رجال صلاح الدين، بسبب من سحنتهم ومظرهم الخارجي، فكانوا يزودون الجيش الأيوبي بأخبار العدو التي يصعب عليها عن طريق رجال استخباراته المسلمين فذات مرة أخبروا صلاح الدين ما ينوي العدو القيام به من كبس العسكر الإسلامي ليلاً، وأخبروه عن المنجنيق الصليبي الهائل الذي أنفقوا عليه ألفاً وخمسمائة ديناراً والذي أعدوه للهجوم على عكا وكذلك زودوا صلاح الدين بأخبار الحملة الألمانية، إلا أن بعد ذلك ضعف جهاز الاستخبارات، بل نجد أن الحملة الصليبية الخامسة تصل إلى دمياط ولم يعلم بها الملك العادل إلا بعد وصولها ولم تكن اختراقات الجهاز الإستخباراتي بعد صلاح الدين بالمستوى الذي كان عليه، فكان ضعف الجهاز الإستخباراتي للدولة الأيوبية بعد صلاح الدين من أسباب سقوطها.
10 ـ غياب العلماء الربانيين عن القرار السياسي: مع مجيء الملك الأفضل لحكم الدولة الأيوبية تغيرت بعض الوسائل الاستراتيجية التي كان يعتمد عليها صلاح الدين بعد الله تعالى في إدارة الحكم وحركة الجهاد وهي اعتماده على العلماء الربانيين فأبعد الملك الأفضل القاضي الفاضل وأقصى أمراء والده ومستشاريه، بتأثير الوزير ضياء الدين ابن الأثير أخو المؤرخ المشهور ابن الأثير على إدارة الدولة في عهد الملك الأفضل ولم يكن موفقاً أبداً بل جرّ البلاء والسخط والغضب والكراهية على الملك الأفضل وأصبح القاضي من بعد المبعدين عن القرار السياسي،  وهو الذي قال فيه صلاح الدين: ما فتحت بلداً بسيفي ولكن بقلم القاضي الفاضل، ولم تكن مكانة العلماء والفقهاء بعد صلاح الدين بالمكانة التي كانوا عليها في عهد نور الدين وصلاح الدين، ولقد خسر الأيوبيون الكثير بإبعاد القاضي الفاضل ومن على شاكلته من دائرة القرار السياسي وقد قال ابو شامة عن القاضي الفاضل: كان ذا رأي سديد، وعقل رشيد ومعظماً عند السلطان صلاح الدين يأخذ برأيه ويستشيره في الملمات والسلطان له مطيع وما فتح السلطان الأقاليم إلا بأقليد آرائه وكان كتائبه كتائب النصر.
11 ـ وفاة الملك الصالح نجم الدين وعدم كفاءة وريثه: استطاع الملك الصالح نجم الدين أيوب، أن يدخل تشكيلات جديدة على القوة العسكرية التي كان يتكون منها جيش السلطان الأيوبي والتي ساهمت في تقوية الجيوش وانعكس ذلك على الدولة ومن أهم الإجراءات التي اتخذها الملك الصالح نجم الدين أيوب، اهتمامه الكبير بشراء المماليك والغلمان والأتراك بشكل لم يسبق له نظير في تاريخ السلطنة الأيوبية، فخلال مدة حكمه أضاف إلى الجيش في دفعة واحدة أكثر من ألف مملوكاً تركياً وعمل منهم جيشاً قوياً سانده في فرض إرادته على الأقاليم والقضاء على حركات التمرد الداخلية وكان ولاء المماليك للملك الصالح نجم الدين أيوب مطلقاً واستطاع إعادة هيبة الدولة الأيوبية من جديد ونجح إلى حد كبير في إعادة قوتها وسلطانها إلا أنه توفي أثناء الحملة الصليبية السابعة وكان عمره عند وفاته 44 سنة وعهد لولده المعظم تورانشاه وقامت شجرة الدر زوجة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ومن معها من الوزراء والأمراء بتثبيت الملك المعظم تورانشاه إلا أنه لم يكن رجل المرحلة وفشل في التحديات التي كانت تفرضها الظروف التاريخية وبدلاً من تركيس جهوده لتوحيد المسلمين للقضاء على الخطر الصليبي تماماً بدأ يدبر للتخلص"من شجرة الدر" وكبار أمراء المماليك فاحتقر خصومه واستبد برأيه وابعد الأولياء ولم يلجأ إلى استخدام المال والسياسة في تفتيت خصومه وضعفت الشقة بينه وبين رجاله وفشل في كسب ولاء قادة الجيش فتم قتله وزالت الدولة الأيوبية بموته، هذه هي أهم الأسباب في زوال الدولة الأيوبية.

المبحث الثاني: سلطنة المماليك بين شجرة الدر وعز الدين أيبك:
أولاً: شجرة الدر:
1 ـ شجرة الدر أيوبية أم مملوكية؟ إن معظم المؤرخين وعلى رأسهم المقريزي، صاحب السلوك لمعرفة دول الملوك، يعتبرون شجرة الدر أولى سلاطين دولة المماليك البحرية في مصر ولقد يطلق عليها إسم دولة المماليك الأولى بإزاء دولة المماليك الثانية التي هي دولة المماليك البحرية، اعتبروها أولى سلاطين المماليك كونها منهم أي من المماليك البحرية، جيء بها جارية مملوكة، فصارت حظيّة الملك الصالح أيوب، وإن كان من الأرجح، أنها ليست من المماليك وهذا ما ذهب إليه عصام شبارو في كتابه السلاطين في المشرق العربي،  مملوكة من أصل أرمني، لا تركي، فهي ليست مملوكة تماماً، بما في كلمة مملوك من معنى، إنها قريبة من المماليك، بجهة النشأة، وإن كان المماليك البحرية الصالحية يأتمرون بأمرها، ويخضعون لها، كونها واحدة من أهم حريم الملك الصالح أيوب، هذا فضلاً عن كونها والدة ولده خليل الذي مات وهو طفل صغير. ويعتبر ابن إياس صاحب بدائع الزهور، شجرة الدر آخر سلاطين بني أيوب، كونها زوجة الصالح نجم الدين أيوب، والد تورانشاه وأم ولده خليل الذي توفي في حياة أبيه.


2 ـ سلطانة مصر:
كان للدور الذي لعبته شجرة الدر بعد وفاة زوجها نجم الدين أيوب وتصرفها حيال الصليبيين وأسر الملك لويس التاسع أبلغ الأثر لدى المماليك بعدما  شاهدوا ما تتصف به من حماس سياسي وحنكة ومهارة في تصريف أمور الدولة في ذلك الوقت العصيب الذي كادت أخطار الحرب والاستيلاء على دمياط أن تفت في عضد أي حاكم آخر، لقد عملت شجرة الدرّ على تحرير دمياط من الصليبيين، لمّا أخفت موت نجم الدين أيوب على الجيش المصري الذي كان يقاتل الغزاة، إذ لو أعلنت نبأ وفاة الملك والجيوش المسلمة والصليبية في التحام وعراك لأفلت الأمر من  أيدي القادة المماليك وبعث فيهم نبأ وفاة الملك شياً من الضعف والتخاذل والتواكل، الأمر الذي لم يحدث ـ بفضل الله ـ ثم بسبب حنكة شجرة الدرّ، وحكمتها وهي التي تمّت الوفاة بحضرتها فكتمت هذا الأمر، وأمرت العبيد أن يحمل الملك سراً في محفّة دون علمهم بموت الملك، ثم أن يوضع في قارب حمله إلى قلعة الروضة، ريثما تنجلي المعركة، عن نصر قريب، ولم يفت شجرة الدرّ أن تعهد إلى الأمير فخر الدين بقيادة الجيش وأن تبعث فيه روح المثابرة والعزيمة والجهاد ومواصلة الحرب لاسترجاع دمياط من أيدي الصليبيين هذا من جهة، ومن جهة ثانية، راحت شجرة الدر، وبالاتفاق مع بعض الأعوان من الخدم والأطباء تعمل على إدخال كبار الموظفين والأطباء إلى قاعة الملك، بحجّة أن السلطان حي يرزق، بل راحت توقع الأوامر والمراسم بتوقيع السلطان وهي التي حذقت تقليد توقيعه، ومحاكاة خطه، وإن قال بعضهم إن الذي حذق تقليد الملك وتوقيعه، هو خادم لشجرة الدرّ اسمه سهيل، كتم الأمر وخضع له، خدمة لمولاته السلطانة بهذا التدبير الحكيم ، وذلك الآسلوب المميّز والحنكة الفريدة استطاعت شجرة الدر أن تحفظ للجيش وحدته وتماسكه، وأن تحول دون تصدّع صفوفه، وانفراط عقده، كما إستطاعت أن تبعث  في الجنود روح مواصلة الجهاد، ومتابعة الكفاح، دونما ضعف أو خور أو ميل إلى الخضوع والاستسلام، كان الرصيد الجهادي لشجرة الدر مؤهلاً لها للتربع على كرسي السلطة بعد مقتل تورنشاه، ويتبارى المؤرخون في سرد الأسباب والدوافع التي جعلت المماليك يرضون بها سلطانه عليهم، فهل يرجع ذلك إلى العلاقة التي تربطها بزوجها الراحل نجم الدين أيوب وابنها خليل؟ أم لزعامتها العسكرية والسياسية وقت الأزمات؟ أم لحاجة المماليك إلى وجود صلة بين الأيوبيين وبين وجودهم بصورة قانونية؟ لقد رفعوها لتتربع على عرش مصر وأطلقوا عليها لقب ((أم خليل))، وهكذا أصبحت هذه الجارية أمة السلطان صالح نجم الدين أيوب، والتي تزوجها بعدما أعتقها ملكة المسلمين في مصر وسلطانة المماليك البحرية، يخطب لها على المنابر، ويدعون لها عليها من بعد الدعاء لخليفة المسلمين العباسي.
3 ـ الدعاء لها: كان مما يدعى لشجرة الدرّ قول المصلين اللهم أحفظ الجهة الصالحة ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين أم خليل أمير المؤمنين، المستعصمة، صاحبة السلطان الملك الصالح،، أو قول الخطباء الذين كانوا يخطبون بإسمها على منابر مصر وأعمالها، فيقولون من بعد الدعاء لأمير المؤمنين الخليفة العباسي: اللهم أحفظ الجهة الصلاحية، ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين ذات الحجاب الجليل، والستر الجميل، والدة المرحوم خليل، إذ أن خليلاً هذا هو ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، كان توفي في حياة والده صغيراً، وفي رواية أن الخطبة التي كان يخطب بها لشجرة الدرّ على المنابر ، لما بويعت بالحكم من بعد الدعاء للخليفة العباسي هي التالية: ربنا احفظ ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين، الجهة الصالحة، أم خليل المستعصية، صاحبة السلطان الملك الصالح.
4 ـ نقش توقيعها: وأيا يكن، فإن شجرة الدرّ، هذه هي التي راح الناس يدعون لها، ويخطبون، نقشت إسمها على النقود المتداولة في ذلك الزمان، وكانت صبغة النقش هي التالية: المستعصمة الصالحية، ملكة المسلمين، والدة المنصور خليل.
5 ـ الاحتفال بتنصيبها: ما إن تمّ إعلان خبر تولية شجرة الدرّ ملكة على المصريين حتى راح كبار القادة والأمراء يفدون على المليكة وقد تربعت على دست الحكم في قاعة الإيوان الذي كان بناه الملك الصالح حيث النقوش الذهبية، والأعمدة الشاهقة المغطاة بالأبنوس والرخام، وحيث الفُرش والزرابي والطنافس والأرائك، ولقد ضاقت باحة القصر الخارجية بعامة الناس الذي أذهلهم الإعلان عن شجرة الدرّ أنها ملكة المصريين ما بين مصدِّق للخبر، أو مكذب له، فكنت ترى مواكب الصناع والتجار، والفلاحين والجند، والراقصين والمغنّيين والخدم والحشم، على اية حال، قبضت ((شجرة الدر)) على زمام الحكم بيد من حديد، ووجهت إهتمامها للتخلص من بقايا الحملة الصليبية السابعة، ثم أخذت تتقرب إلى العامة والخاصة من رعاياها.

6 ـ رفض الخليفة والعلماء وعامة الناس لتولي شجرة الدُّر السلطنة:
تفجرت ثورات من الغضب في العالم الإسلامي وحاولت شجرة الدُّر أن تُجمل الصورة قدر استطاعتها وتقربت إلى العلماء والعامة، إلا أن ذلك ذهب في إدراج الرياح وقامت المظاهرات العارمة على المستوى الشعبي في القاهرة في كل أنحائها ، وقام العلماء والخطباء ينددون بذلك على منابرهم، وفي دروسهم وفي المحافل العامة، والخاصة وكان من أشد العلماء غضباً وإنكاراً الشيخ الجليل ((العز بن عبد السلام)) رحمه الله، وأرسل الخليفة العباسي من بغداد إلى الأمراء الذين كانوا بمصر يقول لهم: إعلمونا إن كان ما بقي في مصر عندكم من الرجال من يصلح للسلطنة، فنحن نرسل إليكم من يصلح لها، أما سمعتم في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يفلح قوم ولّوا أمره امرأة، ومما قاله الشعراء في إنكارهم على تولي شجرة الدُّر السلطنة:
    النساء ناقصات عقل ودين
                    ما رأين لهنَّ رأياً سنيّا
    ولأجل الكمال لم يجعل الله
                    تعالى من النساء نبيّا

7 ـ شجرة الدُّر تخلع نفسها:
لقد اضطربت الأمور على المستوى الشعبي العام، وعارض الفقهاء والمتعلمون جلوس ((شجرة الدُّر)) على عرش السلطنة، وأدركت السلطانة وزعماء المماليك أنهم يسبحون ضد تيار عارم، لا بد وأن يغرقهم في موجاته، وبعد ثمانين يوماً تنازلت ((شجرة الدُّر)) في الحكم لواحد اختارته بعناية من أمراء المماليك هو عز الدين أيبك التركماني الصالحي، الذي اشتهر بعزوفه عن الصراع حتى ظن الجميع أنه ضعيف، وقبل أمراء المماليك الأقوياء زواجه من شجرة الدُّر وجلوسه على عرش السلطانة، بل أن بعضهم قال: متى أردنا صرفه أمكننا ذلك لعدم شوكته، وبالفعل تزوجت شجرة الدُّر من عز الدين آيبك، ثم تنازلت له عن الحكم، وتم هذا التنازل في أواخر جمادى الثانية من السنة نفسها سنة 648 هـ. وهكذا في غصون سنة واحدة فقط جلس على كرسي الحكم في مصر أربعة ملوك وهم الملك الصالح أيوب ـ رحمه الله ـ ثم مات، فتولى توران شاه ابنه، ثم قتل، فتولت شجرة الدر، ثم تنازلت، فتولى عز الدين أيبك التركماني الصالحي.
8 ـ حكم تولى المرأة للولاية العامة: اتفق فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم ـ على عدم جواز المرأة لمنصب الإمامة العظمى، وأن الذكورة شرط أساسي فيمن يتولى هذا المنصب، حتى الذين ينادون بحقوق المرأة السياسية، ويؤيدون تدخلها في أمور السياسة، أكثرهم لا يجيزون توليها لهذا المنصب ويقولون بقصر الرياسة أو رياسة الوزارة على الرجل دون المرأة، ولا شك أن أصحاب هذا الرأي يرون رياسة الوزارة في النظام البرلماني مثل منصب الرياسة أو الإمامة الكبرى في النظام الإسلامي، واستدلوا على صحة هذا القول بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أ ـ الكتاب:
ـ قوله تعالى:"الرجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم" "النساء، آية:34". وجه الاستدلال: جعل الله تعالى في هذه الآية القوامة للرجال على النساء وهم قوامون عليهم، والقوامة على الأمر، أو المال أو ولاية الأمر، والقيِّم: من يقوم بالأمر، والقوَّام: صيغة مبالغة، أي الحسن القيام بالأمر، فلما جعل الله تعالى القوامة للرجل دون المرأة، فهو يعني حصر القيام بانتظام الأمور، وتدبير الشئون، وولاية الأمر في الرجل، وهذه القوامة عامة تشمل ولاية الأمور العامة والشئون السياسية، بما فيها الإمارة والوزارة والخلافة ونحوها كما تشمل الشئون الأسرية ورعاية أهل البيت، فالرجال قوامون على النساء: أي القائمون بانتظام أمورهن، وكفالة نفقتهن، ومسؤلون عن الذب عنهن وحفاظهن وأمرهم نافذ عليهن، فهم الحكام والأمراء، وعليهن طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم يكن في معصية الله.
ومما يدل على أن القرآن لم يقيد قوامية الرجال على النساء بالبيوت فقط، أنه لم يأت بكلمة(في البيوت) في الآية حتى يحصر الحكم في دائرة الحياة العائلية، والله لم يعطها حق القوامة على بيتها وإنما جعله للرجال، فكيف تجعل على مجموعة من ملايين البيوت.
قوله تعالى:"ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة" "البقرة،آية:228" ووجه الاستدلال إن الله تعالى في هذه الآية نفى ما كان في الجاهلية من عدم المبالاة بالمرأة وعدم اعتبار حقوقها وشخصيتها، فيبين الله تعالى هنا أن النساء كالرجال في الإنسانية ولهن حق حسن المعاشرة كالرجال، ويجب لهن حق عليهم تجاه الواجب ولكن المراد بالمماثلة مماثلة الواجب بالواجب في كونه ما يردده البعض في العصر الحاضر من كون مساواة المرأة للرجل في جميع الأمور، لأن الله تعالى قال:"وللرجال عليهن درجة" وهذه الدرجة هي القوامة التي جاء بيانها في الاية السابقة الإِمرة والطاعة.
ـ قال تعالى:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم" "البقرة،آية:247". وجه الاستدلال: إن الله تعالى يبين في هذه الآية الكريمة صفات الاستحقاق للملك، وذلك أن بني إسرائيل لما طغوا في استحقاق طالوت للملك، قالوا: إنه لا يستحق لأنه ليس من أهل بيت الملك، ولأنه فقير ليس عنده مال، فرد الله عليهم بأنه استحق للملك لأمرين، لكون زيادته في العلم، وقوته في الجسم، فهذا دليل على أن قيادة الأمة تسند إلى من لديه علم واسع، وهو قوي جسيم حتى يتحمل مشاق هذا المنصب، ومن المعلوم أن المرأة ضعيفة الجسم والبنية لا تستطيع تحمل المشاق مثل الرجل، وهذا أمر فطري، فلهذا لا يسند إليها قيادة البلد.
ب ـ السنة: قال صلى الله عليه وسلم: لن يُفلح قوم ولوْا أمرهم امرأة:
إن الذكورة شرط في أهلية الولاية العامة بالاتفاق، وأجمعت الأمة في العصور الأولى من الصحابة والتابعين،. وتابعيهم والأئمة والفقهاء والعلماء والمحدثين والمفسرين على اختلاف مذاهبهم، أجمعوا على أن لا تصلح المرأة للأمامة الكبرى، ولا تجوز توليتها رياسة المملكة، كذلك رياسة الوزارة في النظام البرلماني لأن لها صلاحيات مثل صلاحيات الإمام. وعلى هذا دلت الأدلة الصحيحة من الكتاب، والسنة وهي ظاهرة في دلالتها ويقتضيه العقل والقياس، والحكمة في خلقة المرأة وتكوينها النفسي والجسدي، والاعتراضات الموجهة إلى حديث صحيح البخاري مردودة، ليس فيها شيء من القوة، إذ تلقته الأمة بالقبول والمعترضون لا يريدون إلا التشكيك في الحديث النبوي وأما القول المعارض الذي حدث متأخراً فليس له دليل صحيح من الكتاب والسنة، بل هي شبهات من اجتهاد بعض أفراد الأمة، أو أفعال من لا ينظر إلى عمله ولا يحتج بفعله.
ثانياً: سلطنة عز الدين آيبك:
تولى عرش مصر السلطان أيبك التركماني وتلقب باللقب السلطاني"الملك المعز" ولم يكن أيبك في الواقع أكبر أمراء المماليك سناً أو أقدمهم خدمة، أو أقواهم مكانة ونفوذاً إذ يوجد من هم أكبر وأقدم وأقدر منه مثل فارس الدين أقطاي والظاهر بيبرس وهذه الحالة الإستثنائية في نظام التدرج المملوكي جعلت بعض المؤرخين مثل أبي المحاسن في كتابة النجوم الزاهرة؛ يتهم أيبك بضعف النفوذ والشوكة وأن الأمراء لم ينتخبوه إلا لكي يتمكنوا من عزله متى شاءواغير أن الحوادث دلت على أن أيبك رجل يمتاز بصفات السياسة والحزم والشجاعة، ولم يكن ضعيف الشخصية كما يصوره بعض المؤرخين، ويبدو أن أبا المحاسن نفسه قد شعر بالخطأ الذي وقع فيه حينما وصف أيبك بالضعف في كتابه النجوم الزاهرة، إذ أنه عاد واستدرك ذلك في كتابه الآخر: المنهل الصافي، فمدح أيبك فيه ووصفه بالديانة والصيانة والعقل والسياسة، وأنه انقذ دولة المماليك من خطر محقق، وإذا تناولنا المشاكل والمصاعب التي واجهت السلطان أيبك، نجد أنها تتمثل في تهديدات الايوبيين والصليبيين في الخارج، وفي ثورات الاعراب في الداخل ثم خطر زملائه المماليك في داخل البلاد وخارجها.
1 ـ الخطر الايوبي والصليبي: رفض أمراء بني أيوب الاعتراف بالنظام الجديد في مصر، وانسلخت عنها دمشق والكرك والشوبك والصبية وغيرها من ممتلكاتها التابعة لها في الشام وأصبح في الشرق الأوسط الإسلامي قوتان متنازعتان، ولايات الشام ويهيمن عليها الأيوبيون، ومصر ويحكمها المماليك، وقد اعتبر الأيوبيون أنهم أصحاب السلطة الشرعية وأن المماليك دخلاء عليهم، وأنه لا بد من اتخاذ إجراء حاسم لإعادة المياه إلى مجاريها، وشنوا حملة أعلامية مركزة على المماليك وقالوا بأنهم هم الذين سمحوا للملك الفرنسي بالخروج من مصر حياً طمعاً في الفدية التي أعطاها لهم وتلك التي تعهد بدفعها، وأنه لولا جشعهم لما أفلت لويس من قبضة المسلمين، ولما توجه إلى الإمارات اللاتينية في الشام عمل على بث الخلاف وإثارة الفتن والقلاقل في الشرق الإسلامي، وأما المماليك البحرية فقد وجدوا أنهم أصحاب الفضل الأول في إحراز النصر على لويس والتنكيل به وبقواته على ضفاف النيل، وأنه لولا اجتهادهم في المنصورة وفارسكور ما تم النصر للمسلمين، حتى وصفهم ابن واصل بأنهم كانوا داوية الإسلام، ودافعوا عن اتهام الأيوبيين لهم بإخلاء لويس طمعاً في ماله، بأنهم كانوا يخشون إن قتلوه أو أبقوه في الأسر أن تثور ثائرة العالم المسيحي ويقوم بحملة صليبية جامعة ضد المسلمين قد لا يستطيعون دفعها، خاصة وأن لويس لم يكن محبوباً في فرنسا، فحسب وإنما في أمم الغرب الأوروبي والشرق اللاتيني أيضاً ، ثم هم لم ينسوا بعد مااقترفه "تورانشاه" ابن مولاهم الصالح أيوب في حقهم وفي زوجة أبيه شجرة الدر من إساءات ، كان من الضروري وضع حد لها قبل أن يفلت الزمام من أيديهم ويبطش بهم ، وأنهم بتخلصهم منه إنما انقذوا مصر من مفاسده ومباذله ، ولذا فهم يرون أنهم أحق بالملك من غيرهم .
أ ـ لويس التاسع واستغلال فرصة النزاع بين المسلمين: ففي هذا الوقت الذي كان فيه الشرق الإسلامي منقسماً على نفسه كان الملك الفرنسي في عكا يسعى لتأليف حملة جديدة تهدف إلى امتلاك البيت المقدس. وحري بالذكر في هذا المجال أن المسيحيين في المعاقل اللاتينية في سورية وعلى رأسهم لويس كانوا يدركون حقيقة الحال في مصر والشام وكانوا ملمين إلماماً تاماً بأحوال العالم الإسلامي المضطربة إبان فترة الأنتقال هذه ، إذ سجل لويس في رسالته إلى شعبه أن هذا الشقاق قد انعش آماله، كما وجد الفرصة مواتيه لتعويض ما خسره في مصر ، ومما يدلنا على اهتمام الغرب المسيحي بما كان يجرى في الشرق الإسلامي من أحداث وقتذاك أن المؤرخين الغربيين المعاصرين لهذه الفترة أمثال جوانفيل وروتلان ووليم دي ناجي، ووليم دي شارتر، ومتى الباريزي وغيرهم، قد تتبعوا مراحل الخلاف بين مصر والشام، وسجلوا الكثير من ظروف الحال بينهما مما لا تقل قيمته عما خلفته لنا المصادر الإسلامية في هذا الشأن، وهي فضلاً عن ذلك تعطينا فكرة واضحة عن هذا النزاع من وجهة النظر المسيحية وعن موقف لويس منه، من هنا يتضح أن مهمة الملك لويس التاسع في هذه الفترة بالذات التي قام فيها الخلاف بين بني أيوب في الشام والمماليك في مصر هي استغلال الفرصة ، وترقب الأمور عن كثب ، واتخاذ خطة السياسة والدهاء ، عساه أن يعوض من وراء ذلك ما فاته في حملته الفاشلة على الديار المصرية.


ب ـ تردد السفارات بين ملوك مصر والشام ولويس التاسع:
هكذا ترددت الرسل وتعددت السفارات بين كل من أمراء مصر والشام وبين الملك الفرنسي في عكا وفي غيرها من بلاد الشام المحتلة وكل منهما يمنيه بالوعود المغرية طمعاً في كسبه إلى جانبه ، ولكنه اتخاذ سياسة الحرص والحذر، متوخياً في ذلك ماتمليه عليه المصلحة المسيحية قبل أن يتخذ قراراً حاسماً ، فقد كان بوسعه الإنضمام إلى أحد الفريقين أو الوقوف موقف الحياد أو أن يستمر على سياسة متأرجحة أملاً في استتراف قوى الفريقين إلى أقصى حد ممكن، على أية حال ، لم يكد لويس يستقر في عكا حتى أرسل إليه الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب مبعوثين من قبله يسألونه أن يقف إلى جانب مولاهم في قتاله ضد المماليك البحرية الذين قتلوا قريبه السلطان المعظم تورانشاه وتعهد له الناصر إذا تحالف معه بإعادة بيت المقدس التي كانت تحت إمرته آنذاك إلى المسيحيين، كان السلطان عز الدين آيبك يراقب الأحداث عن كثب وقرر مواجهة الخطر الأيوبي بالطرق السلمية أولاً وحتى يمتص نقمة الأيوبيين ، إختار بالاتفاق مع كبار أمراء المماليك صبياً صغيراً في العاشرة من عمره من بني أيوب ، هو الأشرف موسى بن المسعود بن الكامل محمد وأقامه سلطاناً ليكون شريكاً له في السلطة ، فكانت المناشير والتواقيع والمراسيم تخرج عنهما ، ويخطب باسميهما على منابر مصر وأعمالها ، وضُربت لهما السكة على الدنانير ، والدراهم، ويبدو أن آيبك علم بأنباء المفاوضات بين الملك الناصر ولويس التاسع ، وخشي وقوع تقارب أيوبي صليبي ، فأرسل إنذار الى الملك لويس التاسع بأنه سوف يُقدم على قتل الأسرى الصليبيين الذين مازالوا في مصر منذ أيام الحملة الصليبية السابعة على دمياط ، وهم بانتظار دفع الفدية المقررة لإطلاق سراحهم ، إن قام بأي عمل عدائي ضده وأبدى في الوقت نفسه استعداده لتعديل معاهدة دمياط والتنازل له عن نصف الفدية المقررة مقابل تحالفه معه ضد الناصر يوسف ، غير أن الملك الفرنسي لم يشأ أن يلتزم بشيء نحو أي من الطرفين وإن كان يؤثر التحالف مع دمشق لما لها من أهمية عسكرية وسياسية ، لكن كان لزاماً عليه أن يفكر في أسرى الصليبيين الذين مازالوا في مصر ، ولما يئس الناصر يوسف من إستقطاب الملك لويس التاسع ، زحف بجيوشه نحو مصر ، ونسي زعماء البحرية خلافاتهم الداخلية ، وتكتلوا وراء آيبك لصد الزحف الأيوبي الذي هدد مستقبلهم جميعاً ، وخرج آيبك من القاهرة على رأس الجيش المملوكي للتصدي للتقدم الأيوبي ، لكنه خشي من أن يقوم الصليبيون بمهاجمة دمياط مرة أخرى، مستغلين خلو مصر من المدافعين عنها فأمر بهدم ثغرها ، حتى خُرب كله ، ولم يبق من المدينة سوى الجامع وأكواخ من القش على شاطئ النيل يسكنها الصيادون وضعفاء الناس، وسموها ((المنشية)).
2 ـ معركة بين المماليك والأيوبيين: والتقى الجيشان الأيوبي والمملوكي في العاشر من ذي القعدة 648هـ/ الثالث من شباط 1251م عند العباسية بين مدينتي بلبيس ، والصالحية، إنتصر فيها الناصر يوسف ، في بداية المعركة ، على الرغم من استبسال المماليك، غير أنه حدث أن فرقة من جيش الناصر يوسف، وهم المماليك العزيزية تخلت عن مواقعها في غمرة القتال وانحازت ، بدافع العصبية المملوكية إلى الجيش المملوكي، ولما لم يكن الناصر يوسف مشهوراً بالشجاعة، لم يلبث أن تراجع ولاذ بالفرار عائداً إلى بلاد الشام، في حين عاد المماليك ظافرين ومعهم الأسرى إلى القاهرة، كان لهذه الموقعة أثرها وأهميتها في تثبيت أركان دولة المماليك البحرية الناشة، فقد إستثمر آيبك إنتصاره هذا، فأرسل بعد شهر، جيشاً، بقيادة فارس الدين أقطاي، استولى على غزة، ثم قرر الزحف نحو بلاد الشام للسيطرة عليها، ولكي يضمن النجاح لمهمته حاول استقطاب لويس التاسع، ووعده بإعطائه بيت المقدس فور إستيلائه عليه من الناصر يوسف، ومن جهته رأى الناصر يوسف نفسه مضطراً للإعتماد على حليف قوي يضمن له الصمود وإستمرارية الصراع مع المماليك، فأرسل سفارة إلى عكا يعرض على لويس التاسع التنازل له عن بيت المقدس، مقابل الحصول على مساعدته.
3 ـ تحالف مملوكي ـ صليبي: استغل لويس التاسع هذا الصراع الإسلامي لمصلحة الصليبيين، ونجح في الضغط على آيبك، فأطلق سراح الأسرى الصليبيين، ثم عقد الطرفان معاهدة في 650هـ/1252م بهدف مناوأة الناصر يوسف، جاء فيها:
ـ وافق آيبك على إطلاق سراح بقية الأسرى الصليبيين.
ـ إعفاء لويس التاسع من بقية المبلغ المتبقي عليه من الفدية.
ـ وعد آيبك الملك الفرنسي بأن يعيد للصليبيين كل مملكة بيت المقدس التي كانت تمتد شرقاً حتى نهر الأردن.
غير أن التحالف المملوكي ـ الصليبي لم يؤد إلى شيء من النتائج إذ بعد توقيع المعاهدة إتفق كل من آيبك ولويس التاسع على القيام بحملة مشتركة لطرد الناصر يوسف من بلاد الشام، وكان من المتفق عليه أن يستولى لويس التاسع على يافا، في حين يستولي آيبك على غزة، ثم يتم الاتصال بينهما، ويقوم الجيشان بعد ذلك بهجوم مشترك على الامارات الأيوبية. وتنفيذاً لهذه الخطة خرج لويس التاسع على رأس ألف وخمسمائة مقاتل إلى يافا واستولى عليها دون مقاومة وكانت تحت الحكم الأيوبي، بينما تقدك الجيش المملوكي بقيادة فارس الدين أقطاي، نحو غزة، وعسكر في الصالحية، ويبدو أن الناصر يوسف علم بأنباء هذا التحالف، وما أعده من خطط لطرد الأيوبيين من بلاد الشام، فتحرك على وجه السرعة، ليحول دون إلتقاء الحليفين، فأرسل قوة عسكرية من أربعة آلاف مقاتل عسكرت على تل العجول قرب غزة، وبعد أن سيطرت على هذه المدينة، إرتدت إلى يافا لاستعادتها من يد لويس التاسع. وبفعل سيطرت الأيوبيين على غزة ظل المماليك في الصالحية، وظهرت بين الطرفين بوادر إحتكاك واستمر كل منهما يتحفز بالآخر، حتى أضحت المواجهة المكشوفة وشيكة الوقوع، لكن الصلح تم بين الطرفين في أوائل 651هـ/1253م، فما الذي تغير على الساحة السياسية؟.
4 ـ الخليفة العباسي وسعيه في الصلح: الواقع أنه لم يقدر للعداء بين الأيوبيين والمماليك أن يستمر في هذه الآونة وذلك بسبب ظهور خطر جديد هدد المسلمين جميعاً في الشرق الأدني وتطلب منهم أن يتحدوا وهو ظهور المغولي الذين اكتسحوا العراق ووصلت طلائعهم قرب بغداد، ولم يبق من قوة في العالم الإسلامي يمكن أن تدعم الخليفة سوى الشام ومصر، فأعاد الخليفة تسيير رسوله نجم الدين البادرائي لإعادة الصلح وتثبيته بين الناصر يوسف والمعز آيبك، وتمكن رسول الخليفة من عقد صلح بينهما تقرر فيه:
ـ إعتراف الناصر يوسف بسلطة آيبك، وبسيادة المماليك على مصر وبلاد الشام حتى نهر الأردن على أن تدخل مدن غزة وبيت المقدس ونابلس والساحل الفلسطيني كله في حوزته.
ـ إعتراف المماليك بسيادة الأيوبيين على بقية بلاد الشام والواضح أن موجة الرعب التي أثارها المغول أثناء زحفهم من جوف آسيا بإتجاه العالم الإسلامي، وأخبار وحشيتهم جعلت الطرفين يستجيبان بسهولة لدعوة الخليفة، وكان المعز آيبك قد استغل إنتصاره على الناصر يوسف، وإزدياد خطر المغول وتهديدهم لبلاد الشام ومصر، فتخلص من شريكه في الحكم، وهو الأشرف موسى، فحذف إسمه من الخطبة، وقبض عليه، وسجنه في قلعة الجبل وذلك في عام 650هـ/1252م، واستقل بالسلطنة. ومهما يكن من شيء فقد إتضح للملك الفرنسي واللاتيني أنه بوسع المسلمين في مصر والشام إذا إتحدت جهودهم، واتفقت كلمتهم، أن يدفعوا عنهم خطر الجماعات الصليبية وأن يعملوا على مضايقتها بشتى الوسائل، وكان الصلح التي تم بين الناصر والمعز آيبك في صفر 651هـ/أبريل 1253م بمثابة ضربة وجهت إلى قلب القوى الصليبية وإلى لويس التاسع نفسه، إذ أنه أتاح الفرصة للناصر يوسف بعد أن فرغ من جميع ما يشغل باله، لتلقين الفرنج درساً قاسياً، وكان من الطبيعي أن يبدأ الصدام بين قوات كل من الناصر يوسف ولويس التاسع، بعد أن كشف الأخير عن نياته واتخذ من أمراء مصر حلفاء له ضد خصومهم في الشام وساعد على ذلك أيضاً أن قوات صاحب حلب كانت ترابط قبالة غزة على مقربة من المعسكر الصليبي يافا، ومع أن هذا الصدام لم يكن فيه معركة حاسمة، إلا أنه كان مقدمة أو بداية لسلسلة من الهجمات الشديدة التي ستكيلها القوات الناصرية للصليبيين وولاياتهم بعد إقرار الصلح بينها وبين مصر. لقد فشل لويس التاسع في الاستفادة من الإنشقاق الذي حدث بين الشام ومصر إلا أنه اضطر أخيراً العودة إلى فرنسا، فغادر فلسطين في ربيع الأول سنة 652هـ/24 نيسان 1254م مجروحاً في كرامته وعزته وكبريائه بعد هزيمته في مصر، وكان ذلك إيذاناً بإضمحلال الروح الفرنجية العسكرية وموتها فيما بعد في وقت كانت تكابد فيه طور النزع الأخير.
5 ـ تمرد القبائل العربية ضد المماليك في مصر: ومن المشاكل التي اعترضت السلطان آيبك، هي ثورة بعض القبال العربية أو ما يسمى بالعربان في مصر سنة 1253م. من المعروف أن القبال العربية استوطنت مصر بعد الفتح الإسلامي وتأثرت بالبيئة المصرية الزراعية، وأخذت تتحول تدريجياً إلى شعب زراعي مستقر، ولا سيما في أقاليم الصعيد والشرقية وأطلق عليهم إسم العرب المزارعة، وكان هؤلاء الأعراب يقومون بفلاحة الأرض على مقربة من القرى القديمة الآهلة بالفلاحين من أهالي البلاد، غير أنه يلاحظ أن هؤلاء الأعراب كانوا يتمتعون بمركز إجتماعي أعلى مرتبة من الفلاحين بسبب المساعدات الحربية التي كانوا يؤدونها للدولة في وقت الحرب ولا سيما إبان الحروب الصليبية وكان مشايخ العربان تقع عليهم تبعة حفظ النظام في القرى والأرياف كذلك مساهمتهم في الإنتاج الزراعي ودفع الخراج، وكان تعسف أمراء المماليك في تحديد أثمان المنتجات الزراعية وإحتكارها والتلاعب في أسعارها أحياناً، من الأسباب التي دفعت بهؤلاء المزارعين العرب إلى القيام بثورات متعددة طول العصر المملوكي وهذه الثورات عرفت في الكتب المعاصرة باسم ((فساد العربان))، وكانت تنتهي في العادة بهزيمة العرب، نظراً لبراعة المماليك في فنون القتال، وتجريد العرب من وسائل الدفاع المؤثرة، ففي منشور صدر في عصر المماليك جاء ما يلى:… فلا يمكن أحداً من العربان ولا من الفلاحين أن يركب فرساً فإنما يعدها للخيانة مختلساً ولا يكون لها مرتبطاً ولا محتسباً، وكن لهم ملاقياً مراقباً، فمن فعل ذلك فانتقم منه بما رسمنا معاقباً ولا تمكنهم من حمل السلاح، ولا ابتياعه ولا استعارته ولا استيداعه وتفقد من بالأقاليم من تجارة وصناعة فخذ بالقيمة ما عند التجار، وأقمع بذلك نفس الفجار وأخرم نار العذاب على من أخرم لعمل ذلك النار. وورد في منشور آخر ما يلي:… ولا يمكن أحداً من العربان بجميع الوجه القبلي أن يركب فرساً ولا يقتنيه ويكفي بذلك الأيدي المعتدية فإن المصلحة لمنعهم من ركوبها مقتضية … ومن وجد من العربان خالف المرسوم الشريف من منعه من ركوب الخيل كائناً من كان ضرب عنقه وأرهقه من البطش بما أرهقه ليرتجع به أمثاله، ولا يتسع لأحد في الشرق مجاله، ويرجع أسباب الصراع القائم بين العرب والمماليك إلى أن المماليك الذين أستولوا على الحكم لم يكونوا من أهل البلاد وإنما كانوا مجرد وافدين لأغراض حربية، فحسب، كما أنهم لم يرتبطوا مع الشعب المصري بروابط المصاهرة والنسب وظلوا منعزلين عن أفراد الشعب ومع ذلك فإنه إذا كان للمماليك دور فعال في الدفاع عن مصر وحمايتها من أعدائها فإن للمصريين والعرب دورهم أيضاً في الدفاع بنفس القدر الذي كان للمماليك ولذلك فقد رأى العرب أنهم أحق من المماليك الغرباء بحكم مصر، فقامت الثورات ضدهم وأستخدم المماليك في قمع تلك الثورات وسائل متعددة تنطوي على القسوة والقهر، من وسائل قتل وتعذيب معروفة في ذلك العهد وقد أدت هذه السياسة إلى هجرة عدد كبير من المزارعين إلى المدن الكبرى بغية التسول أو السرقة أو الإشتراك في المنازعات والإضطرابات الداخلية التي كانت بين أمراء المماليك، وكانت دوافع تلك الثورات اقتصادية وسياسية، ولا شك أن الدافع السياسي وسعي بعض القبائل العربية للقضاء على حكم المماليك ولّد ردة فعل لديهم مما جعلهم يستخدمون سياسة العنف والقسوة في قمع الثورات خوفاً على سلطانهم وأول وأخطر ثورة قام بها الأعراب أيام المماليك، هي الثورة التي قاموا بها في عهد السلطان أيبك التركماني عام 651هـ /1253م وأسباب هذه الثورة ترجع إلى عوامل اقتصادية وسياسية كما أسلفنا، فالمماليك منذ أن أنتصروا على الأيوبيين في وقعة العباسية وتدخلت الخلافة في صالحهم اعتقدوا أن البلاد وما فيها صارت لهم ولا منازع، فبالغوا في الفساد والاستهتار وزيادة الضرائب، إلى درجة أن بعض المؤرخين أمثال المقريزي وأبي المحاسن، فضلوا عليهم الصليبيين وقالوا لو أن الفرنج ملكوا مصر ما فعلوا فعلهم.وهذا كلام لا يستقيم أمام الوقائع التاريخية فالفرنج لما تمكنوا من ثغر دمياط في الحملة الصليبية، عملوا ما تقشعر منه الأبدان وتشيب منه الرؤس، وفصلنا كثيراً من أعمال الفرنج في كتبنا السابقة عن الحروب الصليبية، وقد حاول بعض المؤرخين أن يقدم لنا صفحات التاريخ المملوكي بلون أسود مظلم قاتم، ومع اعترافنا بالحقيقة المرّة أن تمزقاً كان يقوم بين طوائف المجتمع في عهد المماليك وبين الأمراء المماليك أنفسهم وولاءتهم المتعددة، فإن إشراقة من الإيمان تطل علينا وشموعاً تضاء في دهاليز الذات لدى هذا القائد أو ذاك، عندما يمس الإيمان شغاف قلبه، ويحرّك القرآن فيه روح الجهاد والاستشهاد، إن من التجني أن ننسى الدور الرائد الفذ الذي قام به الظاهر بيبرس والمظفر قطز في قيادة جيش إسلامي وقف كالطود الشامخ في وجه الزحف التتري، الذي كان يستهدف عقيدتنا، وديارنا وأمتنا ويسى لإجتثـاث ذلك كله من الوجود، وكانت النتيجة إندحار الغزاة وهزيمة المعتدين بوحدة الصف ودافع الإيمان الصادق المتين.إن معركة عين جالوت تمثل معلماً مضيئاً في خضم الظلمات ومثلها معالم أخرى، كتحرير بلاد الشام من المشروع الصليبي في عهد المنصور بن قلاوون والمدارس التي بنيت والمكاتب التي أوقفت والمساجد التي شيدت وصرح الخير والبر والمرحمة، والحركة العلمية الموسوعية التي قادها علماء ذلك العصر، كالنووي وابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير والمزي والسبكي والمقريزي وابن خلدون والسيوطي وغيرهم كثير، وهذا ما سوف نعرفه في هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
الحقيقة هناك تجاوزات حدثت في عهد المماليك منها استخدام العنف الغير مبرر ضد المعارضين مما ولّدت ردة فعل عكسية قال أبو المحاسن: إن أهل مصر لم يرضوا بسلطان مسه الرق، وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك وهم يسمعونه ما يكره حتى في وجهه إذا ركب ومر بالطرقات، ويقولون لا نريد إلا سلطاناً رئيساً مولوداً على الفطرة.وتزعم تلك الثورة الشعبية شريف علوي وهو حصن الدين بن ثعلب الذي طمع في السلطنة، وصرح بأن ملك مصر يجب أن يكون للعرب وليس للعبيد الأرقاء، وأقام دولة عربية مستقلة في مصر الوسطى، وفي منطقة الشرقية بالوجه البحري وكانت قاعدة هذه الدولة بنواحي الفيوم في بلدة تعرف بذروة سريام أو ذروة الشريف ((نسبة إليه)) وتقع بين النيل وترعة المنهى التي هي الآن بحر يوسف. واتصل الشريف حصن الدين بالملك الناصر يوسف الأيوبي صاحب الشام يطلب مساعدته في محاربة أيبك في ذلك الوقت، إذ كانت رسل الخليفة المستعصم قد تدخلت لحسم النزاع بينهما وكان العرب يومئذ في كثرة من الرجال والخيل والمال بفضل الله ثم مشاركتهم في حروب الصليبيين، فكونوا جيشاً كبيراً والتفوا حول زعيم حصن الدين وحلفوا له، واضطر السلطان أيبك أن يرسل حملة تأديبية للقضاء على هذه الثورة، ومن عجب أن يسند قيادتها إلى منافسه أقطاي وذلك فيما يبدو لمهارته الحربية، وخرج أقطاي من القاهرة بخمسة الآلاف فارس من خيرة المماليك وتوجه إلى الشرقية حيث كانت أكبر مظاهر العصيان، وعلى الرغم من قلة عدد المماليك بالقياس إلى العرب، تغلب المماليك بسبب تفوقهم الحربي ومهارة قائدهم أقطاي، وتهدمت المقاومة العربية في بلبيس سنة 1253م، غير أنها بقيت على حالها في مصر الوسطى، حيث ظل حصن الدين طليقاً وأقام حكومة مستقلة هناك ولم يتمكن أيبك ومن جاء بعده من سلاطين من القبض عليه إلى أن خدعه السلطان بيبرس البند قداري وقبض عليه وشنقه بالإسكندرية، وكيفما كان الأمر في نهاية الأمير حصن الدين، فالمهم هنا أن أيبك تغلب على أحد العناصر المهددة بقيام دولة المماليك واستقرارها في مصر، وذكر المقريزي في السلوك أن من نتاج ثورات العرب ضد المماليك: أن تبدد شمل عرب مصر وخمدت جمرتهم من حينئذ.
6 ـ خطر زملائه المماليك ومقتل الفارس أقطاي: ومن العوائق التي هددت حكم أيبك ودولته الناشئة، خطر زملائه المماليك البحرية وزعيمهم فارس الدين أقطاي وكان أيبك يتوجس خيفة من هذه الطائفة لعلمه بقوتها وخطرها، ومن ثم أخذ يعمل على تقوية نفسه، فأنشأ فرقة من المماليك عرفوا بالمعزية نسبة إلى لقبه"الملك المعز" كما عين مملوكه قطز المعزى نائباً للسلطنة بمصر، ثم لم يلبث أن أخرج المماليك البحرية من ثكناتهم بجزيرة الروضة، وعزل الملك الأيوبي الطفل موسى شريكه في الحكم، وانفرد بالسلطنة، على أن هذه الإجراءات كلها لم تكن إلا مجرد احتياطات شكلية لم تقلل من خطر أقطاي وزملائه البحرية، ويجمع المؤرخون على أن أقطاي وصل إلى قمة المجد خصوصاً بعد تغلبه على ثورة العرب، وأصبح لا يظهر في مكان إلا حوله حرس عظيم من الفرسان المسلحين كأنه ملك متوج، وكانت نفسه ترى أن ملك مصر لا شيء عنده وكان كثيراً ما يذكر الملك المعز في مجلسه ويستنقصه ولا يسميه إلا أيبكاً، وقد بلغ ذلك المعز فكان يغضى عنه لكثرة خشداشيته البحرية، وتلقي المصادر التاريخية الضوء على القوة التي كان يمارسها ويتمتع بها أقطاي، فالمقريزي يقول عنه: واجتمع الكل على باب الأمير فارس الدين أقطاي، وقد استولى على الأمور كلها، وبقيت الكتب إنما ترد من الملك الناصر وغيره إليه، ولا يقدر أحد يفتح كتاباً ولا يتكلم بشيء، ولا يبرم أمراً إلا بحضور أقطاي.
لكثرة خشداشيته، وابن تغري بردي يقول عنه: فإنه كان أمره قد زاد في العظمة والتفت عليه المماليك البحرية وصار أقطاي المذكور يركب بالشاويش وغيره من شعار الملك وحدثثه نفسه بالملك وكان أصحابه يسمونه الملك الجواد، فيما بينهم وعملوا على تزويجه من أحد أميرات البيت الأيوبي، وهي ابنة الملك المظفر تقي الدين محمود ملك حماة، بل إنهم تآمروا على قتل أيبك ليخلو الجو لأقطاي، قال الذهبي عنه: فعظم، وصار نائب المملكة للمعز وكان بطلاً شجاعاً جواداً، مليح الشكل، كثير التحمل، أبيع بألف دينار، وأقطع من جمله إقطاعه الإسكندرية، وكان طائشاً ظلوماً عمّالا على السلطنة، بقي، يركب في دست الملك، ولا يلتفت على المعز، ويأخذ ما شاء من الخزائن، بحيث إنه قال: اخلوا لي القلعة حتى أعمل عُرس بنت صاحب حماة بها، وفهم منها المعز أنه مستهدف لإزالته من الحكم فقرّر التخلص منه، واتفق مع مماليكه على ذلك وأرسل إلى أقطاي يستدعيه موهماً له أنه يستشيره في مهمات من الأمور، وأكمن له كميناً من مماليكه وراء باب قاعة الأعمدة بالقلعة وقرر معهم أنه إذا مَرَّ مجتازاً بالدهليز يبتدرونه بسرعة، فلما وردته إلى أقطاي رسالة المعز بادر بالركوب في نفر يسير من مماليكه من غير أن يعلم أحد من خشداشيته، لثقته بتمكن حرمته وطلع القلعة آمناً ولم يدر بما كان له كامناً فلما وصل إلى باب القلعة مُنع مماليكه من الدخول معه، ووثب عليه المماليك المعزَّية فأذاقوه كأس المنية وكان قتله يوم الاثنين حادي عشرين من شعبان وامر المعز بغلق باب القعلة، فركبت مماليكه وحاشيته وكانوا سبعمائة فارس ومعهم جماعة من البحرية وقصدوا قلعة الجبل، بناءً على أن المعز قُبض عليه فبينما هم كذلك أرمي لهم برأسه من فوق السور فالتفت بعضهم إلى بعض وقالوا على من تقاتلوا فتفرقوا جميعهم، ولما شاع الخبر بقتله، أجمعوا البحرية على الخروج إلى الشام، وكان من أعيانهم يومئذ ركن الدين بيبرس البندقدار ي، وقلاون الألفي، وسنقر الأسثقر، وبَيْسري، وسِكر، وبرامق، فشمروا ويلاً وخرجوا ليلاً فوجدوا باب المدينة الذي قصدوا الخروج منه مغلقاً، فأضرموا فيه النار، وهو الباب المعروف بباب القارطين فأحرقوه، وخرجوا منه نحو الشام، فسمي من يومئذ الباب المحروق، وقصد البحرية الملك الناصر صاحب الشام ليكونوا عنده ولما أصبح المعز، بلغه هروبهم من المدينة فأمر بالحوطة على أملاكهم وأموالهم ونسوانهم وغلمانهم واتباعهم، وإسبتصفيت أموالهم وذخائرهم وشؤنهم وخزائنهم، واستتر من تأخر منهم، وحمل من موجود الأمير فارس أقطاي الجمال المستكثرة من الأموال ونودي على البحرية في الأسواق والشوارع، وتمكن الملك المعز من المملكة وارتجع ثغر الاسكندرية إلى الخاص السلطاني، وأبطل ما قرره من الجبايات وأعفى الرعية من المصادرات والمطالبات وأما البحريةّ، فإنهم وفدوا على الملك الناصر، فأحسن إليهم، وأقبل عليهم وأعطى كلاً منهم إقطاعاً يلائمه، ثم عزم على قصد الديار المصرية، فجرد عسكراً صحبة البحرية فساروا ونزلوا الغور واتخذوا العوجاء منزلا، وبلغ المعزّ مسيرهم إليه واتفاقهم عليه، فبرز بالعساكر المصرية ومعه جماعة ممن حضر إليه من العزيزية، فنزل الباردة بالقرب من العباسية وانقضت هذه السنة وهو مخيم بها، وفي هذه السنة وصل الشريف المرتضى من الروم ومعه بنت السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسروا صاحب الروم وكان الناصر قد خطبها لنفسه، فزفت إليه بدمشق، ودخل بها واحتفل بها احتفالا كبيراً.
وتدخل الخليفة العباسي من جديد بين الأيوبيين والمماليك ووصل نجم الدين البادرائي لتوسط بين الطرفين ونجح في تجديد معاهدة الصلح على أن:
ـ يستعيد المعز أيبك ساحل بلاد الشام.
ـ ألا يأوي الناصر يوسف أحداً من المماليك البحرية.
7 ـ مقتل السلطان أيبك وشجرة الدر: يبدو أن أيبك أخذ يشعر بما بين زوجته شجرة الدر والمماليك البحرية بالكرك من مراسلات واتفاقات، فعزم على الزواج من غيرها وأرسل سنة 1256م ميلادية إلى بدر الدين لؤلؤ الاتابكي صاحب الموصل يطلب إليه حلفا زواجيا لم يعلم عنه إلا ما تداولته المراجع من خطبته أيبك لابنة بدر الدين وليس من المعقول أن تكون الخطبة قاصرة على مجرد الرغبة في الزواج إذ ربما أراد من وراء ذلك الحلف معرفة تحركات المغول عن طريق صاحب الموصل، وكيفما كان الأمر فقد كانت هذه المسألة بداية الخاتمة لعهد أيبك، وذلك لئن شجرة الدر لما علمت ما يبيت لها أخذت هي تتزعم حركة المعارضة الداخلية والخارجية لسلطنته، فقام بعض من بقي في مصر من البحرية بمعارضة مشروع الزواج، فقبض أيبك على عدد كبير، منهم أيدكين الصالحي، وسيرهم لقلعة الجبل لسجنهم في الجب، فلما وصلوا إلى قرب نافذه القصر السلطاني حيث سكنت شجرة الدر، احنى الأمير أيدكين رأسه احتراماً وقال بالتركية(والله يا خوندما عملنا ذنب وجب مسكناً ولكنه لما سير يخطب بنت صاحب الموصل، ما هان علينا لأجلك، فانا تربية نعمتك ونعمة الشهيد المرحوم"الصالح أيوب"، فلما عتبناه تغير علينا وفعل بنا ما ترين، فأومأت إليه شجرة الدر بمنديلها بما معناه"قد سمعت كلامك" وعندما نزلوا بهم إلى الجب قال أيدكين؛ إن كان قد حبسنا فقد قتلناه، ومعنى هذا أن شجرة الدر كانت قد بيتت هي الأخرى لايبك جزاء وفاقاً، وأن قبضه على أولئك لم يكن مجرد معارضتهم في الزواج، بل لأنه علم بمؤامرتهم، فأراد أن يقضي على الحركة كلها بالفصل بين أمراء المماليك وزعيمتهم غير أن شجرة الدر كانت قد دبرت ما لم يكن في الحسبان إذ أرسلت سراً أحد المماليك العزيزية إلى الملك الناصر يوسف بهدية ورسالة تخبره فيها أنها عزمت على قتل أيبك والتزوج منه وتمليكه عرش مصر، ولكن الناصر أعرض عنها خوفاً أن يكون في الأمر خدعة، ولم يجبها بشيء وعلم بدر الدين لؤلؤ باخبار هذه المفاوضات السرية فبعث بها إلى أيبك ينصحه أن يأخذ حذره، وخاف أيبك على حياته فترك القلعة وأقام بمناظر اللوتي وصمم على قتل زوجته قبل أن تقضي عليه وأخذ الزوجان يتسابقان في نسج المؤامرات بعد القبض على البحرية في القاهرة، وانتهى السباق بانتصار المرأة في ميدانها، إذ أرسلت شجرة الدر إلى أيبك رسالة رقيقة تتلطف به وتدعوه بالحضور إليها بالقلعة، فاستجاب لدعوتها وصعد إلى القصر السلطاني بالقلعة حيث اعدت له شجرة الدر خمسة من الغلمان الأشداء لاغتياله، منهم محسن الجوجرى ونصر العزيزي، وسنجر وكان آخرهم من مماليك أقطاي، وقد قام هؤلاء الغلمان بما أمروا به وقتلوه في الحمام في أبريل سنة 1257م،655هـ، قال الذهبي عن السلطان المعز كان ديناً عاقلاً، كريماً، تاركاً للشرب.
حاولت شجرة الدر إخفاء واقعة القتل، وأمرت بتجهيز جثمان عز الدين أيبك بملابس لائقة ووضعه على فراشه، والإدعاء بأنه سقط من فوق جواده أثناء عدوه، وتسبب ذلك في إصابات أنهت حياته، وسرعان ما أنتشر نبأ وفاة السلطان وبدأ أمراء المماليك يتوافدون على القصر، وكانت شجرة الدر ما تفتأ تروي واقعة سقوطه من على ظهر جواده، لكنهم استمعوا إليها في ريبة، فقد شهد أيبك معارك كثيرة خاضها وهو يحارب من على ظهر جواده لكنها في كل مرة كانت تصر وتؤكد الواقعة، وأحيط بشجرة الدر، وواجها أمراء المماليك فلم يكن أمامها إلا أن تعترف بأنها أرادت الإنتقام، لكن لم يخطر ببالها أبداً أن ذلك سيؤدي إلى وفاته وتشاور أمراء المماليك فيما يصنعون، لقد وقفوا مع شجرة الدر بادئ الأمر، وصنعوا منها ملكة وسلطانة، وأحاطوها برعايتهم وحمايتهم، حتى في أصعب الأوقات، وباركوا زواجها من عز الدين أيبك،  وساعدوها على أن تصبح زوجة السلطان، فكيف ترتكب هذه الفعلة النكراء؟ وتتنكر على هذا النحو البغيض على أنهم انقسموا على امرهم، وانحاز بعض الأمراء إلى جانبها وأعادوا ما كان لأيبك من قسوة وغلطة وجبروت، فضلاً عن أن وجود شجرة الدر يعتبر ضرورياً  كرمز للشرعية، فهي أرملة نجم الدين أيوب وأم أبنه خليل، ولها من الأيادي على مصر وعلى المماليك انفسهم الشيء الكثير البادي للعيان ورأى البعض الآخر أنها قد ارتكبت جريمة مرعبة، وكاد الأمر أن يتطور إلى حرب بين الفريقين، وأخيراً انتصر أعداؤها وحُبست في أحد أبراج القلعة، ونودي بعلي، بن عز الدين أيبك السلطان الراحل، سلطاناً جديداً ليخلف والده الراحل ويحدثنا أحد المؤرخين أن شجرة الدر كانت قوية في مواجهة الموت كما كانت قوية في مواجهة المدلهمات، فلمّا ايقنت من نهايتها أسرعت إلى خزانتها واستخرجت حليها ومجوهراتها جميعاً، وسحقتها سحقاً حتى لا تتزين بها غريمتها أم على زوجة السلطان الأولى وفي هذه الرواية شك كبير كذلك؛ فكيف لشجرة الدر، وهي سجينة في برج بالقلعة أن تسرع إلى خزنتها وتستخرج حليها، ثم تسحقها جميعاً حتى لا تتزين بها غريمتها أم على كما يقول المؤرخ؟ وفي خارج القصر هدأت الجموع التي أثارها انتشار النبأ ورضي الجيش بالسلطان الجديد بعد أن كان قد انقسم على نفسه بين مؤيد لشجرة الدر ومنكر لها، وتوقفت أعمال الشغب التي كانت قد انتشرت في القاهرة، وتجنّب أمراء المماليك شبح الفتنة التي كانت، تتهددهم، واقتيدت شجرة الدر إلى بلاط السلطان الجديد حيث كانت غريمتها أم على، زوجة أيبك الأولى قد أصبحت منها أم السلطان الجديد، وتمايلت أم علي فرحاً فكانت تنتظر فرصة كهذه منذ سبع سنوات، منذ أن هجرها زوجها أيبك وهجر معهما أبنهما علي. إن ساعة الإنتقام قد أزفت، وأمرت خادمات القصر بالدخول على شجرة الدر وضربها بالقباقيب حتى تفارق الحياة، يقول المقريزي: فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت، وألقوها من سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها، سوى سروال وقميص، فبقيت في الخندق أياماً وأخذ بعض أراذل العامة تكة سراويلها ثم دفنت بعد أيام ـ وقد نتنت ـ وحملت في قفة، بتربتها، قال عنها الذهبي: ودفنت بتربتها بقرب قبر السيدة نفيسة، وقيل: إنها أودعت أمولاً كثيرة فذهبت، وكانت حسنة السيرة، هناك لكن هلكت بالغيرة، وقال ابن العماد فيها: كانت بارعة الحسن، ذات ذكاء وعقل ودهاء… نالت من السعادة أعلى المراتب، بحيث أنها خُطِبَ لها على المنابر، وملَّكوها عليهم أياماً، فلم يتم ذلك، وتملك المعز آيبك فتزوج بها وكانت ربما تحكم عليه، وكانت تركية ذات شهامة وإقدام وجرأة وآل أمرها إلى أن قتلت. وأما غريمتها أم السلطان الجديد، أم علي، فكانت قد نذرت أن تدعو كل سكان القاهرة، إلى وجبة من الحلوى في نفس اليوم الذي تتخلص فيه من غريمتها، وعندما ماتت شجرة الدر، أمرت طهاة القصر بإعداد تلك الوجبة، لكن الوقت لا يسمح بالإنتهاء في نفس اليوم، فجاءتهم بوصفة طهي بسيطة للغاية، كما كميات ضخمة الخبز، يجري تسخينها إلى درجة الإحمرار وتغمر في اللبن والعسل، ثم تغطى بطبقة سمكية من اللوز والزبيب والصنوبر، وإلي وجبة الحلوى اللذيذة التي تقدم في المطاعم في أيامنا هذه، وقد سميت بإسم أول من صنعتها، أم علي.
8 ـ سلطنة على ابن المعز  بسم الله الرحمن الرحيم







السلطان سيف الدين قطز
ومعركة عين جالوت
في
عهد المماليك







                            علي محمد محمد الصَّلاَّبِّي





الإهداء




إلى كل مسلم حريص على إعزاز دين الله ونصرته أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه الحسني وصفاته العلى أن يكون خالصاً لوجهه الكريم.
قال تعالى:((فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً)) (الكهف، الآية: 110)






                            على محمد محمد الصلابي






بسم الله الرحمن الرحيم


المقدمة


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) (آل عمران، الآية:102).
((يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)) (النساء، الآية:1).
((يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً* يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)) (الأحزاب، الآية:70ـ71).
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى فللّه تعالى الحمد كما ينبغي لجلاله وله الثناء كما يليق بكماله، وله الحمد كما تستدعيه عظمته وكبرياؤه أما بعد:
هذا الكتاب جزء من كتاب المغول ( التتار ) بين الإنتشار والإنكسار، وقد رأيت نشره على إنفراد لتعم الفائدة وحتى نعطي سيف الدين قطز حقه على إنفراد، وقد سميته السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت.
 وقد تكلمت عن دولة المماليك وعن أصولهم ونشأتهم وعن نظام التدريب والتربية والتعليم والمراحل التي يمرّون بها وعن نظام التخرج وانهاء الدراسة ولغتهم ورابطة الاستاذية والزمالة بينهم وجهودهم في دحر الحملة الصليبية السابعة وصور من شجاعتهم وعن أسباب هزيمتهم ونتائجها والتي كان من أهمها:
1 ـ ارتفاع شأن ومكانة المماليك.
2ـ وعجز فرنسا عن تحقيق أهدافها.
وعن مقتل تورانشاه وزوال الدولة الأيوبية وكيفية مقتل تورانشاه؟ واسباب سقوط الدولة الأيوبية والتي من أهمها:
1ـ توقف منهج التجديد والإصلاح.
2ـ الظلم.
3ـ الترف والانغماس في الشهوات.
4ـ تعطيل الخيار الشوري.
5ـ النزاع الداخلي في الأسرة الأيوبية.
6ـ موالاة النصارى.
7ـ فشل الأيوبيين في إيجاد تيار حضاري.
8ـ ضعف الحكومة المركزية.
9ـ ضعف النظام الإستخباراتي.
10ـ غياب العلماء الربانيين عن القرار السياسي.
11ـ وفاة الملك الصالح نجم الدين وعدم كفاءة وريثه.
وكان حديثي عن شجرة الدر هل هي أيوبية أم مملوكية؟ وكيف تولت سلطنة مصر؟ وموقف الخليفة العباسي والعلماء وعامة الناس من توليها الحكم، وكيف خلعت نفسها ورشحت عزالدين أيبك لتولي السلطنة وتزوجته بعد ذلك؟ وبينت حكم الشريعة الإسلامية في تولي المرأة للولاية العامة، وأشرت للمخاطر التي تعرض لها عزالدين أيبك في حكمه، كالخطر الأيوبي والصليبي، ومحاولة لويس التاسع استغلال فرصة النزاع بين المسلمين، وتردد السفارات بين ملوك مصر والشام ولويس التاسع ومساعي الخليفة العباسي في الصلح بين المماليك والأيوبيين، وموقف المماليك من تمرد القبائل العربية في مصر، وتصدي عزالدين أيبك لخطر زملائه المماليك ومقتل الفارس أقطاي، ومقتل السلطان أيبك وشجرة الدر بعد ذلك.
وتحدثت عن سلطنة علي ابن المعز ثم تولي سيف الدين قطز، وترتيبه للأمور الداخلية. كان الحديث عن معركة عين جالوت الخالدة وانكسار المغول، وتتبعت تحرك المغول بعد سقوط بغداد، وبينت كيف تم احتلال المغول لبلاد الشام والجزيرة، ووضحت مشروع الكامل الأيوبي لمواجهة التتار وكيف استشهد عند دفاعه البطولي عن ميّافارقين، فقد صمدت المدينة الباسلة وظهرت فيها مقاومة ضارية بقيادته ونظراً لطول الحصار الذي فرضه المغول على المدينة، نفذت الأرزاق من داخلها وعم القحط وانتشر الوباء وتهدمت الأسوار من شدة ضرب المنجنيقات حتى هلك أكثر سكان المدينة، فقد وقعت المجاعة فيها بسبب الحصار الطويل وفي عام 658هـ/1260م سقط آخر معقل للمقاومة في الجزيرة ودخل التتار ميّافارقين فوجدوا جميع سكانها موتى، ما عدا سبعين شخصاً نصف أحياء وقبضوا على الكامل الأيوبي فعنفه هولاكو وأمر بتقطيعه وأخذوا يقطعون لحمه قطعاً صغيرة ويدفعون بها إلى فمه حتى مات ثم قطعوا رأسه وحملوه على رمح وطافوا به في البلاد وذلك سنة 657هـ/1259م إلى أن وصل دمشق، فعلّقوه على باب الفراديس، حتى أنزله الأهالي ودفنوه.
وكان السلطان الناصر الأيوبي سلطان بلاد الشام متردد بين المقاومة والاستسلام، وكان متخوفاً من المغول، الذين هددوه بالرسائل وذكروه بما حدث لبغداد وخليفتها وجاء في رسائلهم للسلطان الناصر:... واستحضرنا خليفتها وسألناه عن كلمات فكذب فواقعه الندم واستوجب منا العدم وكان قد جمع ذخائر نفيسة وكانت نفسه خسيسة، فجمع المال ولم يعبأ بالرجال وكان قد نمى ذكره وعظم قدره ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال:
        إذا تم أمر دنا نقصه
                    توقّ زوالاً إذا قيل تم
        إذا كنت في نعمة فارْعها
                    فإن المعاصي تُزيل النعم
        وكم من فتى بات في نعمة
                    فلم يدر بالموت حتى هجم
إذا وقفت على كتابي هذا فسارع برجالك وأموالك وفرسانك  إلى طاعة سلطان الأرض، ملك الملوك على وجه الأرض، تأمن شره، وتنل خيره، كما قال تعالى في كتابه العزيز:"وأن ليس للانسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يرى* ثم يجزاه الجزاء الأوفى". ولا تعوق رسلنا عندك، كما عوقت رسلنا من قبل "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". وقد بلغنا تجار الشام وغيرهم انهزموا إلى كروان سراي، فإن كانوا في الجبال نسفنها وإن كانوا في الأرض خسفناها.
هذه طرق من الحرب النفسية التي كان المغول يشنونها ضد أعدائهم. واستمر المغول في هجومهم على ديار المسلمين وسقطت حلب وسلمت دمشق وسيطر المغول على بلاد الشام وكانوا شديدي الوطأة على المسلمين، فبادروا إلى تدمير الاستحكامات والأسوار والقلاع في البلاد التي خضعت لهم مثل حلب ودمشق وحمص وحماة وبعلبك وبانياس وغيرها، وحققوا بذلك ما لم يستطع تحقيقه الصليبيون من قبل، ولقد مال المغول منذ اللحظة الأولى لغزوهم للشرق الأدنى إلى العنصر المسيحي النسطوري. وأصبح الملك الناصر مسلوب الإرادة مرعوباً ليس له رأي ووقع أخيراً في أسر هولاكو الذي قام بقتله فيما بعد عند سماعه لهزيمة المغول في عين جالوت.
كان من نتائج سقوط بلاد الشام في أيدي المغول وحلفائهم أن عم الرعب والخوف سائر أرجائها، فهرب الناس، باتجاه الأراضي المصرية وكانت القيادة الإسلامية بمصر تستقبل فلول المسلمين من العراق والشام وتجهز نفسها لمعركة فاصلة مع المغول وكان السلطان سيف الدين قطز على رأس السلطة في مصر وكان يدرك أن بقاء دولته الفتية يتوقف على إجتيازه ذلك الإمتحان الكبير المتمثل في الغزو المغولي للممالك الإسلامية الذي استشرى خطره، وأن يثبت أنه بحق أهل للثقة التي أولاها إياه الأمراء في مصر ورجل الساعة بالفعل بعد اجماعهم على عزل الملك المنصور علي ابن المعز أيبك وتنصيبه على دولة المماليك وأخذ سيف الدين في إعداد الجبهة الداخلية، وحرص على رص الصفوف والتصالح مع المخالفين، وحكّم الشريعة الإسلامية في دولته واستجاب لتعاليم وترشيد الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ورد على رسالة هولاكو بإعلان الحرب على المغول والقبض على رسلهم وضرب أعناقهم أمام أبواب القاهرة وعلق رؤوسهم على باب زويلة وأبقى على صبي من الرسل وجعله من مماليكه وكانت تلك الرؤوس أول ما علق في مصر من المغول، وشرع في إعداد العدة للمعركة الفاصلة واستطاع المسلمون بقيادة سيف الدين قطز تحقيق نصراً ساحقاً على المغول وتمّ تطهير بلاد الشام من السيطرة المغولية، ورتّب سيف الدين قطز أمور الولايات الشامية، وبعد ذلك قصد البلاد المصرية وفي طريق عودته تمّ اغتياله على يد ركن الدين قطز ومجموعة من فرسان المماليك لأسباب تمّ بيانها وتفصيلها في هذا الكتاب، وذكرت أهم العوامل التي ساهمت في تحقيق النصر في معركة عين جالوت والتي منها:
1ـ القيادة الحكيمة.
2ـ توسيد الأمر إلى أهله.
3ـ الجيش القوي.
4ـ إحياء روح الجهاد.
5ـ الإعداد وسنة الأخذ بالأسباب.
6ـ عبقرية التخطيط.
7ـ بعد نظر سيف الدين قطز وقيادته الحكيمة.
8ـ توفر صفات الطائفة المنصورة.
9ـ سنة التدرج ووراثة المشروع المقاوم.
10ـ الاستعانة بالعلماء واستشارتهم.
11ـ الزهد في الدنيا.
12ـ صراعات داخل بيت الحكم المغولي.
13ـ سنة الله في أخذ الظالمين والطغاة.
وبينت أن الأسباب في انتصار المسلمين في عين جالوت متشابكة ومتداخلة، ويؤثر كل منها في الآخر تأثيراً عكسياً، وما ذكرنا من الأسباب ليس على سبيل الحصر وإنما هذا ما أمكن الوصل إليه ومع البحث والتنقيب في صفحات التاريخ، يمكن للباحثين والمهتمين أن يصلوا إلى المزيد، لكي نستخرج الدروس والعبر والسنن والقوانين المهمة في قيام الدول وسقوطها وانتصار الشعوب وهزيمتها، ومعرفة صفات قادة التمكين، وفقهاء النهوض قال تعالى: ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديث يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)) (يوسف، الآية:111).
ولخصت أهم النتائج والآثار المترتبة على انتصار المسلمين في عين جالوت فذكرت منها:
1ـ تحرير بلاد الشام من المغول.
2ـ تحقق الوحدة بين الشام ومصر.
3ـ خمود القوى المناوئة للماليك.
4ـ انتصار الإسلام على الوثنية.
5ـ حدث حاسم في تاريخ البشرية.
6ـ روح جديدة في الأمة.
7ـ إنحسار المد المغولي.
8ـ فشل التحالف بين الصليبيين والتتار.
9ـ إضعاف الوجود الصليبي.
10ـ مدينة القاهرة عاصمة المماليك.
11ـ ميلاد دولة المماليك الفتية.
12ـ الدور الرمزي للخلافة العباسية.
13ـ تطوير الجيش المملوكي وتحديث عتاده وأنظمته.
لقد تعرفت من خلال دراستي في هذا الكتاب على طبيعة المشروع المغولي ونقاط ضعفه وقوته، وكيف استباح العالم الإسلامي وتهاوت مدن المسلمين، كبخارى وسمرقند وكابل وبغداد وغيرها أمام جيوش المغول، فاستباحت الديار وهتكت الأعراض، وصودرت الممتلكات وغابت أسباب النصر، وتعمقت عوامل الهزيمة في الأمة أمام المشروع الغازي ومضت السنن والقوانين الإلهية وعملت عملها ولم تجامل أحد، وما تغيرت ولا تبدلت والناس في همّ وغمّ وذل وضعف وخور، وصغار، حتى استوعبت القيادة الإسلامية في مصر فقه المقاومة وادارة الصراع وعرفت كيف تدفع أقدار الله بأقداره من خلال سنن النهوض، وأسباب النصر، فكانت النتيجة المذهلة في معركة عين جالوت لقد تحرك سيف الدين قطز من خلال مشروع اسلامي ملك مقومات الصمود والتحدي وحقق الانتصار، فكانت الرؤية واضحة والهوية صافية، والبعد العقائدي حاضر، والفقه السياسي ناضج، والقوة العسكرية متفوقة في مجاليها المعنوي والمادي، وعرف سيف الدين قطز مكانة العلماء في الأمة وقوة تأثيرهم ونفوذهم الروحي على الشعب فقربهم واحترمهم وفتح لهم أبواب التعليم والوعظ والإرشاد فقاموا بدور كبير في تعبئة الأمة ودفعها لكي تلتف حول المشروع الإسلامي الذي قاده سيف الدين قطز.
إن تاريخ الأمة ثروة فكرية لا تفنى، وكنوز علمية لا تنفذ، تمنحنا الأصالة وعز الإيمان وشرف الانتماء فيعيننا هذا المخزون الحضاري في تشكيل الحاضر واستشراق المستقبل واستئناف الحياة الكريمة في ظل مجتمع إسلامي تسوده العقائد الصحيحة وتزكيه العبادات السليمة وتحركه مشاعر رفيعه وتحكمه تعاليم الإسلام وتوجه اقتصاده وفنونه وسياسته على أننا إذا تلفَّتنا إلى الماضي فلا نلتفت إليه لنرجع القهقري ونمشي إلى الوراء، بل لنستمد منه القوة على السير سعياً إلى الأمام لنربط بين الماضي المجيد والمستقبل المشرق، إلى الأمام لنصل مجدنا الجديد بمجدنا التليد إننا نعلم أن الاستغراق في الماضي وحده نوم أو جمود والاستغراق في المستقبل وحده هوس وجنون، والاستغراق في الحاضر وحده عجز وقعود، ونحن نريد أن نستمد من الماضي دافعاً وحافزاً، ومن المستقبل موجّهاً ومرشداً ومن الحاضر عماداً وسناداً.
ونحن نعلم أن هذا المجد لا يعود بالأحاديث والخطب ونعلم أن السجين المصفّد بالاغلال لا يطلقه تذكر الحرية والتغني بلذاتها، وأن الجائع لا يشبعه تذكر موائد الماضي واستعراض ألوانها وأن الفقير لا يغنيه تذكر زمان غناه والزهو بما ضاع فيه، وأن الذلة لا تُدفَع عن الذليل بنظم قصائد الفخر بعزة جده، ولكننا نعلم أيضاً أن السجين الذي ينسى أيام الحرية يستريح إلى القيد ولا يجد حافزاً إلى الإنطلاق، وأن الفقير الذي ينسى زمان الغنى يطمئن إلى الفقر ولا يجد دافعاً إلى الإستغناء، وأن الذليل الذي ينسى عزة أبيه يألف الذل ولا يجد قوة على دفعه، فإذا اطمئنّنا إلى جلال ماضينا وحسبنا أن خطبة بتجميده ومقالة بالإشادة به تغنينا وتكفينا فلن يعود لنا هذا الجلال أبداً، وإن نسينا أننا أبناء سادة الأرض وأساتذة الدنيا لم يحرك أعصابنا شيء إلى إستعادة هذا المجد، فلنأخذ من الماضي بقًدْر، نأخذ منه ما يدفع ويرفع وينفع، وندع منه ما يثبط ويُقعد وينيم إننا لا نريد أن نعود إلى الزمان الماضي، فالزمان يمشي أبداً لا يقف ولا يعود، ولا نعود إلى مثل معيشة الزمان الماضي، ونترك ثمرات الحاضر، ولكن نعود إلى المُثُل العلياء وإلى الفضائل التي لا تفقد قيمتها بمرور الزمن، فكما أن الذهب والألماس لا يغيرّه القِدَم ولا يصدأ كما يصدأ الحديد، فإن في المعاني ما هو كالألماس والذهب في المعادن.
نحن نريد نعود إلى حياة الإيمان، والتقوى، والإحسان والعدل، والعبودية الخالصة لله عز وجل والشريعة الحاكمة على الأفراد والشعوب والأمة والدول ونتحرر من أنواع الشرك ما ظهر منه وما بطن ونعمل لقول الله تعالى: "وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون* وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون)) (النور، الآية : 55 ـ 56).
إن أمر النهوض بهذه الأمة والتصدي للمشاريع الغازية يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتم القران الكريم اهتماماً كبيراً بإرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة وأوجب الله تعالى على الأمة الأخذ بأسبابها، لأن التمكين لهذا الدين طريقه للوصول إلى القوى بمفهومها الشامل وقد قال الأصوليون: وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إن القرآن الكريم أوجب على أتباعه إعداد القوة قال تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم ظالمون" (الأنفال، الآية : 60) وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحصّلوا كل أسباب القوة، فهم يواجهون نظاماً عالمياً وقوى دولية لا تعرف إلا لغة القوة، فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد ويقابلوا الريح بالإعصار ويقاتلوا الغزاة بكل ما اكتشف الإنسان ووصل إليه العلم في هذا العصر من سلاح وعتاد واستعداد حربي لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون.
إن قادة المماليك قدموا للأمة أعمالاً جليلة في الفداء والبطولة، فقد استطاعوا أن يقاوموا طوال فترة حكمهم عدوين غاشمين، كانت لهم أطماع في البلاد الإسلامية دينية وسياسية واقتصادية هما المغول والصليبيون، غير أنهم جميعاً لم يستطيعوا تحقيق رغباتهم ولا الوصول إلى اهدافهم إذ كان المماليك يقفون سداً منيعاً حماية للبلاد الإسلامية ودفاعاً عن الدين والأخلاق، فكان جهادهم في هذا المضمار من أعظم الأعمال التي قاموا بها وكانت وقائعهم مع أعداء الإسلام صفحات مضيئة ومشرقة يستفيد منها ويقتدى بها المسلمون كلما أرادوا العزة والكرامة، لقد استطاع المماليك أن يثبتوا كفاءتهم وشجاعتهم في الميادين العسكرية والسياسية، فنظر إليهم حكام الدول الإسلامية وشعوبها نظرة إكبار وإجلال في حين نظرت إليهم القوى الدولية الأخرى نظرة خوف واحترام، فحرصت على ملاطفتهم ومسالمتهم أو مهادنتهم اتقاء بطشهم وانتقامهم وبذلك تكون دولة المماليك قد فرضت احترامها على الأعداء والأصدقاء وتسابق الجميع في كسب مودتها وإقامة العلاقات معها، وشهدت القاهرة نشاطاً سياسياً ضخماً في تلك الحقبة من تاريخ المماليك.
وقد وصف عصر المماليك بأوصاف واتهامات جائرة، فوصف بأنه عصر تدهور واضمحلال، وعصر تخلف وجمود وعصر إجترت فيه العلوم اجتراراً، إلى غير ذلك من الأحكام التي انطلقت من أفواه المستشرقين خاصة، فعلى الرغم من أن الحقائق تشير إلى أن أضخم إنتاج فكري في العصور الإسلامية قد جاءنا من عصر المماليك إلا أن المستشرق الفرنسي جاستون فييت يعده  إنتاجاً من الدرجة الثانية، ويقول عن ذلك: ولكن القاهرة لم تكن في أي وقت مضى مركزاً علمياً في مستوى بغداد وقرطبة، وكانت في القرنين الرابع عشر والخامس الميلاديين ـ الثامن والتاسع الهجريين مركزاً للسياسة والإدارة وبصفة خاصة للتجارة العالمية، ورغم أنها احتفظت بذوقها الفني الرفيع، فإنها في مجال الإنتاج الفكري كانت من الطبقة الثانية، ويصف بروكلمان هذا الإنتاج بأنه، إنتاج يكاد يكون خلواً من الأصالة والإبداع بالكلية، وثم إننا نجد أن عدداً من الباحثين العرب والمسلمين قد انساقوا وراء آراء المستشرقين، فأصيبوا بداء الإعجاب بهم، فانطلقت أكثر أحكامهم من حدود آراء المستشرقين، ولم تنطلق من دراسة علمية متخصصة وموضوعية، وهؤلاء الباحثين الذين ساروا على نهج المستشرقين، كفيليب حتى ابتعدت أحكامهم عن الموضوعية وجاءت مطلقة، كما ورد في رأي بروكلمان الذي جعل العصر المملوكي بطوله وعرضه خالياً من الإنتاج الأصيل المبدع بالكلية وقاصرة كما جاء في رأي جاستون فييت الذي وصل إلى رأي لا أظن أن أحداً من الباحثين يسمع له فيه عندما قصر الحياة الفكرية على مقدمة ابن خلدون وحدها في عصر امتد قرابة قرون ثلاثة، وخلَّف العشرات من العلماء الذين يُشار إليهم بالبنان ويعرفهم الصغير والكبير، لقد حاول غالبية المستشرقين أن يصفوا عصر المماليك بعصر الإنحطاط وتخلف وجمود بدافع من الجهل أو الحقد أو كليهما ثم تابعهم كالعادة بعض المؤرخين والعلماء المحسوبين على ثقافتنا وحضارتنا ورددوا هذه الأقاويل حتى وسموا عصر المماليك كله بالتخلف والإنحطاط والهجين والفوضى، والإنحلال، والواقع أن هذا الرأي الذي يؤيده غالبية المستشرقين ـ كما تتشدق به غالبية المستغربين من أهل المشرق ـ ينطلق من حقد الغربيين الدفين على المماليك الذين دمروا الصليبيين وأجلوهم عن الشام، كما دمروا حلفاؤهم المغول، وحفظوا لبلاد الشام والأماكن المقدسة فيها والحجاز إستقلالها قرابة ثلاثة قرون في فترة زمنية قياسية.
إن الحقائق التاريخية تثبت للباحثين المنصفين، بأن عصر المماليك لم يكن بحال من الأحوال عصر إنحطاط، بل هو الذي ظهرت فيه حضارة عظيمة في مختلف نواحي الحياة، لقد كان عصر المماليك هو العصر الذهبي في العمارة الإسلامية، وهذا يبدو اليوم بوضوح تام في القاهرة التي سميت بمدينة الألف مئذنة والتي تنتشر فيها الآثار المملوكية الهائلة بدءاً من البيمارستان المنصوري إلى جامع السلطان حسن، وخانقاه بيبرس الجاشنكير ومسجد الأمير أيبك ومسجد الغوري وغير ذلك، وأما الذين لم يزوروا القاهرة، فبإمكانهم مشاهدة الآثار المملوكية في دمشق مثل الدراسة الظاهرية، والجقمقية التي بجوارها، وبين هذه وتلك يمكنهم مشاهدة نموذج رائع من نماذج العمارة المملوكية وهو المئذنة الغربية من مآذن الجامع الأموي التي أمر ببنائها السلطان قايتباي بعد حريق الجامع الأموي 884هـ وتم ذلك في بضعة شهور.
وفي ميدان الفكر قد امتاز العصر المملوكي بأنه عصر الموسوعات الكبرى في الآدب والتاريخ والتفسير والفقه والحديث وغيرها، ففي علوم الدين والفقه والحديث نجد الموسوعات الضخمة للإمام النووي وابن تيمية وابن رجب والبدر العيني وابن حجر، وفي التاريخ نجد اليونيني والبرزالي وابن كثير وابن خلدون وابن تغري بردي والنويري وفي الموسوعات العلمية نجد مسالك الأبصار، وصبح الأعشى، وخطط المقريزي وغيرها، وهؤلاء وأمثالهم حفظوا لنا التراث الإسلامي بالدرجة الأولى ثم زادوا عليه حتى أصبحنا اليوم نعرف أدق التفاصيل عن القاهرة في عصر المماليك، وهناك جانب آخر من الحضارة المملوكية لم يلتفت إليه الكثيرون ونعني به الجانب العسكري، ذلك أن الانتصارات المذهلة التي حققها المماليك على برابرة الشرق والغرب أي على المغول والصليبيين في غضون أربعة وأربعين عاماً فقط من سنة 658هـ ـ 702هـ فقد تحققت بسبب الشجاعة والعقيدة ونتيجة ازدهار ما يسمى بلغة اليوم بالصناعات الهندسية والعسكرية، التي مكنت المسلمين من تحرير قلعة عكا في فلسطين، وهو الفتح المبين الذي لم يكن في أهميته عن فتح القسطنطينية فيما بعد بشهادة الغربيين أنفسهم لقد كانت دولة المماليك من حيث طبيعتها إمتداداً طبيعياً للأيوبيين ولمن سبقهم من الملوك والسلاطين، فهي دولة عريقة الحضارة، أعجمية الحكام، تقود الجهاد الإسلامي في وجه الخطر الذي كان يتهدد المسلمين، ومن الأوهام التي تأثر بها كثير من الباحثين هو أن تدمير المغول لبغداد عام 656هـ ـ 1258م كان نهاية الحضارة الإسلامية، ولذلك لا يتطرقون إلى ذكر شيء من إبداعات عصر المماليك وإنجازاته، وهذه فكرة خاطئة ووهم يتطلب الوقوف عنده كثيراً، وسنجيب عنها بإذن الله تعالى في كتبنا القادمة ونبين الحياة العلمية والفكرية وأشهر الأعلام في عهد المماليك.
 إن هذه الأمة تنبض بالحياة، وقادرة على تجاوز المحن العظيمة، وأثبت التاريخ بشواهده ووقائعه بأن طاقاتها الكامنة تتفجر عندما تتعرض للمخاطر والشدائد وحينئذ تستجمع قواها وتستثير كوامنها وتظهر ذخائرها وتتصدى للمشاريع الغازية والمصائب القاسية، بإيمان عظيم وصبر جميل حتى يجعل الله من ظلام ليلها صباحاً مشرقاً ونهاراً مضيئاً، قد رأينا الصحابة الكرام، وفتوحاتهم الربانية وسار على هديهم التابعون بإحسان، ولما جاءت جحافل الصليبيين والمغول تصدى لهم السلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك، وكان الإسلام هو المحرك لقادة الجهاد الإسلامي من أمثال عماد الدين، ونور  الدين، وصلاح الدين، وسيف الدين قطز، وركن الدين بيبرس، ومن سار على نهجهم، ولسان حال المسلمين في الماضي وفي الحاضر والمستقبل قول الشاعر:
            أنا مسلمُ أنا مسلمُ
                            هذا نشيدي المُلَهمً
            من أعمق الأعماق
                            أبعث لحنه يترنم
            رُوحي تُردِّدُه وقلبي
                            والجوارح والدَّم
            شوقاً وتحناناً
                            لأمجاد لنا تتكلم
            أنا مسلمُ أنا مسلمُ
                            بالرغم ممن يحقدون
            أنا هاهنا بشريعتي
                            في موكب الحق المبين

وبقول الشاعر:
        أظننت دعوتنا تموت بضربة
                            خابت ظنونك فهي شر ظنون   

        بليت سياطُكَ والعزائمُ لم تزل
                            منا كحد الصارم المسلول
        تالله ما الطغيان يهزم دعوة
                            يوماً وفي التاريخ برُّ يميني
        ضع في يديَّ القيد ألهب أضلعي
                            بالسوط ضع عنقي على السكين
        لن تستطيع حصار فكري ساعة
                            أو نزع إيماني ونور يقيني
        فالنور في قلبي  وقلبي في يدي
                            ربي وربي ناصري ومعيني
        سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي
                            وأموت مبتسماً ليحيا ديني

إن الذين استطاعوا التصدي للمشاريع الغازية، وانتزاع المدن والقلاع والحصون من المغول والصليبيين هم الذين تميزوا بمشروعهم الإسلامي الصحيح، وعرفوا خطر المشاريع الباطنية الدخيلة فتصدوا لها بكل حزم وعزم، إن أية أمة تريد أن تنهض من كبوتها لا بد أن تحرك ذاكرتها التاريخية لتستخلص منها الدروس والعبر والسنن في حاضرها وتستشرق مستقبلها.
إن قراءة التاريخ تضيف للباحث والقائد والزعيم والملك والرئيس أعمار السابقين وأما الوعي بالتاريخ فإنه يوظف ثمرات هذه القراءة في تغيير الواقع، واستشراف المستقبل، ولذلك يستحيل التقدم وينعدم النهوض عند الذين لا يفقهون ولا يتعرفون على سنن الله وقوانينه وعبره وعظاته من خلال التاريخ.
إن النهوض بوجه عام يحتاج إلى سلاح القلم واللسان ولم ينجح مشروع نهضوي عبر التاريخ من غير أقلام قوية أو ألسنة تعبر عن قلوب صادقة تدعو إليه وتنشر مبادئه بين الناس وإيجاد الكتب النافعة في هذا المجال من الضرورات في عالم الحوار والجدال والصراع والممانعة والمطالبة بالحقوق، وهذا يدخل ضمن سنة التدافع في الأفكار والعقائد والثقافات والمناهج وهي تسبق التدافع السياسي والعسكري فأي برنامج سياسي توسعي طموح يحتاج لعقائد وأفكار وثقافة تدفعه، فالحرف هو الذي يلد السيف، واللسان هو الذي يلد السنان، والكتب هي التي تلد الكتائب، إن موسوعة الحروب الصليبية، والتي صدر منها كتاب السلاجقة وعصر الدولة الزنكية، وصلاح الدين الأيوبي، والحملات الصليبية الرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة وهذا الكتاب، قد أجابت عن الكثير من الأسئلة المطروحة على الساحة القطرية والإقليمية والعالمية، وهذه الحقبة من تاريخ الأمة تأتي شاهداً تاريخياً مقنعاً على أن الإسلام قادر في أية لحظة تتوافر فيها النية المخلصة، والإيمان الصادق، والإلتزام المسؤول، والذكاء الواعي واستيعاب فقه السنن والنهوض وقوانين الحضارات وبناء الدول على إعادة دوره الحضاري والقيادي، واخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب((السلطان سيف الدين قطز)) يوم الخميس من تاريخ 17 صفر 1430هـ/ الموافق 12/2/2009م، والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للإنتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده قال تعالى: "ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم" (فاطر، الآية : 2).
ولا يسعني في نهاية هذا الكتاب إلا أن أقف بقلب خاشع منيب أمام خالقي العظيم وإلهي الكريم معترفاً بفضله وكرمه وجوده متبرئاً من حولي وقوتي ملتجئاً إليه في كل حركاتي وسكناتي وحياتي ومماتي، فالله خالقي هو المتفضل، وربي الكريم هو المعين وإلهي العظيم هو الموفق، فلو تخلّى عني ووكلني إلى عقلي ونفسي، لتبلد مني العقل، ولغابت الذاكرة، وليبست الأصابع، ولجفت العواطف، ولتحجرت المشاعر، ولعجز القلم عن البيان، اللهم بصّرني بما يرضيك وأشرح له صدري وجنبي اللهم ما لا يرضيك وأصرفه عن قلبي وتفكيري، وأسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل عملي لوجهك خالصاً ولعبادك نافعاً وأن تثيبني على كل حرف كتبته وتجعله في ميزان حسناتي، وأن تثيب إخواني الذين أعانوني على إتمام هذا الجهد الذي لولاك ما كان له وجود ولا إنتشار بين الناس، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب ألا ينسى العبد الفقير، إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه قال تعالى: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" (النمل ، آية : 19).
وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: "ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم" (الحشر، آية : 10).
(سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك).
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه ، علي محمد محمد الصلابي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين.





الفصل الأول:

قيام دولة المماليك

المبحث الأول: أصول المماليك ونشأتهم:
أولاً: من هم المماليك؟: المماليك، جمع مملوك، وهم من الرقيق الذين كانوا يشترون يستخدمون لأغراض عديدة في المجتمعات منذ القدم، ويعتبر الرقيق الأتراك أول من استخدموا في الجندية في الدولة الإسلامية زمن الأمويين، إذ يذكر الطبري بأن نصر بن سيار، والي الأمويين على خراسان، اشترى: ألف مملوك من الترك وأعطاهم السلاح وحملهم على الخيل، وكانت بلاد ما وراء النهر المصدر الرئيسي للرقيق الأتراك، وفي العصر، تزايد إستخدام الأتراك في وظائف الدولة إضافة وإستخدامهم في الجيش، وتوسعت أسواق النخاسة البيضاء، من شبه جزيرة القرم، وبلاد القوقاز والقفجاق ,آسيا الصغرى وتركستان وبلاد ما وراء النهر، وكان فيهم عنصر الأتراك، وفيهم الشراكسة والروم والأكراد وبعضهم من البلاد الأوربية أيضاً، وكان الخليفة المعتصم العباسي (218 ـ227هـ/ 833 ـ 842م) أول من شكل فرقاً عسكرية ضخمة منهم وأحلهم مكان العرب الذين أسقط أسماؤهم من ديوان الجند، وقد بلغت مماليك الخليفة المعتصم بضعة عشر ألفاً، وقد امتلأت بهم بغداد مما أدى إلى اصطدامهم بالناس في الطرقات، وأثار سخط أهل العاصمة، فبنى لهم مدينة سامراء لتكون عاصمة لهم، ومقراً لجيوشه التركية من المماليك والأحرار، وقد استخدم المعتصم الجيش التركي تخلصاً من النفوذ الفارسي والعربي في الجيش والحكومة سواء، وقد لجأ إلى الأتراك بالشراء والتربية والإعداد إعتقاداً منه بأنه مجردون من الطموح الذي اتصف به الفرس، ومن العصبة التي عرف بها العرب. ولكن سرعان ما أخذ أولئك المماليك في التدخل في شئون الدولة حتى أمست في أيديهم يفعلون بها ما يشاؤون، وأصبح الخليفة منذ مقتل المتوكل سنة 247هـ/861م في أيديهم كالأسير، إن شاؤوا خلعوه وإن شاؤوا قتلوه، وهكذا أصبح هؤلاء الجنود عنصر تمرد ضد الخلفاء فأساؤوا التصرف في شئون الإدارة والحكم فانفضت الولايات من حول العاصمة، وكان من الطبيعي أن يزداد نفوذ الترك في الخلافة العباسية، بعد أن صار منهم الجيش والقادة، فلما ضعف سلطان الخلافة طمع عمال الأطراف إلى الاستقلال بولاياتهم، وصار الجيش وقادته من الأتراك وسيلة الخلفاء للقضاء على الحركات الاستقلالية المختلفة، فازداد المماليك الأتراك في الدولة العثمانية أهمية على أهميتهم، وأضحى منهم الولاة والوزراء وأرباب الدولة، والواقع فمنذ العصر العباسي الأول إتخذ مصطلح ((مماليك)) معنى إصطلاحياً خاصاً عند المسلمين، إذ اقتصرت التسمية على فئة من الرقيق الأبيض الذي كان يشترى من اسواق النخاسة، ويستخدم كفرق عسكرية خاصة ومع ضعف الخلافة العباسية في العصر العباسي الثاني، كان من الطبيعي أن تزداد الحاجة للرقيق الأتراك، ذلك أن الدويلات التي انفصلت عن جسم الخلافة مثل الطولونيين، والأخشيديين في مصر، والصفاريين والسامانيين في خراسان وما جاورها، والغزنويين والغوريين في الهند، أقبلوا على شراء الأتراك الإرقاء لتأكيد سلطتهم وبظهور الأتراك السلاجقة على مسرح السياسة في المشرق الإسلامي إزداد نفوذ الأتراك عموماً ذلك أن السلاجقة في الأصل من العناصر التركية، كما أن الدولة السلجوقية زادت من الاعتماد على المماليك الأتراك، ويعد نظام الملك الوزير الكبير للسلطان السلجوقي ألب أرسلان وملكشاه هو أساس النظام التربوي المملوكي في كتابه سياسة نامة، وقد جاء فيه أنه: يجب ألا يثقل على المماليك القائمين على الخدمة إلا إذا دعت الحاجة ولا ينبغي أن يكونوا عرضة للسهام، ويجب أن يتعلموا كيف يجتمعون على الفور مثلما ينتشرون على الفور، ولا حاجة إلى التكليف كل اليوم بإصدار الأمر بمباشرة الخدمة لمن يكون الغلمان، صاحب الماء، صاحب السلاح، والساقي، وأشباه ذلك، ولمن يكون في خدمة كبار الحجاب وكبير الأمراء، ويجب أن يؤمرا بأن يبرز للخدمة في كل يوم من كل دار عدد منهم، ومن الخواص عدد معين، هذا وقد كان للسلطان مماليك صغار، وكان عليهم من الصبيان الخاص رقباء، وعلى طوائفهم من جنسهم نقباء، ونظم نظام الملك وزير السلطان ملكشاه السلجوقي المماليك، وكان أشد الناس تمسكاً بهم، وقد أحاط نفسه بجيش كبير من المماليك عرفوا بالمماليك النظامية نسبة لاسمه، فقوى بهم نفوذه، ويعتبر نظام الملك أول من أقطع الاقطاعات للمماليك الأتراك، وبعد إن كان عطاء الجندي يدفع نقداً صار يعطى إقطاعاً، فتسلم الأرض إلى المقتطعين يضمن عنايتها وعمارتها مما يحفظ قوة وثروة الدولة، كما فتحت القلاع والمدن والولايات للقادة من مماليكهم الذين سموا بالاتابكة، والجدير بالذكر أن الوزير نظام الملك أول من لقب بلقب أتابك، وقد منحه أياه السلطان ملكشاه حين فوض إليه تدبير أمور الدولة سنة 465هـ، وهكذا إتخذ السلاجقة أشخاصاً من كبار المماليك ليكونوا مربيين لأولادهم في القصر ومنحوهم الإقطاعات الكبيرة مقابل قيامهم بشؤونهم وتأديبتهم الخدمة الحربية وقت الحرب، ولكن سرعان ما صار هؤلاء الأتابكة أصحاب النفوذ الفعلي في تلك الإقطاعات وبخاصة عندما ضعفت الدولة وتفككت فاستغلوا بولاياتهم شيئاً فشيئاً، وأقاموا دويلات منفصلة عن جسم الدولة السلجوقية عرفت باسم: دويلات الأتابكة: وكان عماد الدين زنكي أقوى هؤلاء الأتابكة، وأسس دولة ضمت الموصل وحلب وديار ربيعة، وعند وفاة عماد الدين زنكي، خلفه ابنه نور الدين محمود وتوسع بالدولة وضم دمشق وقضى على الدولة الفاطمية، وأصبحت مصر من ضمن الدولة الزنكية، وقد توسعت عن الحديث عن عماد الدين وابنه نور الدين في كتابي عصر الدولة الزنكية، وقد استكثر نور الدين محمود من شراء المماليك الأتراك الذين صاروا يكونون غالبية جيشه، وبعد الزنكيين جاء الأيوبيين فأكثروا من المماليك الأتراك واستخدموهم في الجيش، وتجدر الإشارة أن الجيش الذي قاده أسد الدين شيركوه إلى مصر كان معظمه يتكون من المماليك والأمراء النورية، وقد سمي مماليك صلاح الدين الأيوبي بالمماليك الصلاحية، كما سمي مماليك أسد الدين شيركوه بالمماليك الأسدية، وفي عهد الملك العادل سمي المماليك بالعادلية نسبة إلى العادل، ولما توفي خلفه أبناؤه الأشرف: موسى العادل، والكامل، وغيرهم، ونسب عدد من المماليك لكل واحد منهم، فعرف المماليك الأشرفية، والمماليك الكاملية.
1 ـ نجم الدين أيوب والمماليك: ينسب إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب إدخال تشكيلات جديدة على القوة العسكرية التي كان يتكون منها جيش السلطان الأيوبي، فقد إتخذ جملة من الإجراءات العسكرية تبناها السلطان الملك الصالح نجم الدين لتقوية الجيش الذي كان يترأسه، ومن أهمها: إهتمامه الكبير بشراء المماليك والغلمان الأتراك بشكل لم يسبق له نظير في تاريخ السلطة الأيوبية، فخلا مدة حكمه أضاف إلى الجيش في دفعة واحدة ما تعداه من أكثر من ألف مملوكاً تركياً جلبهم من إقليم التركستان (خوارزم)، ومن مناطق شمالي البحر الأسود وبحر قزوين، وغيرها من الأماكن، وقد أصبح العنصر التركي في عهد الملك الصالح هو الغالبية المتميزة للجيش الأيوبي وسرعان ما شكلوا نواة عسكرية ـ سياسية نشطة تحولت إلى دولة المماليك البحرية، بعد أقل من بضع سنين على وفاة الملك الصالح لتختفي تدريجياً العناصر المتكون منها الجيش الأيوبي، كالبربر والسودان، ومن أهم معالم التطوير في البنية العسكرية الأيوبية في عهد السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب الآتي:
أ ـ الصالحية: وهي القوة العسكرية الجديدة من المماليك الأتراك باسم (الصالحية) نسبة إلى الملك الصالح أيوب نفسه، ومن الواضح أن الملك الاصالح نجم الدين أيوب هو صاحب الفضل في تكوين هذه الفرقة الجديدة من المماليك التي تحمل أيضاً إسم البحرية، والتي قدر لها أن تنهض بدور خطير في تاريخ مصر السياسي لما يقارب من قرنين ونصف، ومما يقوله: ابن تغري بردي نقلاً عن ابن واصل مؤرخ الأيوبيين: اشترى من المماليك الترك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتى صاروا معظم عسكره وأرجحهم على الأكراد وأمرهم، ويبدو أن الملك الصالح أراد أن يشكر المماليك في مساندتهم له للوصول إلى دست السلطنة، ولذلك عمل منهم جيش قوي يسانده في فرض إرادته على الأقاليم الأيوبية بعد أن لمس غدر الطوائف الأخرى من الجند المرتزقة مما دفعه إلى الاعتماد على تلك الفرقة الجديدة وترجيحهم على العناصر الأخرى السائدة، وأما عن السبب في تسميةهذه الفرقة بالبحرية فالمرجح أن ذلك يرجع إلى إختيار السلطان الملك الصالح نجم الدين جزيرة الروضة على بحر النيل مركزاً لهم ولثكناتهم العسكرية وكان معظم هؤلاء المماليك من الأتراك المجلوبين من بلاد القفجاق شمال البحر الأسود ومن بلاد القوقاز، قرب بحر قزوين، وقد كان للأتراك القفجاق، ميزاتهم الخاصة بين طوائف الترك العامة من حيث حسن الطلعة وجمال الشكل وقوة البأس فضلاً عن الشجاعة النادرة، ولا شك في ولاء هؤلاء لسيدهم وقد كانوا قد شكلوا نواة لقوة عسكرية ضاربة في الجيش الأيوبي واحتلوا نتيجة لنيلهم ثقة واعتماد السلطان رتباً عسكرية كبيرة في جيش الملك الصالح نجم الدين أيوب مثل المكانة التي كان يتمتع بها مقدمهم ركن الدين بيبرس والذي لعب دوراً كبيراً في صعود الملك الصالح إلى السلطنة وفيما بعد في المعارك ضد الصليبيين الفرنج وخاصة معركة المنصورة.
ب ـ ثكنات المماليك الصالحية في جزيرة الروضة:
اتخذ الملك الصالح أيوب لمماليكه قاعدة في جزيرة الروضة تعرف قلعة الجزيرة أو قلعة الروضة، وجعلها مقراً لهم وشرع في حفر الأساس وبنائها بين عامي 637هـ/1239م و638هـ/1240م، ولتطوير هذه الثكنات هدم الكثير من الدور والقصور والمساجد التي كانت في الجزيرة وأدخلت في نطاق القلعة مشيداً فيها مبانٍ كثيرة منها ستين برجاً وأقام بها مسجداً وغرس بداخلها أنواعاً شتى من الأشجار، ومن شحنها بالسلاح وآلات الحرب وما يحتاج إليها من الغلال والأزواد والأقوات وقد أنفق السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على عمارتها أموالاً كثيرة، وكان السلطان يقف بنفسه ويرتب ما يعمل بها، وقد عمل كل ذلك من أجل أن ينتقل من قلعة الجبال ويسكن مع مماليكه البحرية.
جـ ـ هل السلطان الصالح نجم الدين هو أول من سمّي المماليك البحرية بذلك؟
إن معظم المؤرخين السابقين والمحدثين أجمعوا عل أن السلطان الصالح نجم الدين أيوب هو أول من رتب المماليك البحرية وأول من سماهم بذلك نسبة إلى بحر النيل الذي أحاط بثكناتهم في جزيرة الروضة، غيرأن هذا الرأي لا يستند إلى أساس صحيح للأسباب التالية:
ـ المؤرخون المعاصرون للصالح أيوب أمثال ابن واصل وأبي شامة لم يشيروا إلى بحر النيل كأصل لكلمة بحرية، هذه النسبة أوردها بعض المؤرخين المتأخرين من أمثال المقريزي وأبي المحاسن.
ـ من المعروف أن الفاطميين من قبل كانت لهم طائفة من الجند تعرف بالغز البحرية، كذلك كان للسلطان العادل الأول جد الصالح فرقة من المماليك، أسماها البحرية العادلية، وهذا يدل على أن الملك الصالح أيوب لم يكن أول من اخترع هذا اللفظ.
ـ يروي الخزرجي أن سلطان اليمن نور الدين عمر بن رسول (ت 647هـ) الذي كان معاصراً للصالح أيوب في مصر، استكثر من المماليك البحرية حتى بلغت عدتهم ألف فارس وكانوا يحسنون الفروسية والرمي ما لا يحسنه مماليك مصر، وكان منهم في حلقته وعساكر أمرائه، هذا النص يدل عل أن لفظ بحرية استخدم في بلاد إسلامية بعيدة كل البعد عن بحر النيل.
ـ أطلق المؤرخون العرب المعاصرون على بعض الفرق المسيحية العسكرية التي جاءت من أوربا إلى الشام أثناء الحروب الصليبية إسم الفرنج الغرب البحرية، فيروي أبو شامة أنه في سنة 593هـ فتح الملك العادل يافا ومن عجيب ما بلغني أنه كان في قلعتها أربعون فارساً من الفرنج البحرية، فلما تحققوا نقب القلعة وأخذها دخلوا كنيستها وأغلقوا عليهم بابها وتجالدوا بسيوفهم بعضهم لبعض إلى أن هلكوا وكسر المسلمون الباب وهم يرون أن الفرنج ممتنعون فألقوهم قتلى عن آخرهم فعجبوا من حالهم. فلفظ بحرية إذن لم يكن جديداً على مصر حينما أنشأ الملك الصالح أيوب فرقته البحرية، بل كان لفظاً عاماً أطلق على المسلمين والمسيحيين سواء، كما استخدم في مصر وفي خارج مصر قبل عهد الصالح أيوب، وهذا يؤيد القول بأن نسبة هذا اللفظ إلى بحر النيل أمر مشكوك في صحته، وأغلب الظن أنه سموا بحرية لأنهم جاءوا من وراء البحار. وجوانفيل الذي حارب المماليك البحرية الصالحية في حملة لويس التاسع وأسر عندهم وتحدث إليهم، وروايته لها قيمتها بصفته رجلاً معاصراً وشاهد عيان، وإذا علمنا أن المماليك البحرية زمن الأيوبيين والمماليك عبارة عن فئة من الغرباء الذين جلبوا من اسواق النخاسة بالقوقاز وآسيا الصغرى وشواطئ البحر الأسود، ثم بحر القرم إلى خليج القسطنطينية ومنه إلى البحر الأبيض المتوسط، حيث يسيرون فيه إلى ميناء الأسكندرية أو دمياط تأيدت لدينا عبارة جوانفيل.

ثانياً: نظام التدريب والتربية والتعليم للمماليك:
كان الصالح أيوب ـ ومن تبعه من الأمراء ـ لا يتعاملون مع المماليك كرقيق، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد كانوا يقربونهم جداً منهم لدرجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم، ولم تكن الرابطة التي تربط بين المالك والمملوك هي رباطة السيد والعبد أبداً، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأبناء عائلته، وهذه كلها روابط تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو العسف، حتى أنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب (الأستاذ) وليس لقب السيد. وكانت المدةالتي يقطعها المملوك ليعتبر منتهياً من تعليمه تمر بمراحل ثلاث:
1 ـ المرحلة الأولى: تبتدئ من الصغر إلى سن البلوغ، حيث كان المماليك يجلبون صغاراً، تحقيقاً لرغبة الملوك والسلاطين ثم يوزعون على طباق القلعة حسب أجناسهم، تحت إشراف جهاز إداري محكم يتولى شئونه في التعليم والتدريب والإعداد العسكري وكان هذا الجهاز يتكون من الموظفين المختصين بشئون الجيش وبخلفيات الأمم التي ينتمون إليها وبالدين الإسلامي الحنيف، فأول ما يبدأ به المماليك في المرحلة الأولى تعليمهم ما يحتاجون إليه من القرآن الكريم، ولكل طائفة فقيه يأتيها كل يوم ويأخذ في تعليمها القرآن ومعرفة الخط والتمرين بآداب الشريعة الإسلامية، وملازمة الصلوات والأذكار، وكان من ضمن المنهج الدراسي الخاص في هذه المرحلة الإهتمام بالتمرينات والألعاب الرياضية مدة من الزمن، وكانت الصلاة تؤدى في أوقاتها تحت المراقبة الدقيقة حتى تؤدى على وجهها الصحيح، وحتى تصبح ملكة عند المماليك من صغرهم، ويؤمرون بحفظ بعض الأدعية المأثورة لتلاوتها في مناسباتها وأهم ما في هذه المرحلة، إبراز التعاليم الدينية في صورة تعلقهم بها، حتى يصبح أحب شئ إليهم هو الجين والأخلاق الفاضلة.
إن الفقهاء والعلماء والمؤدبين الذين أشرفوا على تربية المماليك ساروا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستفادة من القرآن الكريم وتربية الأتباع على معاني العقيدة الصحيحة والتصور الصحيح عن الله عز وجل، ومن أهم الجوانب التي إهتمت بها التربية الدينية في هذا الجانب:
ـ إن الله منزه عن النقائص موصوف بالكمالات التي لا تتناهى فهو سبحانه الواحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
ـ وأنه سبحانه خالق كل شئ ومالكه ومدبر أمره "ألا له الخلق والأمر" ((الأعراف ، آية: 24)).
ـ وأنه تعالى جدّه مصدر كل نعمة في هذا الوجود، دقت أو عظمت، ظهرت أو خفيت "وما بكم من نعمة فمن الله" (النحل ، آية : 53) .
ـ وأن علمه محيط بكل شئ، فلا تخفى عليه خافية  في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى الإنسان وما يعلن: "وأن الله قد أحاط بكل شئ علماً" (الطلاق ، آية : 12).
ـ وأنه سبحانه يخفي على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب "مال هذا الكتاب  لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلاأحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً" (الكهف ، آية : 49".
ـ وأنه سبجانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون، وما يهوون ليعرف الناس معادنهم، من منهم يرضى بقضاء الله وقدره ويسلم له ظاهراً وباطناً فيكون جديراً بالخلافة والإمامة  والسيادة، ومنهم من يغضب، ويسخط فلا يساوي شيئاً ولا يسند إليه شئ "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" (الملك ، آية : 2".
ـ وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه ، ولاذ بحماه، ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر: "إن وليّ الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين" (الأعراف ، آية : 196).
ـ وأنه سبحانه، حدد مضمون هذه العبودية وهذا التوحيد في القرآن الكريم.
إن تربية أفراد الأمة على المعاني الإيمانية والتصورات الصحيحة خطوة مهمة في نهوض الأمة وتحتاج التذكير والتعليم والتربية لكل أفراد المسلمين، وقد ظل صلى الله عليه وسلم يطرق مع أصحابه هذه الجوانب ويكررها عليهم وعلى من آمن به ويفتح عيونهم عليها من خلال الكتاب المنظور والكون المسطور حتى خشعت قلوبهم وسلمت أرواحهم وطهرت نفوسهم، ونشأ لديهم تصور وإدراك لحقيقة ومضمون الألوهية يخالف تصورهم الأول وإدراكهم القديم.
واهتم صلى الله عليه وسلم بغرس حقيقة المصير وسبيل النجاة لأصحابه مؤقناً أن من عرف منهم عاقبته وسبيل النجاة والفوز في هذه العاقبة، سيسعى بكل ما أوتي من قوة ووسيلة لسلوك هذا السبيل، حتى يظفر غداً بهذه النجاة وذلك الفوز، فقد ركز صلى الله عليه وسلم في هذا البيان على الجوانب التالية:
ـ إن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال، ,أن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير: "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون" (يونس ، آية : 24" "قل متاع الدنيا قليل" (النساء ، آية : 77".
ـ وأن كل الخلق إلى الله راجعون، وعن أعمالهم مسئولون ومحاسبون وفي الجنة أو في النار مستقرون، "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" (القيامة ، آية : 63).
ـ وأن نعيم الجنة ينسي كل تعب ومرارته في الدنيا وكذلك عذاب النار ينسي كل راحة وحلاوة في هذه الدنيا: "أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون" (الشعراء ، آيات : 205 ـ 207) ، "كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية" (الحاقة ، آية : 24).
ـ وأن الناس مع زوال الدنيا واستقرارهم في الجنة، أو في النار سيمرون بسلسلة طويلة من الأهوال والشدائد "يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئٌ عظيم * يوم يرونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى  وما هم بسكارى ولكنَّ عذاب الله شديد"(الحج ، آيات : 1 ـ 2)، وقال تعالى: "وكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً * السماء منفطر به كان وعده مفعولاً" (المزمل ، آيات : 17 ـ 18).
ـ وسبيل النجاة من شر هذه الأهوال ومن تلك الشدائد والظفر بالجنة والبعد عن النار، وبالإيمان بالله تعالى وعمل الصالحات إبتغاء مرضاته "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير" (البروج ، آية : 11).
ـ ومضى صلى الله عليه وسلم كذلك يبصرهم ويذكرهم بدورهم ورسالتهم في الأرض، ومنزلتهم ومكانتهم عند الله، وظل صلى الله عليه وسلم معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم ما لهم عند الله وما دورهم ورسالتهم في الأرض، وتأثراً بتربيته الحميدة تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس أصحابه فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكل ما في وسعهم وما في طاقتهم دون كسل أو توان، ودون كلل أو ملل، ودون خوف من أحد إلا من الله، ودون طمع من مغنم إلا أداء هذا الدور وهذه الرسالة، لتحقيق السعادة في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة.
إن الفقهاء والعلماء الذين تولوا مهام تربية وتعليم المماليك في نهاية عهد الدولة الأيوبية حرصوا على الإعداد الرباني وكانت خطواتهم تتم بكل هدوء وتدرج وانصبَّت أهدافهم التربوية على تعليم الكتاب والسنة وتلاوة القرآن الكريم وتطهير النفوس من أمراضها وإعداد الأفراد لتحمل تكاليف الجهاد والدفاع عن حياض الإسلام والهجوم على أعدائه وقد غرست تلك التربية الكثير من القيم الأخلاقية، كالإخلاص لله والصبر، والتوكل والاستعانة وكثرة الدعاء والثبات والخوف والحذر من الله عز وجل، وكان لهذه التربية المتميزة أثرها على أطفال وشباب المماليك فنشأوا على تعظيم أمر الدين الإسلامي، وتكونت لديهم خلفية واسعة عن الفقه الإسلامي، وأصبحت مكانة العلماء عالية عند المماليك طيلة حياتهم وهذا من أسباب النهضة الحضارية الثقافية العلمية الراقية التي وجدناها في عهد المماليك.

2 ـ المرحلة الثانية:  وهي التي تبتدئ بسن البلوغ حيث يشرع في تعليمه فنون الحرب من رمي السهام ولعب الرمح والضرب بالسيف وركوب الخيل، ويراعى في هذ المرحلة الأخذ بشدة، فلا يتسامح مع المملوك إذا أخطأ ةإنما يعاقب عقاباً قاسياً إذا بدا عليه الشذوذ في أخلاقه أو الانحراف عن المبادئ الدينية، ثم يقسمون إلى فرق يتولى كل منهم معلم في العلوم الرياضية والتدريبات العسكرية، فيتمرنون على فنون من الرياضة العنيفة مثل  السباحة والعوم لمسافات طويلة والمبارزة، ولعب الكرة راجلين وراكبين، وأما في أوقات الفراغ فإنهم يتركون إلى هواياتهم العملية أو الدينية أو الأدبية، ومن هنا ندرك السر في ظهور عدد من المماليك في صفوف الفقهاء والشعراء والكتاب البارزين.
وقد كان لهم خداماً وأكابر من النواب يفحصون الواحد منهم فحصاً شافياً ويؤخذونه أشد المؤاخذة ويناقشونه على تحركاته وسكناته فإن عثر أحد مؤدبيه الذي يعلمه القرآن أو رأس النوبة الذي هو حاكم عليه على أنه اقترف ذنباً أو أحل برسم أو ترك أدباً من آداب الدين أو الدنيا قابله على ذلك بعقوبة شديدة بقدر جرمه فلذلك كانوا سادة يدبرون الممالك وقادة يجاهدون في سبيل الله وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل ويردعون من جار أو تعدى.
3 ـ المرحلة الثالثة: وهي مرحلة ظهور المواهب العسكرية، ووضوح الاتجاهات والكفايات السياسية، وفي هذه المرحلة تعقد المبارزات بين المماليك، لمعرفة مقدار المهارة الفنية والعسكرية في صفوفهم، ثم يرسلون إلى ميادين القتال ليعرف بلاؤهم هناك، ثم يكافأ المبرزون منهم بمنحهم الحرية، وعتقهم من الرق، وهناك من يبقى في الرق مع تولي المناصب كالذين باعهم سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام ثم اعتقهم ووضع اثمانهم في بيت مال المسلمين، ويوضعون في وظائف عسكرية صغيرة، يترقى فيها المملوك حتى يبلغ الإمارة،فيمنحه السلطان لقبها، ثم يترقى في سلكها، حتى يصل إل كبريات المناصب في الدولة وكثيراً ما كانت ترتفع به مواهبه وعبقريته إلى منصب السلطنة ورياسة الدولة، وبفضل الله ثم هذه التربية المتميزة نبغ من بين هؤلاء من خلّد التاريخ بطولاتهم، وسجل على صفحاته امجاداً عظيمة للمسلمين من تصديهم للمشروع المغولي والقضاء على الوجود الصليبي في ديار المسلمين، يقول بروكلمان في شأنهم: وعدت الاجيال التالية عصر بيبرس كما عدت عهدي الرشيد وصلاح الدين ـ أحد العصور الذهبية في الإسلام.
4 ـ نظام الأكل والثياب والراحة: كان لتعليم المماليك نظام دقيق، فليس لهم أن يخرجوا من مقرهم، إطلاقاً، لا سيما ليلاً، وكان عليهم أن يذهبوا إلى الحمام يوماً في الأسبوع، ويكون أكلهم اللحم والأطعمة والفواكه والحلوى، والفول المسلوق وغير ذلك، وكانوا يتسلمون كسوات فاخرة، وقد يأخذون مرتباً قليلاً قد يصل إلى ثلاث أو عشرة دنانير في الشهر، وكان السلطان يذهب ليتفقد أحوالهم من طعام وغيره، ولكن منذ عهد السلطان برقوق سمح للمماليك بالخروج من الطباق والمبيت خارجها في القاهرة، بحيث أصبحت فقط مكاناً لتعليمهم، ويلاحظ المقريزي أن ذلك جرَّ إلى نسيان تقاليد المماليك في التعليم بالطباق وأنهم أخلدوا إلى البطالة، وسعوا إلى نكاح النساء، حتى صارت المماليك أرذل الناس وأدناهم.
5 ـ نظام التخرج وإنهاء الدراسة: كانت الدراسة في الطباق بين أربعة أو خمسة عشر شهراً، وإن كانت أحياناً تمتد إلى عدة سنين، فإذا إنتهت الدراسة، أعتق المملوك، ويكون الإعتاق بالجملة ويقام له إحتفال خاص يحضره السلطان والأمراء وذلك بناء على شهادة تسمى إعتاق أو عتاقه، فسلم المملوك سلاحاً وفرساً ولباساً خاصاً ((قماشاً)) وإقطاعاً يبقى له مدى الحياة، وحينئذ يسمى عتيقاً أو معتوقاً ـ جمعها معاتيق ـ ومعتقه يسم أستاذه أما رفاقه المتحررون معه، فيسمون خشداشية، مفردها خشداش وكان المماليك المتخرجون يقسمون أقساماً، لكل جماعة منهم باش أو نقيب، أما الذين يصلون إلى الإمارة وهي مرتبة تهيء الوظاف الكبرى الحاكمة في البلاط والجيش أو حتى للسلطنة نفسها وكان من المفروض أن المملوك لا يحصل على الإمارة إلا بعد أن ينتقل من مرتبة إلى مرتبة، فلا يليها إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه وامتزج بروح الإسلام وبرع في الشئون الحربية، بحيث من كان منهم من يصير من كثرة علمه في مرتبة فقيه أو أديب أو حاسب،، لذلك كانوا سادة يديرون المماليك وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة.
6 ـ لغة المماليك: هي اللغة التركية، وهي لغة مملوءة بالفارسية والعربية حتى لو لم يكونوا تركاً، فعدد كبير من سلاطين المماليك وأمرائهم وصلوا إلى السلطنة ووظائفها العالية، دون أن تكون لهم معرفة بالعربية، ومع ذلك، فكثير من المماليك أتقن العربية وأصبح فصيح اللسان، وله مسائل في الفقه عويصة، يرجع له فيها العلماء.
7 ـ رابطة الأستاذية بين المماليك: كانت أقوى الروابط بين المماليك هي رابطة الأستاذية بين الأستاذ ومماليكه الذين اشتراهم وأشرف على تربيتهم وتدريبهم، كما كان يوليهم عناية كاملة، بل إن الأستاذ كان يتناول طعامه مع مماليكه ويحرص على مجالستهم وزيادة أواصر العلاقة بينه وبينهم لكي يضمن ولاءهم وكان الملك المنصور قلاوون يخرج في غالب أوقاته إلى الرحبة عند استحقاق حضور الطعام للمماليك ويأمر بعرضه عليهم ويتفقد لحمهم ويختبر طعامهم في جودته ورداءته، فإن رأى فيه عيباً اشتد على المشرف والاستادار، ونهرهما، وحلَّ بهما أي مكروه. وكان يقول: كان الملوك يعلموا شيئاً يذكرون به ما بين مال وعقار، وأنا عمرت أسواراً، وعملت حصوناً مانعة لي لأولادي وللمسلمين، وهما المماليك، وكانت المماليك تقيم بهذه الطباق. لا تبرح فيها. وهذا النص يكشف عن أحد أركان المؤسسة المملوكية والعلاقات داخلها، فالسلطان ـ وهو مملوك في الأصل ـ يدرك أهمية المماليك في حماية عرشه وأسرته، ويصفهم بأنهم مثل الأسوار والحصون المانعة، كما أنهم عمل يخلد اسمه بين الملوك والحكام. ومن ناحية أخرى يكشف هذا النص عن أسباب قوة رابطة (الأستاذية) التي ربطت برابطة الولاء الشخصي بين السيد ومماليكه، فواجبه أن يرعاهم ويغدق عليهم ويعتني بهم، وواجبهم أن يحموه وأن يصونوا عرشه ويدافعوا عن أسرته.
8 ـ رابطة الخشداشية (الزمالة): وهي من اقوى الروابط القائمة على الولاء الشخصي في الدولة، وتفسير ذلك أن هؤلاء الذين جلبوا أطفالاً، ثم عزلوا عن المجتمع في معسكرات صارمة القوانين،وعاشوا حياتهم الباكرة في سن الشباب سوياً، لم يكونوا يجدون الأمان والطمأنينة سواء مع بعضهم البعض، ولهذا تميزت الفرقة المملوكية بالطائفية القائمة على الولاء الشخصي، فالمماليك كانوا عادة ينسبون إلى السلطان الذي إشتراهم، فالمماليك الظاهرية مثلاً نسبة إلى الظاهر بيبرس، والمعزية نسبة إلى المعز آيبك، والناصرية نسبة إلى الناصر محمد بن قلاوون، وهكذا، ومن ناحية أخرى أدى هذا إلى زيادة نسبة الصراعات الدموية في سبيل الوصول إلى الحكم.
ولقد أحسن السلاطين الذين جمعوا بين التربية الدينية والتدريب العسكري للمماليك في معسكراتهم، ولذلك نجد هؤلاء المقاتلين الأفذاذ في الفترة الأولى من عهد المماليك يتميزون بالحماسة والغيرة على البلاد والمقدسات الإسلامية وهو الأمر الذي تجلى واضحاً على تصديهم للمشروع المغولي وقضائهم على الوجود الصليبي في بلاد الإسلام.
9 ـ هل هؤلاء أجلاب؟: لا يمكن أن نتخيل مدلول كلمة ((المماليك)) بمعنى الرقيق المجلوب من أسواق النخاسة بالنسبة لكل هؤلاء المماليك، لأننا نعلم أن جماعات من الأتراك الفارين من وجه المغول إلى الشرق الأدنى دخلوا في خدمة سلاطين مصر، ولم تمض سوى فترة وجيزة حتى نشأ بين هذه الجموع التركية، جيل جديد من الحكام، بسط سلطانه على مصر وسوريا حتى الفتح العثماني، كما أن بعض هؤلا المماليك، كان من سلالة ملكية يتصل في نسبه إلى ملك خوارزمشاه، مثل السلطان ((قطز)) بطل موقعة عين جالوت،ولقد كفل نظام تربيتهم الدقيق، الذي يفوق نظام الداخلية الآن في أي مدرسة أو جامعة أو كلية عسكرية كفل لهؤلاء القوم، صيانة مركزهم الأدبي، كما أتى ثماره في الحفاظ على أخلاقهم، وأتاح فرصة الظهور في المجالات المختلفة مما عاد على البلاد بالخصب والغنى، وعلى العلم والثقافة والفنون، بما فاق كل إنتاج علمي وثقافي وفني في العالم الإسلامي.
10 ـ الكليات العسكرية الحديثة: إن الدول العربية والإسلامية في يومنا هذا، عليها أن تعيد النظر في عقيدة جيوشها، وأن تربي المنتسبين إليها على العقيدة الصحيحة، والعبادة السليمة والأخلاق الفاضلة، وتجارب الحروب في تاريخ أمتنا، وسنن الله في إنتصار الأمم وهزيمتها،وهذا يحتاج إلى إعادة النظر في برامج الدراسة، والقائمين عليها، ولا ننسى أبداً أهمية الاستفادة من التكنولوجية المعاصرة، والحرب النفسية وتطوير السلاح ومعرفة أسراره والعمل بقول الله تعالى: "واعدوا ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون" (الأنفال ، آية : 60).
11 ـ الشيخ عز الدين عبد السلام بائع أمراء المماليك: رأى الشيخ عز الدين عبد السلام أن المماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين واستغلهم في خدمته وجيشه، وتصريف شئون الدولة يمارسون البيع والشراء وهو تصرف باطل، لأن المملوك لا ينفذ تصرفه، فأخذ سلطان العلماء لا يمضي لهم بيعاً ولا شراء، فضايقهم ذلك وشجر بينهم وبينه كلام حول هذا المعنى فقال لهم بائع الملوك: أنتم الآن أرقاء لا ينفذ لكم تصرف، وإن حكم الرق مستصحب عليكم لبيت مال المسلمين، وقد عزمت على بيعكم فاحتدم الأمر، وبائع الملوك مصمم، لا يصحح لهم بيعاً ولا شراء، ولا نكاحاً، فتعطلت مصالحهم، وكان من جملتهم نائب السلطان الذي اشتاط غضباً، واحمر أنفه، فاجتمع مع شاكلته، وأرسلوا إلى بائع الملوك، فقال: نعقد لكم مجلساً وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه، فلم يرجع فخرجت من السلطان كلمة فيها غلظة حاصلها الإنكار على الشيخ ـ رحمه الله ـ في دخوله في هذا الأمر، وإنه لا يتعلق به، وهنا أدرك الشيخ العز أن أعوان الباطل تمالؤوا عليه ووقفوا في وجه الحق وتطبيق الشرع، وتنفيذ الأحكام التي لا تفرق ـ في الدين ـ بين كبير وصغير، وحاكم ومحكوم وأمير ومواطن، فلجأ إلى سلاحه الضعيف الباهت في ظاهره القوي الفعال المدمر في حقيقته وجوهره وسنده، وأعلن الإنسحاب وعزل نفسه عن القضاء وقرر الرحيل عن القرية الظالم أهلها والتي ترفض إقامة شرع الله، ونفذ العز قراره فوراً، وحمل أهله، ومتاعه على حماره وركب حماراً آخر وخرج من القاهرة، وما انتشر الخبر بين الناس في مصر حتى تحركت جموع المسلمين وراءه فم تكن إمرأة ولا صبي ولا رجل لا يؤوبه إليه بتخلف، ولا سيما العلماء والصالحين، والتجار، وأمثالهم ولسان حالهم يقول: لا خير في مصر إن لم يكن فيها العز بن عبد السلام وأمثاله، القائمون بالكتاب والسنة والآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، والمجاهدين في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، ولا شماتة شامت، ورفعة التقارير حول هذه الظاهرة إلى القاهرة، وكانت التوصيات: متى راح ذهب ملكك فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فرجع أن ينادى على ملوك مصر وأمرائها ويبيعهم، وأرسل إليه كبيرهم ـ نائب السلطان ـ بالملاطفة والشيخ لم يتغير، لأنه يريد إنفاذ حكم الله، عندئذ إنزعج نائب السلطان وأصدر قراره بتصفية الشيخ جسدياً وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض والله لأضربنه بسيفي هذا بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف في يده صلتاً وطرق الباب فخرج إليه ولد الشيخ، فرأى أمراً جلداً، وعاد إلى أبيه، وأخبره الحال، فقال بائع الأمراء ممتلئاً إيماناً بربه، قائلاً لولده: يا ولدي: أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، فلما رآه نائب السلطان اهتزت يده وارتعدت فرائصه وسقط أرضاً، فبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له قائلاً: يا سيدي، خيراً أي العمل؟ فقال الشيخ أنادي عليكم وأبيعكم، قال نائب السلطان: ففيما تصرف ثمننا؟ قال الشيخ: في مصالح المسلمين قال ناب السلطان: من يقضيه؟ قال الشيخ: أنا وأنفذ الله أمره على يد الشيخ ـ رحمه الله ـ فباع الأمراء منادياً عليهم واحد تلو الآخر وغالى سلطان العلماء في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير التي تعود بالنفع على البلاد والعباد. ومن هنا عرف الشيخ العز بأنه (بائع الملوك) واشتهر أمره في الآفاق، وسجل له التاريخ موقفاً فريداً لم يشهده العالم أجمع، وعلا صوت الحق، وعز العلماء وتم تطبيق شرع الله تعالى، وهزم الباطل وطاشت سهام السلطة والقوة المادية، أمام سلطان الله تعالى، وأحكامه، وصدق على العز حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". وعاد العز إلى عرينه في كنف الله تعالى ورعايته وهو القائل: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفر" (الحج ، آية : 38)، والقائل: "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (يوسف ، آية : 21).

12 ـ عصر الأفذاذ: هذه التسمية انفرد بها على حسب علمي الشيخ محمد محمد حسن شُرَّاب حيث قال: لا أدري من الذي أضاف هذا العصر إلى لفظ (المماليك) ولا أعرف من أول من أعطاهم هذا اللقب، إن كان الذين وضعوا هذا الوصف (المملوكي) هم العرب، فإنهم والله أساءوا إلى من أحسن إلى بلادهم، وإن كان الذين وضعوا هذا الوصف هم الغربيين الأوربيين كان علينا أن نعرف أن الأعداء لا يصفون عهودنا التاريخية إلا بأحسن الصفات إليهم، وأبغض الصفات إلينا، فما كان لنا أن نقلدهم ونسير على هديهم، فالغربيون الصليبيون يحقدون على عصر صلاح الدين، وعلى عصر (الأفذاذ)، وقولهم (المماليك) إنما هو لقب (ذم)، هم يحقدون على هؤلاء الأفذاذ، لأنهم حرموا الصليبيين من تحقيق أطماعهم في العودة إلى القدس، ذلك أن الحملات الصليبية لم تفتر بعد صلاح الدين وذكرنا قول هذا أنهم دخلوا القدس مرتين بعد أن حرره صلاح الدين، وكانت بقيت لهم ممالك وحصون كثيرة على الساحل وهؤلاء الذين نلقبهم (المماليك) هم الذين نظفوا البلاد من الصليبيين وأزالوا آخر مملكة صليبية سنة 690هـ/1291م أي: بعد فتح القدس بمائة سنة.. وهؤلاء الذين نصفهم بالمماليك، هم الذين هزموا أكبر غزو وحشي على البلاد الإسلامية، بعد الغزو الصليبي ألا وهو الغزو المغولي، ومعركة عين جالوت تتحدث عنها الركبان، وتعد رمزاً لقوة الإسلام.. وعهد هؤلاء الأفذاذ العلمي من العهود الزاهرة وآثارهم العلمية والعمرانية شاهدة لتاريخهم المجيد، فقد عددت لهم في القدس وحدها خمس وثلاثين مدرسة لتعليم العلوم النافعة، وعشرات المساجد، والبنايات والأوقاف والأربطة والإصلاحات، إنهم إذا كانوا مماليك، فإنهم في رأيي مماليك الإحسان عل معنى قول الشاعر:
            أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
                            فطالما استعبد الإنسان إحسان

فأولئك أحسوا في قرارة نفسوهم إن الله أحسن إليهم عندما جلعهم مسلمين وحكاماً، فامتلك قلوبهم هذا الإحسان، لم يفخروا بنسب ينتمون إليه، وإنما فخروا بأعمالهم التي خلدتهم، ومن حقهم علينا، أن نلقبهم بأحب الألقاب إليهم في حياتهم، ومن حقهم علينا أن نذكرهم في التاريخ بالصفة التي تدل على الوفاء لهم جزاء ما قدموا للعرب والمسلمين، ومن الأوصاف المناسبة لعصرهم أن نقول: عصر الأفذاذ.

ثالثاً: جهود المماليك في دحر الحملة الصليبية السابعة:
عندما قرر الصليبيون الزحف نحو القاهرة توفي الملك الصالح أيوب، وكانت محنة عظيمة ألمت بالمسلمين، وكان عمره عند وفاته 44 سنة، وقد عهد لولده الملك المعظم تورانشاه ولم يكن موجوداً في مصر، وظهرت على مسرح الأحداث زوجته شجرة الدر وأدركت خطورة إذاعة خبر وفاة زوجها نجم الدين على الجند، فقررت إخفاء خبر الوفاة، ولم يعرف ذلك إلا الخاصة وقدمت وثيقة تحمل توقيع السلطان بتعيين إسمه تورنشاه قائداً عاماً للجيوش ونائباَ للسلطان اثناء مرضه، وخلال ذلك كان الصليبيون يتحركون جنوباً ووصلوا إلى مدينة فارسكور في الثاني عشر من ديسمبر 1249م، ومنها تقدموا إلى شار مساح ثم البرامون واصبح بحر أشمون هو الفاصل بين المسلمين والصليبيين، وعند هذه المرحلة توقفت القوات الصليبية واقامت معسكرها على الضفة الشمالية وعملت على تأمين معسكرها بحفر الخنادق وإقامة المتاريس وظلوا على هذا حوالي شهر ونصف، ثم شرعوا في بناء جسر ليعبروا عليه على الضفة الجنوبية لبحر أشموم، ولم تكن عملية إقامة الجسر بالأمر الهين، فقد أمطرهم المسلمون وابلاً من القذائف ولم يتمكنوا من إقامته وأخيراً نجح الصليبيون في التعرف على مخاضة ـ دلهم عليها أحد العربان وفي رواية أحد الأقباط ، بعدما رشوه بالمال، تمكنوا من العبور إلى المعسكر الإسلامي وكانت خطة الملك لويس أن يعبر هو واخوته وجزء كبير من الجيش المخاضة إلى الجنوب، ويقوم بقية الجيش الصليبي بحراسة المعسكر الصليبي، وبعد إتمام عملية العبور تقوم الفرقة المخصصة للحراسة باستكمال عملية إقامة الجسر، وإذا تم النصر على القوات الإسلامية في المنصورة يتقدم الجيش الصليبي إلى القاهرة، وعبرت القوات الصليبية في عجز الثامن من فبراير عام 1250م وكانت عملية شاقة وبطيئة بسبب عمق المخاضة، وكان في طليعة القوات الصليبية الكونت آرتو الذي شن على القوات الإسلامية المواجهة له هجوماً، وحقق نصراً عليها، وعندما وصلت هذه الأخبار إلى الأمير فخر الدين أسرع بدعوة القوات الإسلامية والتحم مع الصليبيين في معركة عنيفة وقع فيها فخر الدين شهيداً، فغسل بذلك عار إنسحابه من جيزة دمياط واغتر الكونت آرتو بالنصر الذي أحرزه ولم يبال بأوامر الملك لويس التاسع ونصائح القادة الصليبيين بالتريث حتى تتكامل القوات الصليبية وأراد أن ينفرد بشرف النصر لنفسه.

1 ـ معركة المنصورة: اغتر روبرت آرتو بقوته، وتابع زحفه إلى المنصورة لاقتحامها، والقضاء على الجيش الأيوبي، وأعرض عن توسلات الراوية بأن ينتظر وصول الملك والجيش الرئيسي، ونصحه بعضهم بالحيطة والحذر، ثم بادر، باقتحام المنصورة، فأضحت المنصورة ساحة لحرب الشوارع وتولى قيادة المسلمين الأمير بيبرس البندقاري فأقام جنده في مراكز منيعة داخل المدينة، وانتظروا حتى تدفق الصليبيون بجموعهم إلى داخلها، ولما أدركوا أنهم بلغوا أسوار القلعة التي إتخذها المصريون مقراً لقيادتهم، خرج عليهم المماليك في الشوارع والحارات والدروب وأمعنوا في قتالهم، ولم يستطع الصليبيون أن يلتمسوا لهم سبيلاً إلا الفرار، فوقع الاضطراب بين الفرسان ولم يفلت من القتل إلا من ألقى بنفسه في النيل، فمات غريقاً أو كان يقاتل في أطراف المدينة.، وكانت المنصورة مقبرة الجيش الصليبي، وأول إبتداء النصر على الفرنج، وجزع لويس التاسع بتلك الصدمة لكنه تملك نفسه، وبادر إلى إقامة خط إمامي لمواجهة ما توقعه من هجوم، من قبل فرسان المماليك ضد قواته، كما اقام جسراً من الصنوبر على مجرى البحر الصغير عبر عليه النيل مع رجاله ووزع رماته على الطرف البعيد للنهر حتى يكفلوا الحماية للجند عند عبورهم متى دعت الضرورة إلى ذلك، لكن المماليك لم يتركوه وشأنه وبادروا إلى شن هجوم على المعسكر الصليبي وقاد الملك الفرنسي المعركة بنفسه وأجبر المسلمين على التراجع نحو المنصورة، وعلى رغم من الانتصار الصليبي، إلا موقف الصليبيين أخذ يزداد سوءاً بسرعة واضحة، بعد أن قلت المؤن، كما فقدوا نسبة مرتفعة من فرسانهم في معركة المنصورة، وانتشرت الأمراض في معسكرهم، وظل الملك الفرنسي زهاء ثمانية أسابيع، في معسكره أمام المنصورة، آملاً بأن يحدث إنقلاب في مصر، أو يقوم المصريون بثورة على الحكم الأيوبي.

2 ـ تورانشاه يقود المعركة: وصل تورانشاه إلى المنصورة في 17 ذو القعدة 647هـ/21 شباط 1250م بعد أن أعلن سلطاناً في دمشق، وهو في طريقه إلى مصر، فأعلنت عندئذ وفاة الصالح أيوب وسلمته شجرة الدر مقاليد الأمور، فأعد خطة عسكرية كفلت له النصر النهائي على الصليبيين. وكان وصوله إلى مصر إيذاناً بإعادة إرتفاع الروح المعنوية عند المصريين وبين صفوف المماليك وتيمّن الناس بطلعته. وأمر بإنشاء اسطول من السفن الخفيفة نقلها إلى فروع النيل السفلى وأنزلها في القنوات المتفرعة، فأخذت تعترض طريق السفن الصليبية التي تجلب المؤن للجنود من دمياط، فقطع بذلك الطريق عليها وحال دون اتصال الصليبيين بقاعدتهم دمياط، وفقد الصليبيون عدداً كبيراً من سفنهم قدّرتها المصادر بما يقرب من ثمان وخمسين سفينة، انقطع المدد من دمياط عن الفرنج ووقع الغلاء عندهم، وصاروا محصورين لا يطيقون المقام، ولا يقدرون على الذهاب وتشجع المسلمون وطمعوا فيهم وأدرك لويس التاسع استحالة الزحف نحو القاهرة في ظل هذه الاوضاع وبدأ يفكر في العودة إلى دمياط وفعلاً أمر بالإرتداد وأحرق الصليبيون ما عندهم من الخشب وأتلفوا مراكبهم ليفروا إلى دمياط، كما أدرك أن عملية الانسحاب لن تكون سهلة، وأن المماليك سوف يطاردون جيشه لذلك لجأ قبل أن يبدأ بعملية الإنسحاب إلى فتح باب المفاوضات مع تورانشاه على أساس ترك دمياط مقابل أخذ بيت المقدس، غير أن الوقت قد فات على مثل هذه المساومة وكان طبيعياً لأن يرفض تورانشاه هذا الإقتراح وبخاصة أنه علم بحرج موقف الملك، وفي صباح المحرم عام 648 هـ / نيسان عام 1250م بدأت عملية المهندسون الصليبيون على أن يدمروا الجسر الذي أقاموه لإجتياز البحر الصغير فلم يلبث المماليك أن عبروه وراءهم، وقاموا بعملية مطاردة منظمة، وهاجموه من كل ناحية، وبفضل ثبات الملك الفرنسي وحسن إدارته بعملية الإنسحاب، وصل الصليبيون إلى شرمساح عند منتصف الطريق بين المنصورة ودمياط، ولكن كان هذا الملك مريضاً، وأحاط المماليك بجيشه من كل جانب، وراحوا يتخطفونهم، وشنوا عليهم هجوماً عاماً في فارسكور ولم يقو الملك على القتال ، وتم تطويق الجيش بأكمله، وحلت به هزيمة منكرة، ووقع كل أفراده تقريباً بين قتلى وجرحى وأسرى، حيث سيق مكبلاً إلى المنصورة، وسُجن في دار فخر الدين إبراهيم بن لقمان وعُهد إلى الطواش صبيح بحراسته وخُصّص من يقوم بخدمته، وكانت معظم الحرب في فارسكور، فبلغت عدَّة القتلى عشر’ آلاف في قول المقل وثلاثين ألفاً في قول المكثر وأسر من الفرنج عشرات الألوف بما فيهم صناعهم وسوقتهم، وغنم المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى كثرة وأبلت الطائفة المملوكية البحرية ـ لا سيما بيبرس البندقداري ـ في هذه المعركة بلاء حسن وبان لهم أثر جميل.
3 ـ صور من شجاعة المماليك: تعددت صور شجاعة هؤلاء المماليك في التعدي لأعداء الإسلام وشهد التاريخ ببسالة الدور الذي لعبه المماليك في مقاومة الصليبيين فذكر جوانقيل آن الكونت بواتييه والكونت فلاندر وبعض قادة قواتهم كان يرسلون إلى الملك لويس يتوسلون إليه: أن يقصر عن الجريمة لعجزهم عن متابعته لضغط المماليك الشديد عليهم. ويقول ثم جاء للكونتابل جندي كان يعمل صولجاناً ويرتجف خوفاً وأخبره أن الترك قد أحدقوا بالملك وأنه في خطر عظيم فرجعنا، وأبصرنا بيننا وبينه ما لا يقل عن ألف مملوك والملك قريب من النهر والمماليك يدفعون قواته ويضربون السيوف والصولجانات وأرغم القوات الأخرى على التقهقر، وقد وصفهم أحد المؤرخين عن تلك المعركة بقوله: والله لقد كنت أسمع زعقات الترك كالرعد القاصف ونظرت إلى لمعان سيوفهم وبريقها كالبرق الخاطف فلله درهم لقد أحيوا في ذلك اليوم الإسلام من جديد بكل أسد من الترك قلبه من حديد، فلم تكن إلا ساعة وإذا بالأفرنج قد ولوا عل أعقابهم منهزمين وأسود الترك لأكتاف خنازير الأفرنج ملتزمين.
وتضمنت انتصارات المماليك على الصليبيين أنهم استطاعوا الاستيلاء على ثمانين سفينة من سفن الصليبيين بعد أن قاموا بسحب بضعة سفن من سفن المسلمين إلى اليابسة وأنزلوها ثانية إلى الماء على بعد فرسخ من شمال معسكرهم فاستحالت عودة الفرنج الذين ذهبوا إلى دمياط لجلب المؤنة،وتم قتل جميع بحارة الثمانين سفينة كما استولوا على اثنين وثلاثين مركباً مما أضعفهم وطلبوا الصلح.
4 ـ لويس التاسع في الأسر وشروط الصلح:لم يهتم المسلمون كثيراً، بعد إنتصارهم، بأمر دمياط، ونظروا إلى أبعد من ذلك ففكَّروا باسترداد ما بأيدي الصليبيين في بلاد الشام، فاستغلوا وجود الملك الفرنسي في الأسر لتحقيق هذه الغاية، لكن لويس التاسع أجاب بأن هذه البلاد ليست في أملاكه، بل تخص الملك كونراد ابن الإمبراطور فريدريك الثاني، وعبثاً حاول تورانشاه إرغامه على الاعتراف  وأصرَّ لويس التاسع على رأيه، وقال: أنه أسيرهم، ولهم أن يفعلوا به ما يشاؤون، فبادر تورنشاه إلى إغفال هذا الموضوع لكنه قرَّر غزو بلاد الشام، وغالى في شروط الصلح، إذ كان لزاماً على الملك الفرنسي أن:
ـ يفتدى نفسه بأن يؤدي مليون بيزنتة وهذا مبلغ كبير.
ـ يُطلق سراح عدد كبير من الأسرى المسلمين.
ـ يسلم دمياط إلى المسلمين.
ـ يستمر الصلح مدة عشر سنوات.
وافق الملك الفرنسي على هذه الشروط، وأقسم الطرفان على احترامها،، وانتظر لويس لبعض الوقت حيث كانت زوجته تعاني آلام الوضع، وأرسل بعض رجاله إلى دمياط لتسليمها للمسلمين، ودخلت القوات المدينة في السابع من مايو بعدما ظلت في أيدي قوات لويس ما يقرب من عام، ودفع لويس نصف الفدية حسبما اتفق عليه وأطلق سراح الصليبيين من البر الشرقي إلى جيزة دمياط، ثم تابعهم باقي الصليبيين.
وفي يوم الأحد الربع من صفر عام 648هـ الموافق الثامن من مايو عام 1250م أقلعت سفن الفرنج واتخذت طريقها إلى عكا حاملة فلول الحملة بعد أن أنهكتها الهزائم وحلت بها الكوارث.
5 ـ من أسباب هزيمة الصليبيين في الحملة الصليبية السابعة:
ساهمت مجموعة من الأسباب في هزيمة الحملة الصليبية السابعة والتي من أهمها:
أ ـ التطوير العسكري في الجيش الأيوبي.
ب ـ وحدة الصف الإسلامي.
جـ ـ هيبة القيادة الإسلامية.
ح ـ نزول العلماء والفقهاء أرض الجهاد.
خ ـ جهل الفرنجة بجغرافية البلاد الإسلامية.
د ـ خطأ كبير في تقدير العامل الزمني.
ذ ـ العصيان وعدم الطاعة عند الصليبيين.
ر ـ إنحلال الحملة السابعة خلقياً.
ز ـ فتور الروح الدينية عند الصليبيين.
س ـ التهور وقصور النظر.
وقد فصلت في شرح الأسباب المذكورة في كتابي عن الحملات الصليبية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة.
6 ـ من نتائج الحملة الصليبية السابعة: لقد ترتب على هزيمة لويس التاسع عام 1250م/648هـ مجموعة من النتاج من أهمها:
أ ـ إرتفاع شأن ومكانة المماليك: فقد تبين بوضوح الدور البارز الذي قام به المماليك في معركة فارسكور وكيف أن جهادهم أعداء الإسلام كلل بالنجاح، وفي حقيقة الأمر، أن ذلك الدور كان له أثره في ارتفاع شأنهم وبذلك سيصبح لهم السند التاريخي في الوصول إلى العرش، وليس غريباً أن العام الذي شهد الانتصار على الغزاة وهو عام 1250م/648هـ هو ذاته الذي شهد نهاية تورانشاه حريقاً غريقاً لتنتهي الدولة الأيوبية، ويتم إفساح الطريق لدولة المماليك الأفذاذ لتدافع عن الإسلام، بقوة وعزم ونشاط وحيوية جهادية رائعة.
ب ـ عجز فرنسا عن تحقيق أهدافها: والملاحظ أن فعاليات فرنسا في دعم الحركات الصليبية وفي التوجه إلى البعد الأفريقي نالها الخسران المبين وعجزت فرنسا عن صنع واقع حربي وسياسي في المنطقة على حساب الأيوبيين وبذلك تأكد للدارسين كيف أن كافة المحاولات الصليبية لاخضاع مصر سواء في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي/ السادس والسابع الهجريين لم تحقق أدنى نجاح، ولا شك في أن صورة أسرة آل كايبة الحاكمة في فرنسا، ضعف أمرها بين الأسر الحاكمة في أوربا بسبب الهزيمة الشنيعة التي تعرض لها لويس التاسع ووقوعه في الأسر وغير ذلك من النتائج التي ذكرتها في كتابي عن الحملات الصليبية الرابعة والخامسة، السادسة والسابعة.
7 ـ مقتل تورانشاه وزوال الدولة الأيوبية: تباينت الآراء واختلف المؤرخون حول شخصية تورانشاه وتعددت أسباب قتله في نظرهم ولكنهم اجتمعوا على قتله على يد مماليك أبيه البحرية، ويرى المؤرخ المصري الدكتور قاسم عبده قاسم: بالرغم من الإنتصار الإسلامي الرائع على الحملة الصليبية فإن السلطان الأيوبي تورانشاه كان إخفاقاً أيوبياً جديداً مهد الطريق أمام نهاية الدولة الأيوبية وصعود الدولة الجديدة التي شادها المماليك، لقد فشل تورانشاه في الإستجابة للتحديات التي كانت تفرضها الظروف التاريخية وبدلاً من تكريس جهوده لتوحيد المسلمين للقضاء على الخطر الصليبي تماماً، بدأ يدبر للتخلص ((من شجرة الدر )) وكبار أمراء المماليك، وقد ذكر المؤرخون مجموعة من الأسباب أدت لقتل تورانشاه منها:
ـ أن هؤلاء المماليك خدموه أتم خدمة وانتظروا مجازاتهم واعتقد أنه سيملأ فراغ والده ولكنه قدم أمراءه وتوعد مماليك أبيه ـ الذين رباهم كأولاده ـ وقطع أخبازهم ونهب أموالهم ولم يعمل بوصية أبيه تجاههم.
ـ ومن الاسباب التي ذكرت في قتله أن مماليكه أشاروا عليه بصلح الفرنج بعد أن كان ملكهم في يديه حتى لا يحتاج إلى شجرة الدر أو مماليك أبيه لأنهم مسيطرين على الحكم وسولوا له لأن هؤلاء هم أعداءه وأن في صلح الملك وتركه وأخذ الأموال والجواهر صلاح الحال وتسليم دمياط، فشعر أمراء أبيه بتغيره عليهم واستهتاره بما قاسوه حتى وصلوا إلى هذا النصر على الصليبيين فدبروا قتله.
ـ وقيل أن من أسباب قتله أنه كان قد وعد الفارس أقطاي حين ذهب إليه يستدعيه من حصن كيفا أن يؤمره ولم يف بوعده فحقد عليه أقطاي، ولما ذكره بوعده، على لسان بعض خواصه رد قائلاً: أعطيه جباً مليحاً يليق به.
ـ وقيل من أسباب قتل المماليك له أنه تعرض لحظايا أبيه، فلماذا حظايا أبيه وقد كان في عصرمن الممكن الحصول فيه على أكبر عدد من المماليك والجواري والحظايا وكان طبيعياً أن لكل سلطان حظايا، فلم تكن ثروة ثمينة لا يستطيع الحصول على مثلها.
ـ وقيل من أهم أسباب قتله أنه طالب زوجة أبيه شجرة الدر بمال أبيه والجواهر وهددها فخافت منه فتلاقت مخاوفها مع مخاوف زعماء المماليك وغضبهم بعد أن حرمهم السلطان الجديد من إقطاعاتهم فاستقر الرأي على ضرورة التخلص من آخر سلاطين الايوبيين في مصر.
ـ وكان حبه لشرب الخمر أحد تصرفات تورانشاه التي اثارت حنق المماليك البحرية عليه وذكرها معظم من أرخ لتلك الفترة فقد كان يشرب الخمر حتى تدور راسه ويأتي بالشموع ويسميها باسم مماليك أبيه ويطيح بها بسيفه وقد حذره أبوه في وصيته بترك شرب الخمر، ولكن يبدو أنه لم يسمع النصيحة وقد جاء في الوصية: يا ولدي قلدت إليك أمور المسلمين، فأفعل فيهم ما أمرك به الله وبه رسوله يا ولدي إياك والشراب فإن جميع الآفات وما تأتي على الملوك إلا من الشراب.
ـ وذكر ابن العبري أن أحد تصرفات تورانشاه التي أثارت حفيظة البحرية ضده حين علم أن الملكة زوجة الملك لويس التاسع المعتقل لديه ولدت له إبناً في دمياط فسير إليها المعظم عشرة آلاف دينار ذهباً ومهداً للطفل ذهبياً وحللاً ملكية، وغير ذلك من الاسباب والمهم أن نعرف حقيقة هامة وهي أنهم شعروا باختلاف شديد في معاملة السلطان لهم ومعاملة تورانشاه المختلفة فقد كان الملك الصالح يحب مماليكه ويهتم بهم ويغدق عليهم الكثير من الإنفاق وقد بلغ من شدة اهتمامه بهم أنه ذكرهم في وصيته لابنه تورانشاه: الولد يتوصى بالخدم محسن ورشيد والخدم المقدمين لا تغيرهم فما قدمت أحد من الخدم ولا من المماليك إلا بعد ما تحققت نصحه وشفقته واستاذ الدار وأمير جاندار تتوصى بهم وكذلك الحسام لا تغييرهم فإني اعتمد عليهم في جميع أموري، وقد عينت في ورقة عند الأخ فخر الدين عشرين من المماليك تقدمهم وتعطي كل واحد منهم كوس وعلم وتحسن إليهم وتتوصى بالمماليك غاية الوصية، فهم الذين كنت أعتمد عليهم واثق بهم وهم ظهري وساعدي، تتلطف بهم وتطيب قلوبهم وتوعدهم بكل خير، ولا تخالف وصيتي ولولا المماليك ما كنت قدرت اركب فرسي ولا أروح إلى دمشق ولا إلى غيرهم فتكرمهم، وتحفظ جانبهم، وجاء في الوصية: والوصية بجميع الأمراء وأكرمهم واحترمهم وأرفع منزلتهم فهم جناحك الذي تطير به وظهرك الذي تركن إليه وطيب قلوبهم وزيد في إقطاعهم وزيد كل أمير على ما معه من العدة عشرين فارساً، وأنفق الأموال وطيب قلوب الرجال يحبوك وتنال غرضك في دفع هذا العدو، ومن الراجح أن هؤلاء المماليك توقعوا بعد الانتصارات التي حققوها والصعاب التي واجهوها في سبيل تخليص البلاد من ذلك الخطر الصليبي وحفظ البلاد للسلطان وحتى مجيئه وحلفهم له وتنصيبهم إياه سلطاناً على البلاد أن يقدر ذلك الجميل ويكافئهم كما تعودوا من أبيه، ويبدو أن الأمر كان مغايراً تماماً لما توقعوه وبعد أن كان لهم الحل والعقد والأمر والنهي آثر مماليكه ودأب على تهديد هؤلاء ووعيدهم، فلم يستطيعوا تقبل الأمر كما هو فقتلوه، وكانت أكبر أخطاء تورانشاه أنه أقام بنيابة السلطنة الأمير جمال الدين أقوش النجيبي بدلاً من الأمير حسان الدين أبي علي الذي كانت له هيبة في عهد الصالح وهو الذي كان قد أمر الخطباء بالدعوة لتورانشاه على المنابر يوم الجمعة بعد الدعاء لأبيه وهو الذي حرضّ على استدعائه في سرعة حتى لا يتغلب الأمير فخر الدين على البلاد عقب وفاة الصالح، فكان من الممكن أن يسانده ويتقوى به.
8 ـ كيفية مقتل تورانشاه:ونتيجة لبعض التصرفات الغير مسؤولة وعدم أخذ الحيطة اللازمة من تورانشاه قرر المماليك البحرية التخلص من تورانشاه وتزعم المؤامرة مجموعة من الأمراء البحرية منهم فارس الدين أقطاي وبيبرس البندقداري، وقلاوون الصالحي وأيبك التركماني وتم تنفيذ المؤامرة في صباح يوم الأثنين 28 محرم 648هـ / 2 أيار 1250م وكان السلطان آنذاك في فارسكور يحتفل بإنتصاره ويتهيأ لإستعادة دمياط، وجلس على عادته ليتناول طعامه، فتقدم إليه بيبرس البندقداري وضربه بسيفه ضربة تلقاها بيده، فقطعت بعض أصابعه، فأسرع تورانشاه إلى البرج الخشبي الذي أقامه على النيل ليمضي فيه بعض وقته وإحتمى به وهو يصيح، من جرحني؟ فقالوا: (الحشيشية) فقال: لا والله إلا البحرية! والله لا أبقيت منهم بقية، وضمد جراحه، فاجتمع أمراء المماليك، وقرروا قتله وقالوا: بعد جرح الحية لا ينبغي إلا قتلها ودخل ركن الدين بيبرس وفارس أقطاي وغيرهما من أمراء المماليك البحرية إلى البرج وهم شاهرون سيوفهم ففر تورانشاه إلى أعلى البرج، وأغلق بابه والدم يسيل من يده، فأضرموا النار في البرج ورموه بالنشاب، فالقى تورانشاه نفسه من أعلى البرج، وهو يصيح مستنجداً: ما أريد ملكاً دعوني أرجع إلى الحصن يا مسلمين، أما فيكم من يصطنعني ويجبرني، فلم يجبه أحد وأخذ يركض نحو النيل ونبال المماليك تأخذه من كل جانب حتى ألقى بنفسه في الماء على أمل أن يسبح إلى أحدى سفنه الراسية ليعتصم بها، ولكن سرعان ما لحق به اقطاي فقتله، وتركت جثته على شاطئ النيل ثلاثة أيام دون أن يتجاسر أحد على دفنه إلى أن شفع فيه رسول الخليفة العباسي، فحمل إلى الجانب الآخر من النهر ودفن، بعد أن حكم واحداً وستين يوماً،وقيل مدة سلطته بالمنصورة نحو أربعين يوماً، لم يدخل فيها إلى القاهرة ولا طلع قلعة الجبل ولم يعتلي سرير الملك، وبوفاة تورانشاه انقضت دولة بني ايوب بعد أن أقامت إحدى وثمانين سنة وسبعة عشر يوماً، وكان تورانشاه آخر من تولى السلطنة من بني أيوب، على أن بعض المصادر ذكرت أن الدولة الأيوبية بخلع شجرة الدر، فقد ذهب مجموعة من المؤرخين أن حكم شجرة الدر استمراراً للحكم الأيوبي، وأما في بلاد الشام فقد حكم الدولة الأيوبية لعدة سنوات أخرى.

رابعاً: أسباب سقوط الدولة الأيوبية:
إن أسباب سقوط الدولة الأيوبية كثيرة جامعها هو الابتعاد عن تحكيم شرع الله في أمور الحكم وغيرها، فقد وقع الظلم على الأفراد وتورط بعض السلاطين في الترف وحدث بينهم نزاع عظيم سفكت فيه الدماء وأدى ذلك إلى زوالهم، فعندما يغيب شرع الله في أمور الحكم ـ كما حدث في الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين ـ يجلب للأفراد والدولة تعاسة وضنكاً في الدنيا وأن آثار الابتعاد عن شرع الله لتبدو على الحياة في وجهتها الدينية والاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، وأن الفتن تظل تتوالى تترى على الناس حتى تمس جميع شئون حياتهم، قال تعالى : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" (النور ، آية : 63). لقد كان في إبتعاد سلاطين الأيوبيين بعد وفاة صلاح الدين عن تحكيم الشرع في نزاعاتهم وخلافاتهم آثار على أفراد البيت الأيوبي والدولة، فقد أصيبوا بالقلق والجزع والخوف، والشقاق والخلاف ونزع منهم الأمن وأصبحوا في الضنك من الحياة، إن هلاك الأمم وسقوط الدول وزوال الحضارات لا يحدث عبثاً في حركة التاريخ، بل نتيجة لممارسة هذه الأسرة الحاكمة أو الدولة، أو الأمة الظلم والانحراف وبعد أن يعطوا الفرصة الكافية حتى تحق عليهم الكلمة، فيدفعوا ثمن إنحرافهم، وإجرامهم وطغيانهم وفسقهم والآيات صريحة في ذلك، فالله إذا أنعم على دولة نعمة أياً كانت فهو لا يسلبها حتى يكفر بها أصحابها، قال تعالى: "ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الأنفال ، آية : 53)، والآيات في هذا كثيرة سواء ما يخص الفرد أو الأمة، بل أن القرآن الكريم ليذكر أن بعض ما يصيب الأمم والأفراد من استدراج حين يمهلهم الله تعالى وتواتيهم الدنيا، وتفتح عليها خيراتها فينسوا مهمتهم وما خلقوا له، بل ينسون المنعم جل جلاله وينسون ما عندهم لجهدهم وذكائهم، وقد يفلسفون الأمر فيقولون: لو لم تكن نستحق هذه النعم لما منحت لنا، وفي هؤلاء يقول الله تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا لهم ابواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" ( الأنعام ، آية : 44 ـ 45)، لقد نسى هؤلاء أن الله يمنح خيرات الدنيا لمن يطلبها ويجد فيها، قال تعالى: "ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها" (آل عمران ، آية : 45). ولكن هناك من يريد الآخرة بحق ويسعى لذلك فهو الفائز "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموماً مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * وكلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا" (الإسراء ، آيات : 18 ـ 20). وقال تعالى: "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون * ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون" (النحل ، آية : 112 ـ 113). ولنستمع لهذه الدعوة الكريمة "ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين" (هود ، آية : 52). وهناك آيات كثيرة تحاول قطع الطريق على بعض المتفلسفين من أهل الكتاب "ي أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" (المائدة ، آية : 19) ، فكل إنسان وكل مجتمع وكل أمة مسئولة عما يصدر عنها، ولا يتحمل أحد جريرة غيره "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون" (البقرة ، آية : 134). المهم أن الله تعالى لا يحجب نعمة عن أحد، بل يوزعها على المؤمن والكافر، ثم يراقب تصرف الكل فيها، فمن طغى وظلم، ومن كفر بها واستعملها استعمالاً سيئاً فإن العقاب العادل سينزل به في الوقت المناسب، وقد يطول ذلك العهد قبل نزول العقاب ولكنه يكون في الطريق، وبعد هذا وذلك فإنه "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" (البقرة ، آية : 286)، ومثل هذا في الأمم والمجتمعات وعلى مستوى الأفراد فإن الله خلق النصوص ملهماً إياها طريق الخير والشر، يقول تعالى: "ونفسٍ وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها" (الشمس ، آيات : 7 ـ 10). وقال "وهديناه النجدين" (البلد ، آية : 10)، ومن الملاحظ في دراسة أسباب سقوط الدول والحضارات بأنها لا تسقط بسبب واحد كما لا تقوم بسبب واحد، بل بتجمع عدة أسباب لقيامها، وعدة أسباب لتدهورها وسقوطها، بعضها يعمل ببطء، بينما يعمل البعض بسرعة أكبر، ولا تسقط الدولة والحضارة بضربة واحدة، بل بتضافر جملة من العوامل، وهذا ما حدث للدولة الأيوبية التي زالت من الوجود في مصر عام 648هـ وأهم هذه الأسباب في نظري:
1 ـ توقف منهج التجديد الإصلاحي: كان صلاح الدين رحمه الله رجل المرحلة، وجدت فيه صفات عظيمة، ساعده على ذلك الأجواء التي هيأها نور الدينت محمود من حبه للجهاد والعلم وتقريب العلماء، وإشاعة العدل، وسرى هذا في الأمراء والوزراء، ولكن المعضلة الرئيسية التي بقيت هي أن التجديد لم يتحول إلى مؤسسات راسخة إلى إتجاه عام في الدولة حتى لا ينقطع  بوفاة القائد أو المؤسس وذلك يرجع إلى أمور منها:
أ ـ نقص الفقه الحركي الذي وجه نشاطات المدارس الإصلاحية:
فإن مدارس الإصلاح في هذا العصر ركزت نشاطاتها على تحقيق عنصر "الإخلاص" في العمل ، أي أنها ركزت على التربية أكثر من الاستراتيجية، ولذلك لم تفرز ((فقه الحكمة)) اللازم لتنظيم مؤسسات السياسة والإدارة والاقتصاد وتنظيم مسئوليات العاملين فيها وأداهم وحسن إستثمار الموارد البشرية والمادية بما يناسب حاجات المكان والزمان، وإنما اكتفت بـ(فقه) الآباء الذي يركز على ((المظهر الديني للقيادة)) دون ((المظهر الاجتماعي))، وصار شيوخها ومتعلموها يسلكون طريق ((الزهو)) وينتمون إلى مذهب من المذاهب الفقهية التقليدية في آن واحد، ولهذا يوصف الواحد منهم بأنه ـ مثلاً ((قادري السلوك)) ((وشافعي المذهب))، كذلك لم تطرق هذه المدارس ميادين ((الفقه)) المتعلق بالمظهر الكوني للعبادة والمؤدي إلى تطور العلوم الطبيعية، وتسخير تطبيقاتها في ميادين الحضارة المادية المختلفة، وهذا النقص في الفقه السياسي والإداري جعل المنجزات التي حققها جيل صلاح الدين تعتمد على الشخصيات أكثر من فاعلية المؤسسات، فلما غابت الشخصيات القيادية على مسرح الحياة برز تأثير العامل الثاني، أي أثر العصبيات الأسرية والقبلية التي عادت لتوجه مؤسسات الحكم والإدارة بما فيها مدارس الإصلاح نفسها، وهذا التطور السلبي حقق إفراز ظواهر غير إيجابية منها:
ـ حين لم يحد جيل الأبناء فقهاً سياسياً وإدارياً ينظم عملية تعيين الحاكم ومؤسسات الحكم والإدارة إرتد إلى تقاليد العصبية الأسرية والقبلية وروابط الدم التي تعتبر الحكم وقيادة المؤسسات التربوية والعلمية ميراثاً يرثه الأبناء عن الآباء، الأمر الذي أدَّى إلى تفكك الدولة وإنقسامها حيث تقاسم الأبناء ما وحدَّه جيل الآباء، وأداروه طبقاً لتقاليد العصبيات الأسرية التي سبقت جيل صلاح الدين والتي كانت تعتبر أراضي الدولة ومدنها وسكانها إقطاعات يتصرف بها الحكام ويتبادلونها بالبيع والشراء وصفقات الحرب والصلح.
ـ أدى النقص في الفقه السياسي والإداري إلى إنفجار الفتن بين الملوك وأمراء الجيش من ذلك ما حدث بين الملك الكامل وبين عماد الدين أحمد بن المشطوب الكردي الهكاري الذي يصفه ابن خلكان بأنه كان صلاح الدين أطعمه وهو شاب إقطاع نابلس إكراماً لوالده سيف الدين أبو الهيجاء المشطوب الهكاري الذي كان من كبار أمراء الجيش الصلاحي وقادته، فقد اتفق عماد الدين بن المشطوب مع الأكراد الهكارية على خلع الملك الكامل وتمليك أخيه الفايز، ولكن المحاولة لم تنجح ودب الاضطراب في معسكر الجيش الذي كان في مواجهة الصليبيين وانسحب عماد الدين إلى قلعة حران حيث بقي فيها حتى وفاته عام 610هـ، والخلاصة أن الجدب في الفقه السياسي والإداري أفرز ـ بعد جيل صلاح الدين ـ قيادات وإدارات متسلطة فردية عملت على أن تحكم الأمة بقيم القوة فوق الشريعة، والفردية بدل العمل الجماعي، والتسلط بدل الشورى والإرتجال بدل التخطيط.
ـ قامت الدولة الأيوبية على تبني فكرة الجهاد وتحرر ديار المسلمين من الغزو الصليبي، وكانت التغيير العملي على مدى إصالة فكرة الجهاد الإسلامي وعن مدى عمق هذه الفكرة في نفوس المسلمين في كل من مصر والشام وقد انعكس هذا العمق وتلك الأصالة في الصفحات المشرقة التي سجلها بجهاده صلاح الدين، إذا انتقلنا إلى الصورة التي كانت لها في سنواتها الأولى وهذا يعني أنها قد أصبحت في وادي والفكرة التي قامت عليها في وادٍ آخر، ولو قدر واستمرت الدولة الأيوبية بالصورة التي كانت عليها في سنواتها الأخيرة لكان معنى ذلك نهاية أو سقوط فكرة الجهاد الإسلامي وترك الساحة للصليبيين يرسمون مستقبلها ومقدرات شعوبها كما يريدون، وإذن فإن إختفاء الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك مقامها كان التعبير العملي لرفض زوال فكرة الجهاد، ونخلص من هذا إلى القول بأن إختفاء الدولة الأيوبية، وقيام دولة المماليك مقامها كان رفضاً عملياً لسقوط فكرة الجهاد، كما كان أيضاً تأكيداً عملياً لقوة هذه الفكرة وضرورة إستمرارها حتى تحقق أهدافها كاملة، وخير للأجيال أن تستمر الفكرة حتى ولو على حساب سقوط الدولة والرجال مهما كانت درجة التعاطف مع هذه الدول وهؤلاء الرجال
ب ـ ومن الظواهر السلبية: التي ساهمت في توقف حركة التجديد والإصلاح، تسلل قيم العصبية الأسرية إلى مدارس الإصلاح نفسها، إذ يستفاد مما كتبه مؤرخو تلك الفترة كابن الوردي وابن المستوفي، إن الأبناء والأحفاد تسلموا مشيخات هذه المدارس بعد وفاة المصلحين الآباء دون أن يكون لأولئك الأبناء والأحفاد المؤهلات العلمية والدينية والأخلاقية، الأمر الذي أحال مدارس الإصلاح إلى إقطاعات دينية، وعصبيات مذهبية، وأدى إلى إنصراف النابهين المثقفين من صفوفوها وإجتماع العامة فيما عرف باسم ((الطرق الصوفية)) الني إشتقت اسماءها من اسماء الآباء المؤسسين، كالطريقة القادرية والطريقة البيانيه والطريقة الرفاعية التي راحت تركز على الطقوس والأشكال بدل التربية والعلوم والأعمال.

2 ـ الظلم: إن الظلم في الدولة كالمرض في الإنسان يعجل في موته، بعد أن يقضي المدة المقدرة له وهو مريض، وبإنتهاء هذه المدة يحين أجل موته، فكذلك الظلم في الأمة والدولة يعجل في هلاكها، مما يحدثه فيها من آثار مدمرة تؤدي إلى هلاكها، وإضمحلالها من خلال مدة معينة يعلمها الله هي الأجل المقدر له، أي الذي قدره الله بموجب سنته العامة التي وضعها لآجال الأمم بناء على ما يكون فيها من عوامل البقاء كالعدل أو من عوامل الهلاك كالظلم الذي يظهر أثرها وهو هلاكها بعد مضي مدة محددة يعلمها الله، قال تعالى:" ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" ( الأعراف: آية: 34). قال الألوسي رحمه الله في تفسيره هذه الآية(( ولكل أمة أجل)) أي لكل أمة من الأمم الهالكة أجل، أي وقت معين مضروب لاستئصالهم ولكن هلاك الأمم وإن كان شيئاً مؤكداً ولكن وقت حلوله مجهول لنا، أي أننا نعلم يقيناً أن الأمة الظالمة تهلك حتماً بسبب ظلمها حسب سنة الله فلا يمكن لأحد أن يحدد بالأيام ولا بالسنين وهو محدد عند الله تعالى:" ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد* وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادهم غير تتبيت* وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه اليم شديد" (هود: آية: 100 ـ 102). إن الآية الكريمة تبين أن عذاب الله ليس مقتصراً على من تقدم من الأمم الظالمة بل أن سنته تعالى في أخذ كل الظالمين سنة واحدة فلا ينبغي أن يظن أحد أن هذا الهلاك قاصراً بأولئك الظلمة السابقين، لأن الله تعالى لما حكى أحوالهم قال:" وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة" (هود: آية: 102) فبين الله تعالى أن كل من شارك أولئك المتقدمين في أفعالهم التي أدت إلى هلاكهم فلا بد أن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد، فلآية تحذر من خطورة الظلم.إن الدولة الكافرة قد تكون عادلة بمعنى أن حكامها لا يظلمون الناس والناس أنفسهم لا يتظالمون فيما بينهم فهذه الدولة مع كفرها تبقى، إذ ليس من سنته إهلاك الدولة بكفرها ولكن إذا انضم إلى كفرها ظلم حكامها للرعية وتظالم الناس فيما بينهم،تزول قال تعالى:" وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" (هود: آية: 117) قال الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره: إن المراد من الظلم في هذه الآية الشرك والمعنى: أن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين، إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، يعامل بعضهم على الصلاح وعدم الفساد، وفي تفسير القرطبي رحمه الله قوله ((بظلم)) أي بشرك وكفر ((وأهلها مصلحون)) أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق، ومعنى الآية: أن الله تعالى لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى يضاف إليه الفساد كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان وقوم لوط باللواط، قال أبن تيمية رحمه الله في هلاك الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة: أمور الناس إنما تستقيم بالعدل الذي يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة ويقال: إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام وذلك إن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم تقم بالعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة، ولقد حدثت مظالم عظيمة في عهد الأيوبيين، فقد سفكوا الدماء فيما بينهم، فقاتل الأخ أخيه والعم بني أخيه ظلماً وجوراً وتسلطاً على العباد والبلاد وحصرت دمشق وتعرض أهلها للمجاعة بسبب الأهواء والنزوات وإسراف بعض سلاطينهم في المال العام وتم الإعتداء في بعض الأحوال على أموال الرعية بدون وجه حق وقد بينا ذلك في مناسبات عديدة في كتابي (( الأيوبيون بعد صلاح الدين، والحملات الصليبية، الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة)).
3 ـ النزف والإنغماس في الشهوات: قال تعالى: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً مما أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيع وكانوا مجرمين" (هود ، آية : 116)، قال تعالى: "واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه" أراد الذين ظلموا: تاركي النهي عن المنكرات أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما إهتموا بالتنعم والترف والإنغماس في الشهوات والتطلع إلى الزعامة والحفاظ عليها والسعي لها وطلب أسباب العيش الهنئ، وقد مضت سنة الله في المترفين الذين أبطرتهم النعمة وابتعدوا عن شرع الله بالهلاك والعذاب قال تعالى: "وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين* فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون" (الأنبياء ، آيات : 11 ـ 13)، ومن سنة الله تعالى هلاك الأمة بفسق مترفيها قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا" (الإسراء ، آية : 16). وجاء في تفسيرها وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها: أي : متنعميها وجباريها وملوكها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فأهلكناها، وإنما خص الله تعالى المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع، لأنهم أمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سوئهم، إنما وقع بإتباعهم وإغوائهم، فكان توجه الأمر إليهم آكد.
إن أمر بني أيوب مازال مستقيماً في عهد صلاح الدين حتى أفضي أمرهم إلى إبنائه، فوقع بعضهم في الترف وآثروا الشهوات، وأقبلوا على اللذات والدخول في المعاصي والتعرض لسخط الله، والشواهد عل ذلك كثيرة نذكر منها ما كان في عهد الملك الأفضل وفي عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب ما فعله أستاذ الدار وهو كبير أمناء الملك أو الرئيس والذي كان يجمع إلى منصبه إختصاصات الوزير وقاد الجيش في المعارك وفتح دمشق وكان متحللاً وعابثاً ومعتداً بقوته ومنصبه وتجرأ على منكر كبير، يخالف أحكام الدين ويسخر بالشرع ويسئ إلى مشاعر المسلمين، فبني فوق أحد مساجد القاهرة طبلخانة أي قاعدة لسماع الغناء والموسيقى، وقد تصدى لذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام كما بينا ذلك في الكتاب الذي قبل هذا،ومن صور الترف في عهد الدولة الأيوبية التوسع في المآكل والمشارب وما يترتب على ذلك من آفات، وحب التكثر من المال والتوسع في الركوب وفي المسكن والملبس والنكاح لدى بعض أمراء وملوك البيت الأيوبي.
4 ـ تعطيل الخيار الثوري: ضرب الأيوبيون نظام الشورى في الحكم بالحائط ذلك النظام القائم عل حرية الانتخاب وحرية المعارضة والذي كانت القيادة الراشدة نفذته التزاماً بمعطيات القرآن والسنة في هذا المجال ولقد ولدت خطوة الأيوبيين هذه ردود أفعال خطيرة في الدولة الأيوبية، بل أصبح التسلط والغلبة هو الطريق للسلطة والحكم، فهذا الملك العادل بعد أن تغلب على بني أخيه قال لوزرائه ومعاونيه أنه قبيح بي أن أكون أتابكاً مع الشيخوخة والتقدم مع أن الملك ليس هو بالميراث وإنما هو لمن غلب ولقد كان يجب أن أكون بعد أخي السلطان الملك الناصر ـ رحمه الله ـ صاحب الأمر، غير أني تركت ذلك إكراماً لأخي ورعاية لحقه، فلما حصل من الاختلاف ما حصل خفت أن يخرج الملك من يدي، ويد أولاد أخي، فمشيت الأمر إلى آخره، ثم أن الملك العادل ورَّث أبنائه من بعده وحدث قتال بينهم ورجع إلى نظام التوريث الذي كان له سلبيات خطيرة، ساهمت في سقوط الدولة الأيوبية منها:
ـ إن هذا النظام قد سيطرت فيه عاطفة الأبوة والأقرب نسباً وقوة العصبية على عملية التولية بصفة عامة، وقد أدى ذلك إلى الآتي:
تقيد حق الأمة في إختيار سلطان بحصره في أسرة معينة.
تقييد مبدأ الشورى بحصره في أهل عصبية وشوكة الأسرة الحاكمة.
دفعت المفضول إلى تولي السلطنة مع وجود الأفضل، بل وبمن إفتقد بعض شروط السلطنة مع وجود المستجمعين لهذه الشروط وفقاً لما سلف ذكره.
وضع الحكام موضع تهمة وشبهة، كما أشار الشك ـ عند بعض الناس ـ حول مشروعية البيعة بولاية العهد والبيعة للسلطان.
أدى إلى ظهور العداوة والبغضاء بين البيت الأيوبي وذلك مما أدى في النهاية إلى ضمور قوتهم وزوال شوكتهم.
5 ـ النزاع الداخلي في الأسرة الأيوبية:إن سنة الله تعالى ماضية في الشعوب والأمم لا تتبدل ولا تتغير ولا تجامل، وجعل الله سبحانه وتعالى من أسباب هلاك الأمم وزوال الدول الاختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا، وفي رواية ((فأهلكوا))، وعند ابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه: فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، إن من الدروس المهمة في هذه الدراسة التاريخية أن نتوقى الهلاك بتوقي أسباب الاختلاف المذموم، لأن الاختلاف كان سبباً من الأسباب في ضياع الدولة الأيوبية وهلاكها وإندثارها، وكان لهذا الاختلاف الذي وقع في البيت الأيوبي أسبابه منها: ضعف الوازع الديني عند بعض الأمراء الأيوبيين الأنانية وحب الذات والتكالب على المصالح الدنيوية والتناحر من أجلها والحرص على السلطة والجاه والمنصب وتحكيم بعض الأمراء الأيوبيين أهواءهم في الأمور، فهذه الأسباب كانت وقوداً للمنازعات والخلافات التي وقعت بين أفراد البيت الأيوبي، فكانت من أكبر معاول الهدم وأسباب الضعف وتلاشي الدولة، وقد إستقرأ هذه الحقيقة ابن خلدون، حيث ذكر أن من آثار الهرم في الدولة إنقسامها، وأن التنازع بين القرابة يقلص نطاقها، كما يؤدي إلى قسمتها ثم إضمحلالها، لقد بدأ الخلاف المؤثر في الأسرة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين وسرعان ما انغمس الأيوبيون في صراعاتهم الداخلية فلم يحترم الأخ أخيه والعم بني أخيه، واستغل الملك العادل الأيوبي الجهل والطيش الذي إتسم به أبناء صلاح الدين، إذ أنه إستخدم علاقاته القديمة ومكانته لتحقيق هزيمة سياسية وعسكرية لجيش الملك العزيز قبل أن يستل جندي واحد سيفه من غمده، إذ كانت المنافسة قائمة بين الأمراء الصلاحية ((أمراء صلاح الدين)) والأمراء الأسدية، أمراء أسد الدين شيركوه الذين ورثهم صلاح الدين في جيشه، ونجح العادل في الإيقاع بين الفريقين، وقد وصف القاضي الفاضل الخلاف في البيت الأيوبي بقوله: أما هذا البيت فإن الآباء منه اتفقوا فملكوا وإن الأبناء منهم اختلفوا فهلكوا، وإذا غرب نجم فما الحيلة في تشريقه، وإذا بدأ تخريق في ثوب فما يليه إلا تمزيقه، وهيهات أن يسد على طريقه، وقد قدر طروقه، وإذا كان مع خصم على خصم فمن كان معه فمن يطيقه، واستمر الصراع في الأسرة الأيوبية بعد وفاة الملك العادل، حيث اشتد النزاع بين أولاده الملك المعظم والملك الكامل أبناء البيت الأيوبي.
6 ـ مولاة النصارى: من لوازم الإيمان الصحيح الولاء والبراء، فكانت الدولة في عصر صلاح الدين عاملة بقول الله تعالى: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير"(آل عمران ، آية : 28). وقول الله تعالى: "يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارىأولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن لا يهدي القوم الظالمين" (المادة ، آية : 51)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عري الإيمان، الموالاة في الله، والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله، أما في عصر الملك الكامل فضعف الولاء والبراء ويظهر ذلك في تسليم القدس للإمبراطور فريدريك الثاني على طبق من ذهب وبدون إراقة للدماء، وقد استعظم المسلمون ذلك وأكبروه ووجدوا له من الغم والهم والتألم ما لا يمكن وصفه وكان الملك الكامل لديه إستعداد للتحالف مع النصارى لقتال أخيه المعظم الذي تحالف مع الخوارزميين، كما أن الملك الصالح نجم الدين إسماعيل الذي دخل في صلح مع الصليبيين وسلّم لهم أحد الحصون وتصدى الشيخ عز الدين بن عبد السلام وابن الحاجب  فاعتقلهما مدة ثم أطلقهما وألزمهما منازلهما وتحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين لقتال الملك الصالح نجم الدين أيوب في مقابل تسليم القدس وإعادة مملكة بيت المقدس الصليبية إلى ما كانت عليه قديماً بما فيها الأردن، ولكي يبرهن صاحب دمشق على صدق نيته تجاه الصليبيين بادر فوراً بتسليم القدس وطبرية وعسقلان، فضلاً عن قلعة الشقيف وأرنون وأعمالها، وقلعة صفد وبلادها ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالهم وجبل عاملة وسائر بلاد الساحل، وأمام هذا السخاء العجيب ثار الرأي العام الإسلامي في مصر والشام على الصالح إسماعيل، حتى إن حاميات بعض القلاع رفضت طاعة الأوامر الصادرة إليها من الصالح إسماعيل في تلك الأثناء أسرع الصليبيون إلى تسلم بيت المقدس وأعادوا تعمير قلعتي طبرية وعسقلان، ثم رابطوا بعد ذلك بين يافا وعسقلان استعداداً للخطوة التالية وهنا وعدهم الصالح إسماعيل بأنه إذا ملك مصر أعطاهم جزءاً منها، فسال لعابهم لذلك، واتجهوا صوب غزة عازمين على غزو مصر، وسار الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والملك المنصور إبراهيم الأيوبي صاحب حمص على رأس جيوشهما في مهمة غزو مصر.
ولكن قادة القوات الشامية رفضوا طعن إخوانهم المصريين فما كانوا يلتقون بجيش الملك الصالح أيوب قرب غزة حتى تخلوا عن الصالح إسماعيل والمنصور إبراهيم وساقت عساكر الشام إلى عسكر مصر طائعة ومالوا جميعاً على الفرنج فهزموهم وأسروا منهم خلقاً لا يحصون، وهكذا تحالف الملك الصالح إسماعيل مع الصليبيين وتنازل لهم على مدن المسلمين من أجل الحكم والسلطان، إن بعض ملوك بني أيوب أمنعوا في موالاة النصارى الصليبين وألقوا إليهم بالمودة وركنوا إليهم واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين وعملوا على اضعاف عقيدة الولاء والبراء في الأمة وأصابوها وفقدت أبرز مقوماتها وسهل بعد ذلك زوالها من الوجود.
7 ـ فشل الأيوبيين في ايجاد تيار حضاري: حاول صلاح الدين بإيمان صادق وذكاء متميز حمل لواء المشروع الإسلامي الحضاري الذي تزعمه نور الدين محمود زنكي وحرص على الفتوحات العسكرية والدعوية، بحيث لاتطغى الأرض على الحضارة ولا الدولة على الدعوة، ولا تصبح اعتبارات السياسة أهم من مبادئ الدين وتقيد بالسياسة الشرعية، وعمل على ايجاد تيار حضاري عقدي يملأ أركان الحياة، ومهما يكن من أمر، فإن الدولة الأيوبية بعد صلاح الدين، لم تستوعب قانون الامتداد الحضاري، فبعد الامتداد والانتصارات كان عليها أن تمتد بالدعوة وتطور المدارس الإصلاحية حتى تواكب احتياجات العصر العلمية والتربوية والثقافية والحضارية إلا أن خلفاء صلاح الدين لم يستطيعوا أن يقدموا مشروعاً حضارياً يجدد حيوية الدولة ويرسم اهدافها ويدفعها بقوة نحوها، وإنما دخلوا في أنفاق مظلمة أنتهت بزوال دولتهم لقد فشل ملوك بني أيوب بعد صلاح الدين في إيجاد تيار حضاري ولم يستطيعوا أن يحققوا التوازن بين الدولة والدعوة والأرض والعقيدة والسياسة والفكر، وكانت هذه رساله سامية تأخر فيها الأيوبيين وغلبتهم الظروف والتحديات فأصبحوا أمام قانون التاريخ الحضاري الذي لا يجامل ولا يحابي أما أن يتقدموا أو يزولوا من الوجود، فلا سكون في تاريخ البشرية.
8 ـ ضعف الحكومة المركزية: قسمّ صلاح الدين دولته إلى أقاليم إدارية يتمتع كل منها بإمكاناته الخاصة وطابعه المميز، مثل مصر والشام وشمالي العراق والنوبة والمغرب واليمن والحجاز وقضى أكثر سنين حكمه في ميادين القتال يمارس سياسة التخطيط والتنفيذ والإشراف وتوجيه سياسة الدولة العليا، ثم يترك حرية التنفيذ في الأمور المحلية في الاستعداد والدفاع للولاة وفقاً لظروف وإمكانات كل إقليم، وهو ما يُعبَّر عنه في مفهومنا الحديث( اللا مركزية الإدارية). والحقيقة أن صلاح الدين لم يضع كافة السلطات في يده على الرغم من أنه كان الحاكم الذي يدير دفة الحكومة المركزية، والراجح أنه أدرك أن توزيع السلطات يجعل من كل سلطة رقيبة على السلطة الأخرى، وموازتة لها في ممارسة اختصاصاتها، كما أن تقسيم العمل بين عدة أشخاص أكفاء يحقق عدة مزايا تتعلق بإجادة العمل وسرعة انجازه، وقد ارتبطت الدولة الأيوبية التي بناها صلاح الدين الأيوبي بصفاته وسجاياه وشخصيته الفذة، فحين توارت هذه الشخصية من على مسرح التاريخ في المنطقة حدث فراغ كبير أضرّ بالجانب الإسلامي وعاد بالفائدة على الجانب الصليببي إذ كانت شخصيته ومواهبه وأداؤه السياسي والعسكري هو الذي حفظ الدولة من التفكك، ولم تكن هناك مؤسسات تضمن استمرار بقاء هذه الدولة الكبرى من ناحية، كما أن صلاح الدين قسَّم دولته، كما يُقسمَّ الإرث، بين أبنائه وأخوته وبني عمومته على نحو ما كان مألوفاً هي تلك العصور وكان طبيعياً ان تعود المنطقة إلى الوراء مرة اخرى نتيجة المنازعات والتشرذم السياسي الناجم عن الخلاف بين ورثة صلاح الدين، لقد كان خليفة صلاح الدين في مصر ابنه أبو الفتوح عثمان وكان وقت وفاة أبيه مقيماً بالقاهرة، وعنده جُل العساكر والأمراء من الأسدية والصلاحية والأكراد، وتولى أخوه الأفضل نور الدين على حكم دمشق، على حين تولى الملك العادل الكرك والشوبك وولي الظاهر غازي حكم بلاد الشام الشمالية وكانت حلب عاصمته وتولى بقية أجزاء الدولة غير المهمة أبناء عمومته، ففي حمص حكم أفراد من أسرة تقي الدين عمر بن شاهنشاه، وهكذا تفككت عُرى الدولة الإقليمية الكبرى التي جاهدت ثلاثة أجيال في إقامتها بمنطقة العراق والشام ومصر، عماد الدين زنكي، نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، لقد كان تقسيم الدولة على نحو، كتقسيم التركات الخاصة سبباً في انهيار الوحدة السياسية للمنطقة وإطالة عمر الكيان الصليبي من ناحية أخرى، فتفتت دوله صلاح الدين، وضعفت الحكومة المركزية بعد وفاته، وقامت الحروب بين ملوك بني أيوب بدافع التملك والتوسع.
9 ـ ضعف النظام الاستخباراتي: كانت مؤسسة البريد والاستخبارات في عهد صلاح الدين قد اشتهرت بالتفوق الدائم على ما كان عند الصليبين واتصفت بالدقة والسرعة حتى أن أخبار العدو كانت تتواصل إليه ساعة فساعة، إلى الصبح، لا سيما في حصار عكا، وكانت استخباراته تضم بعضاً من الصليبين الذين استأمنهم السلطان في مناسبات مختلفة،  وتكمن أهمية هؤلاء أنهم كانوا يعرفون لغة العدو، ولا يشك فيهم أنهم رجال صلاح الدين، بسبب من سحنتهم ومظرهم الخارجي، فكانوا يزودون الجيش الأيوبي بأخبار العدو التي يصعب عليها عن طريق رجال استخباراته المسلمين فذات مرة أخبروا صلاح الدين ما ينوي العدو القيام به من كبس العسكر الإسلامي ليلاً، وأخبروه عن المنجنيق الصليبي الهائل الذي أنفقوا عليه ألفاً وخمسمائة ديناراً والذي أعدوه للهجوم على عكا وكذلك زودوا صلاح الدين بأخبار الحملة الألمانية، إلا أن بعد ذلك ضعف جهاز الاستخبارات، بل نجد أن الحملة الصليبية الخامسة تصل إلى دمياط ولم يعلم بها الملك العادل إلا بعد وصولها ولم تكن اختراقات الجهاز الإستخباراتي بعد صلاح الدين بالمستوى الذي كان عليه، فكان ضعف الجهاز الإستخباراتي للدولة الأيوبية بعد صلاح الدين من أسباب سقوطها.
10 ـ غياب العلماء الربانيين عن القرار السياسي: مع مجيء الملك الأفضل لحكم الدولة الأيوبية تغيرت بعض الوسائل الاستراتيجية التي كان يعتمد عليها صلاح الدين بعد الله تعالى في إدارة الحكم وحركة الجهاد وهي اعتماده على العلماء الربانيين فأبعد الملك الأفضل القاضي الفاضل وأقصى أمراء والده ومستشاريه، بتأثير الوزير ضياء الدين ابن الأثير أخو المؤرخ المشهور ابن الأثير على إدارة الدولة في عهد الملك الأفضل ولم يكن موفقاً أبداً بل جرّ البلاء والسخط والغضب والكراهية على الملك الأفضل وأصبح القاضي من بعد المبعدين عن القرار السياسي،  وهو الذي قال فيه صلاح الدين: ما فتحت بلداً بسيفي ولكن بقلم القاضي الفاضل، ولم تكن مكانة العلماء والفقهاء بعد صلاح الدين بالمكانة التي كانوا عليها في عهد نور الدين وصلاح الدين، ولقد خسر الأيوبيون الكثير بإبعاد القاضي الفاضل ومن على شاكلته من دائرة القرار السياسي وقد قال ابو شامة عن القاضي الفاضل: كان ذا رأي سديد، وعقل رشيد ومعظماً عند السلطان صلاح الدين يأخذ برأيه ويستشيره في الملمات والسلطان له مطيع وما فتح السلطان الأقاليم إلا بأقليد آرائه وكان كتائبه كتائب النصر.
11 ـ وفاة الملك الصالح نجم الدين وعدم كفاءة وريثه: استطاع الملك الصالح نجم الدين أيوب، أن يدخل تشكيلات جديدة على القوة العسكرية التي كان يتكون منها جيش السلطان الأيوبي والتي ساهمت في تقوية الجيوش وانعكس ذلك على الدولة ومن أهم الإجراءات التي اتخذها الملك الصالح نجم الدين أيوب، اهتمامه الكبير بشراء المماليك والغلمان والأتراك بشكل لم يسبق له نظير في تاريخ السلطنة الأيوبية، فخلال مدة حكمه أضاف إلى الجيش في دفعة واحدة أكثر من ألف مملوكاً تركياً وعمل منهم جيشاً قوياً سانده في فرض إرادته على الأقاليم والقضاء على حركات التمرد الداخلية وكان ولاء المماليك للملك الصالح نجم الدين أيوب مطلقاً واستطاع إعادة هيبة الدولة الأيوبية من جديد ونجح إلى حد كبير في إعادة قوتها وسلطانها إلا أنه توفي أثناء الحملة الصليبية السابعة وكان عمره عند وفاته 44 سنة وعهد لولده المعظم تورانشاه وقامت شجرة الدر زوجة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ومن معها من الوزراء والأمراء بتثبيت الملك المعظم تورانشاه إلا أنه لم يكن رجل المرحلة وفشل في التحديات التي كانت تفرضها الظروف التاريخية وبدلاً من تركيس جهوده لتوحيد المسلمين للقضاء على الخطر الصليبي تماماً بدأ يدبر للتخلص"من شجرة الدر" وكبار أمراء المماليك فاحتقر خصومه واستبد برأيه وابعد الأولياء ولم يلجأ إلى استخدام المال والسياسة في تفتيت خصومه وضعفت الشقة بينه وبين رجاله وفشل في كسب ولاء قادة الجيش فتم قتله وزالت الدولة الأيوبية بموته، هذه هي أهم الأسباب في زوال الدولة الأيوبية.

المبحث الثاني: سلطنة المماليك بين شجرة الدر وعز الدين أيبك:
أولاً: شجرة الدر:
1 ـ شجرة الدر أيوبية أم مملوكية؟ إن معظم المؤرخين وعلى رأسهم المقريزي، صاحب السلوك لمعرفة دول الملوك، يعتبرون شجرة الدر أولى سلاطين دولة المماليك البحرية في مصر ولقد يطلق عليها إسم دولة المماليك الأولى بإزاء دولة المماليك الثانية التي هي دولة المماليك البحرية، اعتبروها أولى سلاطين المماليك كونها منهم أي من المماليك البحرية، جيء بها جارية مملوكة، فصارت حظيّة الملك الصالح أيوب، وإن كان من الأرجح، أنها ليست من المماليك وهذا ما ذهب إليه عصام شبارو في كتابه السلاطين في المشرق العربي،  مملوكة من أصل أرمني، لا تركي، فهي ليست مملوكة تماماً، بما في كلمة مملوك من معنى، إنها قريبة من المماليك، بجهة النشأة، وإن كان المماليك البحرية الصالحية يأتمرون بأمرها، ويخضعون لها، كونها واحدة من أهم حريم الملك الصالح أيوب، هذا فضلاً عن كونها والدة ولده خليل الذي مات وهو طفل صغير. ويعتبر ابن إياس صاحب بدائع الزهور، شجرة الدر آخر سلاطين بني أيوب، كونها زوجة الصالح نجم الدين أيوب، والد تورانشاه وأم ولده خليل الذي توفي في حياة أبيه.


2 ـ سلطانة مصر:
كان للدور الذي لعبته شجرة الدر بعد وفاة زوجها نجم الدين أيوب وتصرفها حيال الصليبيين وأسر الملك لويس التاسع أبلغ الأثر لدى المماليك بعدما  شاهدوا ما تتصف به من حماس سياسي وحنكة ومهارة في تصريف أمور الدولة في ذلك الوقت العصيب الذي كادت أخطار الحرب والاستيلاء على دمياط أن تفت في عضد أي حاكم آخر، لقد عملت شجرة الدرّ على تحرير دمياط من الصليبيين، لمّا أخفت موت نجم الدين أيوب على الجيش المصري الذي كان يقاتل الغزاة، إذ لو أعلنت نبأ وفاة الملك والجيوش المسلمة والصليبية في التحام وعراك لأفلت الأمر من  أيدي القادة المماليك وبعث فيهم نبأ وفاة الملك شياً من الضعف والتخاذل والتواكل، الأمر الذي لم يحدث ـ بفضل الله ـ ثم بسبب حنكة شجرة الدرّ، وحكمتها وهي التي تمّت الوفاة بحضرتها فكتمت هذا الأمر، وأمرت العبيد أن يحمل الملك سراً في محفّة دون علمهم بموت الملك، ثم أن يوضع في قارب حمله إلى قلعة الروضة، ريثما تنجلي المعركة، عن نصر قريب، ولم يفت شجرة الدرّ أن تعهد إلى الأمير فخر الدين بقيادة الجيش وأن تبعث فيه روح المثابرة والعزيمة والجهاد ومواصلة الحرب لاسترجاع دمياط من أيدي الصليبيين هذا من جهة، ومن جهة ثانية، راحت شجرة الدر، وبالاتفاق مع بعض الأعوان من الخدم والأطباء تعمل على إدخال كبار الموظفين والأطباء إلى قاعة الملك، بحجّة أن السلطان حي يرزق، بل راحت توقع الأوامر والمراسم بتوقيع السلطان وهي التي حذقت تقليد توقيعه، ومحاكاة خطه، وإن قال بعضهم إن الذي حذق تقليد الملك وتوقيعه، هو خادم لشجرة الدرّ اسمه سهيل، كتم الأمر وخضع له، خدمة لمولاته السلطانة بهذا التدبير الحكيم ، وذلك الآسلوب المميّز والحنكة الفريدة استطاعت شجرة الدر أن تحفظ للجيش وحدته وتماسكه، وأن تحول دون تصدّع صفوفه، وانفراط عقده، كما إستطاعت أن تبعث  في الجنود روح مواصلة الجهاد، ومتابعة الكفاح، دونما ضعف أو خور أو ميل إلى الخضوع والاستسلام، كان الرصيد الجهادي لشجرة الدر مؤهلاً لها للتربع على كرسي السلطة بعد مقتل تورنشاه، ويتبارى المؤرخون في سرد الأسباب والدوافع التي جعلت المماليك يرضون بها سلطانه عليهم، فهل يرجع ذلك إلى العلاقة التي تربطها بزوجها الراحل نجم الدين أيوب وابنها خليل؟ أم لزعامتها العسكرية والسياسية وقت الأزمات؟ أم لحاجة المماليك إلى وجود صلة بين الأيوبيين وبين وجودهم بصورة قانونية؟ لقد رفعوها لتتربع على عرش مصر وأطلقوا عليها لقب ((أم خليل))، وهكذا أصبحت هذه الجارية أمة السلطان صالح نجم الدين أيوب، والتي تزوجها بعدما أعتقها ملكة المسلمين في مصر وسلطانة المماليك البحرية، يخطب لها على المنابر، ويدعون لها عليها من بعد الدعاء لخليفة المسلمين العباسي.
3 ـ الدعاء لها: كان مما يدعى لشجرة الدرّ قول المصلين اللهم أحفظ الجهة الصالحة ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين أم خليل أمير المؤمنين، المستعصمة، صاحبة السلطان الملك الصالح،، أو قول الخطباء الذين كانوا يخطبون بإسمها على منابر مصر وأعمالها، فيقولون من بعد الدعاء لأمير المؤمنين الخليفة العباسي: اللهم أحفظ الجهة الصلاحية، ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين ذات الحجاب الجليل، والستر الجميل، والدة المرحوم خليل، إذ أن خليلاً هذا هو ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، كان توفي في حياة والده صغيراً، وفي رواية أن الخطبة التي كان يخطب بها لشجرة الدرّ على المنابر ، لما بويعت بالحكم من بعد الدعاء للخليفة العباسي هي التالية: ربنا احفظ ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين، الجهة الصالحة، أم خليل المستعصية، صاحبة السلطان الملك الصالح.
4 ـ نقش توقيعها: وأيا يكن، فإن شجرة الدرّ، هذه هي التي راح الناس يدعون لها، ويخطبون، نقشت إسمها على النقود المتداولة في ذلك الزمان، وكانت صبغة النقش هي التالية: المستعصمة الصالحية، ملكة المسلمين، والدة المنصور خليل.
5 ـ الاحتفال بتنصيبها: ما إن تمّ إعلان خبر تولية شجرة الدرّ ملكة على المصريين حتى راح كبار القادة والأمراء يفدون على المليكة وقد تربعت على دست الحكم في قاعة الإيوان الذي كان بناه الملك الصالح حيث النقوش الذهبية، والأعمدة الشاهقة المغطاة بالأبنوس والرخام، وحيث الفُرش والزرابي والطنافس والأرائك، ولقد ضاقت باحة القصر الخارجية بعامة الناس الذي أذهلهم الإعلان عن شجرة الدرّ أنها ملكة المصريين ما بين مصدِّق للخبر، أو مكذب له، فكنت ترى مواكب الصناع والتجار، والفلاحين والجند، والراقصين والمغنّيين والخدم والحشم، على اية حال، قبضت ((شجرة الدر)) على زمام الحكم بيد من حديد، ووجهت إهتمامها للتخلص من بقايا الحملة الصليبية السابعة، ثم أخذت تتقرب إلى العامة والخاصة من رعاياها.

6 ـ رفض الخليفة والعلماء وعامة الناس لتولي شجرة الدُّر السلطنة:
تفجرت ثورات من الغضب في العالم الإسلامي وحاولت شجرة الدُّر أن تُجمل الصورة قدر استطاعتها وتقربت إلى العلماء والعامة، إلا أن ذلك ذهب في إدراج الرياح وقامت المظاهرات العارمة على المستوى الشعبي في القاهرة في كل أنحائها ، وقام العلماء والخطباء ينددون بذلك على منابرهم، وفي دروسهم وفي المحافل العامة، والخاصة وكان من أشد العلماء غضباً وإنكاراً الشيخ الجليل ((العز بن عبد السلام)) رحمه الله، وأرسل الخليفة العباسي من بغداد إلى الأمراء الذين كانوا بمصر يقول لهم: إعلمونا إن كان ما بقي في مصر عندكم من الرجال من يصلح للسلطنة، فنحن نرسل إليكم من يصلح لها، أما سمعتم في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يفلح قوم ولّوا أمره امرأة، ومما قاله الشعراء في إنكارهم على تولي شجرة الدُّر السلطنة:
    النساء ناقصات عقل ودين
                    ما رأين لهنَّ رأياً سنيّا
    ولأجل الكمال لم يجعل الله
                    تعالى من النساء نبيّا

7 ـ شجرة الدُّر تخلع نفسها:
لقد اضطربت الأمور على المستوى الشعبي العام، وعارض الفقهاء والمتعلمون جلوس ((شجرة الدُّر)) على عرش السلطنة، وأدركت السلطانة وزعماء المماليك أنهم يسبحون ضد تيار عارم، لا بد وأن يغرقهم في موجاته، وبعد ثمانين يوماً تنازلت ((شجرة الدُّر)) في الحكم لواحد اختارته بعناية من أمراء المماليك هو عز الدين أيبك التركماني الصالحي، الذي اشتهر بعزوفه عن الصراع حتى ظن الجميع أنه ضعيف، وقبل أمراء المماليك الأقوياء زواجه من شجرة الدُّر وجلوسه على عرش السلطانة، بل أن بعضهم قال: متى أردنا صرفه أمكننا ذلك لعدم شوكته، وبالفعل تزوجت شجرة الدُّر من عز الدين آيبك، ثم تنازلت له عن الحكم، وتم هذا التنازل في أواخر جمادى الثانية من السنة نفسها سنة 648 هـ. وهكذا في غصون سنة واحدة فقط جلس على كرسي الحكم في مصر أربعة ملوك وهم الملك الصالح أيوب ـ رحمه الله ـ ثم مات، فتولى توران شاه ابنه، ثم قتل، فتولت شجرة الدر، ثم تنازلت، فتولى عز الدين أيبك التركماني الصالحي.
8 ـ حكم تولى المرأة للولاية العامة: اتفق فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم ـ على عدم جواز المرأة لمنصب الإمامة العظمى، وأن الذكورة شرط أساسي فيمن يتولى هذا المنصب، حتى الذين ينادون بحقوق المرأة السياسية، ويؤيدون تدخلها في أمور السياسة، أكثرهم لا يجيزون توليها لهذا المنصب ويقولون بقصر الرياسة أو رياسة الوزارة على الرجل دون المرأة، ولا شك أن أصحاب هذا الرأي يرون رياسة الوزارة في النظام البرلماني مثل منصب الرياسة أو الإمامة الكبرى في النظام الإسلامي، واستدلوا على صحة هذا القول بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أ ـ الكتاب:
ـ قوله تعالى:"الرجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم" "النساء، آية:34". وجه الاستدلال: جعل الله تعالى في هذه الآية القوامة للرجال على النساء وهم قوامون عليهم، والقوامة على الأمر، أو المال أو ولاية الأمر، والقيِّم: من يقوم بالأمر، والقوَّام: صيغة مبالغة، أي الحسن القيام بالأمر، فلما جعل الله تعالى القوامة للرجل دون المرأة، فهو يعني حصر القيام بانتظام الأمور، وتدبير الشئون، وولاية الأمر في الرجل، وهذه القوامة عامة تشمل ولاية الأمور العامة والشئون السياسية، بما فيها الإمارة والوزارة والخلافة ونحوها كما تشمل الشئون الأسرية ورعاية أهل البيت، فالرجال قوامون على النساء: أي القائمون بانتظام أمورهن، وكفالة نفقتهن، ومسؤلون عن الذب عنهن وحفاظهن وأمرهم نافذ عليهن، فهم الحكام والأمراء، وعليهن طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم يكن في معصية الله.
ومما يدل على أن القرآن لم يقيد قوامية الرجال على النساء بالبيوت فقط، أنه لم يأت بكلمة(في البيوت) في الآية حتى يحصر الحكم في دائرة الحياة العائلية، والله لم يعطها حق القوامة على بيتها وإنما جعله للرجال، فكيف تجعل على مجموعة من ملايين البيوت.
قوله تعالى:"ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة" "البقرة،آية:228" ووجه الاستدلال إن الله تعالى في هذه الآية نفى ما كان في الجاهلية من عدم المبالاة بالمرأة وعدم اعتبار حقوقها وشخصيتها، فيبين الله تعالى هنا أن النساء كالرجال في الإنسانية ولهن حق حسن المعاشرة كالرجال، ويجب لهن حق عليهم تجاه الواجب ولكن المراد بالمماثلة مماثلة الواجب بالواجب في كونه ما يردده البعض في العصر الحاضر من كون مساواة المرأة للرجل في جميع الأمور، لأن الله تعالى قال:"وللرجال عليهن درجة" وهذه الدرجة هي القوامة التي جاء بيانها في الاية السابقة الإِمرة والطاعة.
ـ قال تعالى:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم" "البقرة،آية:247". وجه الاستدلال: إن الله تعالى يبين في هذه الآية الكريمة صفات الاستحقاق للملك، وذلك أن بني إسرائيل لما طغوا في استحقاق طالوت للملك، قالوا: إنه لا يستحق لأنه ليس من أهل بيت الملك، ولأنه فقير ليس عنده مال، فرد الله عليهم بأنه استحق للملك لأمرين، لكون زيادته في العلم، وقوته في الجسم، فهذا دليل على أن قيادة الأمة تسند إلى من لديه علم واسع، وهو قوي جسيم حتى يتحمل مشاق هذا المنصب، ومن المعلوم أن المرأة ضعيفة الجسم والبنية لا تستطيع تحمل المشاق مثل الرجل، وهذا أمر فطري، فلهذا لا يسند إليها قيادة البلد.
ب ـ السنة: قال صلى الله عليه وسلم: لن يُفلح قوم ولوْا أمرهم امرأة:
إن الذكورة شرط في أهلية الولاية العامة بالاتفاق، وأجمعت الأمة في العصور الأولى من الصحابة والتابعين،. وتابعيهم والأئمة والفقهاء والعلماء والمحدثين والمفسرين على اختلاف مذاهبهم، أجمعوا على أن لا تصلح المرأة للأمامة الكبرى، ولا تجوز توليتها رياسة المملكة، كذلك رياسة الوزارة في النظام البرلماني لأن لها صلاحيات مثل صلاحيات الإمام. وعلى هذا دلت الأدلة الصحيحة من الكتاب، والسنة وهي ظاهرة في دلالتها ويقتضيه العقل والقياس، والحكمة في خلقة المرأة وتكوينها النفسي والجسدي، والاعتراضات الموجهة إلى حديث صحيح البخاري مردودة، ليس فيها شيء من القوة، إذ تلقته الأمة بالقبول والمعترضون لا يريدون إلا التشكيك في الحديث النبوي وأما القول المعارض الذي حدث متأخراً فليس له دليل صحيح من الكتاب والسنة، بل هي شبهات من اجتهاد بعض أفراد الأمة، أو أفعال من لا ينظر إلى عمله ولا يحتج بفعله.
ثانياً: سلطنة عز الدين آيبك:
تولى عرش مصر السلطان أيبك التركماني وتلقب باللقب السلطاني"الملك المعز" ولم يكن أيبك في الواقع أكبر أمراء المماليك سناً أو أقدمهم خدمة، أو أقواهم مكانة ونفوذاً إذ يوجد من هم أكبر وأقدم وأقدر منه مثل فارس الدين أقطاي والظاهر بيبرس وهذه الحالة الإستثنائية في نظام التدرج المملوكي جعلت بعض المؤرخين مثل أبي المحاسن في كتابة النجوم الزاهرة؛ يتهم أيبك بضعف النفوذ والشوكة وأن الأمراء لم ينتخبوه إلا لكي يتمكنوا من عزله متى شاءواغير أن الحوادث دلت على أن أيبك رجل يمتاز بصفات السياسة والحزم والشجاعة، ولم يكن ضعيف الشخصية كما يصوره بعض المؤرخين، ويبدو أن أبا المحاسن نفسه قد شعر بالخطأ الذي وقع فيه حينما وصف أيبك بالضعف في كتابه النجوم الزاهرة، إذ أنه عاد واستدرك ذلك في كتابه الآخر: المنهل الصافي، فمدح أيبك فيه ووصفه بالديانة والصيانة والعقل والسياسة، وأنه انقذ دولة المماليك من خطر محقق، وإذا تناولنا المشاكل والمصاعب التي واجهت السلطان أيبك، نجد أنها تتمثل في تهديدات الايوبيين والصليبيين في الخارج، وفي ثورات الاعراب في الداخل ثم خطر زملائه المماليك في داخل البلاد وخارجها.
1 ـ الخطر الايوبي والصليبي: رفض أمراء بني أيوب الاعتراف بالنظام الجديد في مصر، وانسلخت عنها دمشق والكرك والشوبك والصبية وغيرها من ممتلكاتها التابعة لها في الشام وأصبح في الشرق الأوسط الإسلامي قوتان متنازعتان، ولايات الشام ويهيمن عليها الأيوبيون، ومصر ويحكمها المماليك، وقد اعتبر الأيوبيون أنهم أصحاب السلطة الشرعية وأن المماليك دخلاء عليهم، وأنه لا بد من اتخاذ إجراء حاسم لإعادة المياه إلى مجاريها، وشنوا حملة أعلامية مركزة على المماليك وقالوا بأنهم هم الذين سمحوا للملك الفرنسي بالخروج من مصر حياً طمعاً في الفدية التي أعطاها لهم وتلك التي تعهد بدفعها، وأنه لولا جشعهم لما أفلت لويس من قبضة المسلمين، ولما توجه إلى الإمارات اللاتينية في الشام عمل على بث الخلاف وإثارة الفتن والقلاقل في الشرق الإسلامي، وأما المماليك البحرية فقد وجدوا أنهم أصحاب الفضل الأول في إحراز النصر على لويس والتنكيل به وبقواته على ضفاف النيل، وأنه لولا اجتهادهم في المنصورة وفارسكور ما تم النصر للمسلمين، حتى وصفهم ابن واصل بأنهم كانوا داوية الإسلام، ودافعوا عن اتهام الأيوبيين لهم بإخلاء لويس طمعاً في ماله، بأنهم كانوا يخشون إن قتلوه أو أبقوه في الأسر أن تثور ثائرة العالم المسيحي ويقوم بحملة صليبية جامعة ضد المسلمين قد لا يستطيعون دفعها، خاصة وأن لويس لم يكن محبوباً في فرنسا، فحسب وإنما في أمم الغرب الأوروبي والشرق اللاتيني أيضاً ، ثم هم لم ينسوا بعد مااقترفه "تورانشاه" ابن مولاهم الصالح أيوب في حقهم وفي زوجة أبيه شجرة الدر من إساءات ، كان من الضروري وضع حد لها قبل أن يفلت الزمام من أيديهم ويبطش بهم ، وأنهم بتخلصهم منه إنما انقذوا مصر من مفاسده ومباذله ، ولذا فهم يرون أنهم أحق بالملك من غيرهم .
أ ـ لويس التاسع واستغلال فرصة النزاع بين المسلمين: ففي هذا الوقت الذي كان فيه الشرق الإسلامي منقسماً على نفسه كان الملك الفرنسي في عكا يسعى لتأليف حملة جديدة تهدف إلى امتلاك البيت المقدس. وحري بالذكر في هذا المجال أن المسيحيين في المعاقل اللاتينية في سورية وعلى رأسهم لويس كانوا يدركون حقيقة الحال في مصر والشام وكانوا ملمين إلماماً تاماً بأحوال العالم الإسلامي المضطربة إبان فترة الأنتقال هذه ، إذ سجل لويس في رسالته إلى شعبه أن هذا الشقاق قد انعش آماله، كما وجد الفرصة مواتيه لتعويض ما خسره في مصر ، ومما يدلنا على اهتمام الغرب المسيحي بما كان يجرى في الشرق الإسلامي من أحداث وقتذاك أن المؤرخين الغربيين المعاصرين لهذه الفترة أمثال جوانفيل وروتلان ووليم دي ناجي، ووليم دي شارتر، ومتى الباريزي وغيرهم، قد تتبعوا مراحل الخلاف بين مصر والشام، وسجلوا الكثير من ظروف الحال بينهما مما لا تقل قيمته عما خلفته لنا المصادر الإسلامية في هذا الشأن، وهي فضلاً عن ذلك تعطينا فكرة واضحة عن هذا النزاع من وجهة النظر المسيحية وعن موقف لويس منه، من هنا يتضح أن مهمة الملك لويس التاسع في هذه الفترة بالذات التي قام فيها الخلاف بين بني أيوب في الشام والمماليك في مصر هي استغلال الفرصة ، وترقب الأمور عن كثب ، واتخاذ خطة السياسة والدهاء ، عساه أن يعوض من وراء ذلك ما فاته في حملته الفاشلة على الديار المصرية.


ب ـ تردد السفارات بين ملوك مصر والشام ولويس التاسع:
هكذا ترددت الرسل وتعددت السفارات بين كل من أمراء مصر والشام وبين الملك الفرنسي في عكا وفي غيرها من بلاد الشام المحتلة وكل منهما يمنيه بالوعود المغرية طمعاً في كسبه إلى جانبه ، ولكنه اتخاذ سياسة الحرص والحذر، متوخياً في ذلك ماتمليه عليه المصلحة المسيحية قبل أن يتخذ قراراً حاسماً ، فقد كان بوسعه الإنضمام إلى أحد الفريقين أو الوقوف موقف الحياد أو أن يستمر على سياسة متأرجحة أملاً في استتراف قوى الفريقين إلى أقصى حد ممكن، على أية حال ، لم يكد لويس يستقر في عكا حتى أرسل إليه الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب مبعوثين من قبله يسألونه أن يقف إلى جانب مولاهم في قتاله ضد المماليك البحرية الذين قتلوا قريبه السلطان المعظم تورانشاه وتعهد له الناصر إذا تحالف معه بإعادة بيت المقدس التي كانت تحت إمرته آنذاك إلى المسيحيين، كان السلطان عز الدين آيبك يراقب الأحداث عن كثب وقرر مواجهة الخطر الأيوبي بالطرق السلمية أولاً وحتى يمتص نقمة الأيوبيين ، إختار بالاتفاق مع كبار أمراء المماليك صبياً صغيراً في العاشرة من عمره من بني أيوب ، هو الأشرف موسى بن المسعود بن الكامل محمد وأقامه سلطاناً ليكون شريكاً له في السلطة ، فكانت المناشير والتواقيع والمراسيم تخرج عنهما ، ويخطب باسميهما على منابر مصر وأعمالها ، وضُربت لهما السكة على الدنانير ، والدراهم، ويبدو أن آيبك علم بأنباء المفاوضات بين الملك الناصر ولويس التاسع ، وخشي وقوع تقارب أيوبي صليبي ، فأرسل إنذار الى الملك لويس التاسع بأنه سوف يُقدم على قتل الأسرى الصليبيين الذين مازالوا في مصر منذ أيام الحملة الصليبية السابعة على دمياط ، وهم بانتظار دفع الفدية المقررة لإطلاق سراحهم ، إن قام بأي عمل عدائي ضده وأبدى في الوقت نفسه استعداده لتعديل معاهدة دمياط والتنازل له عن نصف الفدية المقررة مقابل تحالفه معه ضد الناصر يوسف ، غير أن الملك الفرنسي لم يشأ أن يلتزم بشيء نحو أي من الطرفين وإن كان يؤثر التحالف مع دمشق لما لها من أهمية عسكرية وسياسية ، لكن كان لزاماً عليه أن يفكر في أسرى الصليبيين الذين مازالوا في مصر ، ولما يئس الناصر يوسف من إستقطاب الملك لويس التاسع ، زحف بجيوشه نحو مصر ، ونسي زعماء البحرية خلافاتهم الداخلية ، وتكتلوا وراء آيبك لصد الزحف الأيوبي الذي هدد مستقبلهم جميعاً ، وخرج آيبك من القاهرة على رأس الجيش المملوكي للتصدي للتقدم الأيوبي ، لكنه خشي من أن يقوم الصليبيون بمهاجمة دمياط مرة أخرى، مستغلين خلو مصر من المدافعين عنها فأمر بهدم ثغرها ، حتى خُرب كله ، ولم يبق من المدينة سوى الجامع وأكواخ من القش على شاطئ النيل يسكنها الصيادون وضعفاء الناس، وسموها ((المنشية)).
2 ـ معركة بين المماليك والأيوبيين: والتقى الجيشان الأيوبي والمملوكي في العاشر من ذي القعدة 648هـ/ الثالث من شباط 1251م عند العباسية بين مدينتي بلبيس ، والصالحية، إنتصر فيها الناصر يوسف ، في بداية المعركة ، على الرغم من استبسال المماليك، غير أنه حدث أن فرقة من جيش الناصر يوسف، وهم المماليك العزيزية تخلت عن مواقعها في غمرة القتال وانحازت ، بدافع العصبية المملوكية إلى الجيش المملوكي، ولما لم يكن الناصر يوسف مشهوراً بالشجاعة، لم يلبث أن تراجع ولاذ بالفرار عائداً إلى بلاد الشام، في حين عاد المماليك ظافرين ومعهم الأسرى إلى القاهرة، كان لهذه الموقعة أثرها وأهميتها في تثبيت أركان دولة المماليك البحرية الناشة، فقد إستثمر آيبك إنتصاره هذا، فأرسل بعد شهر، جيشاً، بقيادة فارس الدين أقطاي، استولى على غزة، ثم قرر الزحف نحو بلاد الشام للسيطرة عليها، ولكي يضمن النجاح لمهمته حاول استقطاب لويس التاسع، ووعده بإعطائه بيت المقدس فور إستيلائه عليه من الناصر يوسف، ومن جهته رأى الناصر يوسف نفسه مضطراً للإعتماد على حليف قوي يضمن له الصمود وإستمرارية الصراع مع المماليك، فأرسل سفارة إلى عكا يعرض على لويس التاسع التنازل له عن بيت المقدس، مقابل الحصول على مساعدته.
3 ـ تحالف مملوكي ـ صليبي: استغل لويس التاسع هذا الصراع الإسلامي لمصلحة الصليبيين، ونجح في الضغط على آيبك، فأطلق سراح الأسرى الصليبيين، ثم عقد الطرفان معاهدة في 650هـ/1252م بهدف مناوأة الناصر يوسف، جاء فيها:
ـ وافق آيبك على إطلاق سراح بقية الأسرى الصليبيين.
ـ إعفاء لويس التاسع من بقية المبلغ المتبقي عليه من الفدية.
ـ وعد آيبك الملك الفرنسي بأن يعيد للصليبيين كل مملكة بيت المقدس التي كانت تمتد شرقاً حتى نهر الأردن.
غير أن التحالف المملوكي ـ الصليبي لم يؤد إلى شيء من النتائج إذ بعد توقيع المعاهدة إتفق كل من آيبك ولويس التاسع على القيام بحملة مشتركة لطرد الناصر يوسف من بلاد الشام، وكان من المتفق عليه أن يستولى لويس التاسع على يافا، في حين يستولي آيبك على غزة، ثم يتم الاتصال بينهما، ويقوم الجيشان بعد ذلك بهجوم مشترك على الامارات الأيوبية. وتنفيذاً لهذه الخطة خرج لويس التاسع على رأس ألف وخمسمائة مقاتل إلى يافا واستولى عليها دون مقاومة وكانت تحت الحكم الأيوبي، بينما تقدك الجيش المملوكي بقيادة فارس الدين أقطاي، نحو غزة، وعسكر في الصالحية، ويبدو أن الناصر يوسف علم بأنباء هذا التحالف، وما أعده من خطط لطرد الأيوبيين من بلاد الشام، فتحرك على وجه السرعة، ليحول دون إلتقاء الحليفين، فأرسل قوة عسكرية من أربعة آلاف مقاتل عسكرت على تل العجول قرب غزة، وبعد أن سيطرت على هذه المدينة، إرتدت إلى يافا لاستعادتها من يد لويس التاسع. وبفعل سيطرت الأيوبيين على غزة ظل المماليك في الصالحية، وظهرت بين الطرفين بوادر إحتكاك واستمر كل منهما يتحفز بالآخر، حتى أضحت المواجهة المكشوفة وشيكة الوقوع، لكن الصلح تم بين الطرفين في أوائل 651هـ/1253م، فما الذي تغير على الساحة السياسية؟.
4 ـ الخليفة العباسي وسعيه في الصلح: الواقع أنه لم يقدر للعداء بين الأيوبيين والمماليك أن يستمر في هذه الآونة وذلك بسبب ظهور خطر جديد هدد المسلمين جميعاً في الشرق الأدني وتطلب منهم أن يتحدوا وهو ظهور المغولي الذين اكتسحوا العراق ووصلت طلائعهم قرب بغداد، ولم يبق من قوة في العالم الإسلامي يمكن أن تدعم الخليفة سوى الشام ومصر، فأعاد الخليفة تسيير رسوله نجم الدين البادرائي لإعادة الصلح وتثبيته بين الناصر يوسف والمعز آيبك، وتمكن رسول الخليفة من عقد صلح بينهما تقرر فيه:
ـ إعتراف الناصر يوسف بسلطة آيبك، وبسيادة المماليك على مصر وبلاد الشام حتى نهر الأردن على أن تدخل مدن غزة وبيت المقدس ونابلس والساحل الفلسطيني كله في حوزته.
ـ إعتراف المماليك بسيادة الأيوبيين على بقية بلاد الشام والواضح أن موجة الرعب التي أثارها المغول أثناء زحفهم من جوف آسيا بإتجاه العالم الإسلامي، وأخبار وحشيتهم جعلت الطرفين يستجيبان بسهولة لدعوة الخليفة، وكان المعز آيبك قد استغل إنتصاره على الناصر يوسف، وإزدياد خطر المغول وتهديدهم لبلاد الشام ومصر، فتخلص من شريكه في الحكم، وهو الأشرف موسى، فحذف إسمه من الخطبة، وقبض عليه، وسجنه في قلعة الجبل وذلك في عام 650هـ/1252م، واستقل بالسلطنة. ومهما يكن من شيء فقد إتضح للملك الفرنسي واللاتيني أنه بوسع المسلمين في مصر والشام إذا إتحدت جهودهم، واتفقت كلمتهم، أن يدفعوا عنهم خطر الجماعات الصليبية وأن يعملوا على مضايقتها بشتى الوسائل، وكان الصلح التي تم بين الناصر والمعز آيبك في صفر 651هـ/أبريل 1253م بمثابة ضربة وجهت إلى قلب القوى الصليبية وإلى لويس التاسع نفسه، إذ أنه أتاح الفرصة للناصر يوسف بعد أن فرغ من جميع ما يشغل باله، لتلقين الفرنج درساً قاسياً، وكان من الطبيعي أن يبدأ الصدام بين قوات كل من الناصر يوسف ولويس التاسع، بعد أن كشف الأخير عن نياته واتخذ من أمراء مصر حلفاء له ضد خصومهم في الشام وساعد على ذلك أيضاً أن قوات صاحب حلب كانت ترابط قبالة غزة على مقربة من المعسكر الصليبي يافا، ومع أن هذا الصدام لم يكن فيه معركة حاسمة، إلا أنه كان مقدمة أو بداية لسلسلة من الهجمات الشديدة التي ستكيلها القوات الناصرية للصليبيين وولاياتهم بعد إقرار الصلح بينها وبين مصر. لقد فشل لويس التاسع في الاستفادة من الإنشقاق الذي حدث بين الشام ومصر إلا أنه اضطر أخيراً العودة إلى فرنسا، فغادر فلسطين في ربيع الأول سنة 652هـ/24 نيسان 1254م مجروحاً في كرامته وعزته وكبريائه بعد هزيمته في مصر، وكان ذلك إيذاناً بإضمحلال الروح الفرنجية العسكرية وموتها فيما بعد في وقت كانت تكابد فيه طور النزع الأخير.
5 ـ تمرد القبائل العربية ضد المماليك في مصر: ومن المشاكل التي اعترضت السلطان آيبك، هي ثورة بعض القبال العربية أو ما يسمى بالعربان في مصر سنة 1253م. من المعروف أن القبال العربية استوطنت مصر بعد الفتح الإسلامي وتأثرت بالبيئة المصرية الزراعية، وأخذت تتحول تدريجياً إلى شعب زراعي مستقر، ولا سيما في أقاليم الصعيد والشرقية وأطلق عليهم إسم العرب المزارعة، وكان هؤلاء الأعراب يقومون بفلاحة الأرض على مقربة من القرى القديمة الآهلة بالفلاحين من أهالي البلاد، غير أنه يلاحظ أن هؤلاء الأعراب كانوا يتمتعون بمركز إجتماعي أعلى مرتبة من الفلاحين بسبب المساعدات الحربية التي كانوا يؤدونها للدولة في وقت الحرب ولا سيما إبان الحروب الصليبية وكان مشايخ العربان تقع عليهم تبعة حفظ النظام في القرى والأرياف كذلك مساهمتهم في الإنتاج الزراعي ودفع الخراج، وكان تعسف أمراء المماليك في تحديد أثمان المنتجات الزراعية وإحتكارها والتلاعب في أسعارها أحياناً، من الأسباب التي دفعت بهؤلاء المزارعين العرب إلى القيام بثورات متعددة طول العصر المملوكي وهذه الثورات عرفت في الكتب المعاصرة باسم ((فساد العربان))، وكانت تنتهي في العادة بهزيمة العرب، نظراً لبراعة المماليك في فنون القتال، وتجريد العرب من وسائل الدفاع المؤثرة، ففي منشور صدر في عصر المماليك جاء ما يلى:… فلا يمكن أحداً من العربان ولا من الفلاحين أن يركب فرساً فإنما يعدها للخيانة مختلساً ولا يكون لها مرتبطاً ولا محتسباً، وكن لهم ملاقياً مراقباً، فمن فعل ذلك فانتقم منه بما رسمنا معاقباً ولا تمكنهم من حمل السلاح، ولا ابتياعه ولا استعارته ولا استيداعه وتفقد من بالأقاليم من تجارة وصناعة فخذ بالقيمة ما عند التجار، وأقمع بذلك نفس الفجار وأخرم نار العذاب على من أخرم لعمل ذلك النار. وورد في منشور آخر ما يلي:… ولا يمكن أحداً من العربان بجميع الوجه القبلي أن يركب فرساً ولا يقتنيه ويكفي بذلك الأيدي المعتدية فإن المصلحة لمنعهم من ركوبها مقتضية … ومن وجد من العربان خالف المرسوم الشريف من منعه من ركوب الخيل كائناً من كان ضرب عنقه وأرهقه من البطش بما أرهقه ليرتجع به أمثاله، ولا يتسع لأحد في الشرق مجاله، ويرجع أسباب الصراع القائم بين العرب والمماليك إلى أن المماليك الذين أستولوا على الحكم لم يكونوا من أهل البلاد وإنما كانوا مجرد وافدين لأغراض حربية، فحسب، كما أنهم لم يرتبطوا مع الشعب المصري بروابط المصاهرة والنسب وظلوا منعزلين عن أفراد الشعب ومع ذلك فإنه إذا كان للمماليك دور فعال في الدفاع عن مصر وحمايتها من أعدائها فإن للمصريين والعرب دورهم أيضاً في الدفاع بنفس القدر الذي كان للمماليك ولذلك فقد رأى العرب أنهم أحق من المماليك الغرباء بحكم مصر، فقامت الثورات ضدهم وأستخدم المماليك في قمع تلك الثورات وسائل متعددة تنطوي على القسوة والقهر، من وسائل قتل وتعذيب معروفة في ذلك العهد وقد أدت هذه السياسة إلى هجرة عدد كبير من المزارعين إلى المدن الكبرى بغية التسول أو السرقة أو الإشتراك في المنازعات والإضطرابات الداخلية التي كانت بين أمراء المماليك، وكانت دوافع تلك الثورات اقتصادية وسياسية، ولا شك أن الدافع السياسي وسعي بعض القبائل العربية للقضاء على حكم المماليك ولّد ردة فعل لديهم مما جعلهم يستخدمون سياسة العنف والقسوة في قمع الثورات خوفاً على سلطانهم وأول وأخطر ثورة قام بها الأعراب أيام المماليك، هي الثورة التي قاموا بها في عهد السلطان أيبك التركماني عام 651هـ /1253م وأسباب هذه الثورة ترجع إلى عوامل اقتصادية وسياسية كما أسلفنا، فالمماليك منذ أن أنتصروا على الأيوبيين في وقعة العباسية وتدخلت الخلافة في صالحهم اعتقدوا أن البلاد وما فيها صارت لهم ولا منازع، فبالغوا في الفساد والاستهتار وزيادة الضرائب، إلى درجة أن بعض المؤرخين أمثال المقريزي وأبي المحاسن، فضلوا عليهم الصليبيين وقالوا لو أن الفرنج ملكوا مصر ما فعلوا فعلهم.وهذا كلام لا يستقيم أمام الوقائع التاريخية فالفرنج لما تمكنوا من ثغر دمياط في الحملة الصليبية، عملوا ما تقشعر منه الأبدان وتشيب منه الرؤس، وفصلنا كثيراً من أعمال الفرنج في كتبنا السابقة عن الحروب الصليبية، وقد حاول بعض المؤرخين أن يقدم لنا صفحات التاريخ المملوكي بلون أسود مظلم قاتم، ومع اعترافنا بالحقيقة المرّة أن تمزقاً كان يقوم بين طوائف المجتمع في عهد المماليك وبين الأمراء المماليك أنفسهم وولاءتهم المتعددة، فإن إشراقة من الإيمان تطل علينا وشموعاً تضاء في دهاليز الذات لدى هذا القائد أو ذاك، عندما يمس الإيمان شغاف قلبه، ويحرّك القرآن فيه روح الجهاد والاستشهاد، إن من التجني أن ننسى الدور الرائد الفذ الذي قام به الظاهر بيبرس والمظفر قطز في قيادة جيش إسلامي وقف كالطود الشامخ في وجه الزحف التتري، الذي كان يستهدف عقيدتنا، وديارنا وأمتنا ويسى لإجتثـاث ذلك كله من الوجود، وكانت النتيجة إندحار الغزاة وهزيمة المعتدين بوحدة الصف ودافع الإيمان الصادق المتين.إن معركة عين جالوت تمثل معلماً مضيئاً في خضم الظلمات ومثلها معالم أخرى، كتحرير بلاد الشام من المشروع الصليبي في عهد المنصور بن قلاوون والمدارس التي بنيت والمكاتب التي أوقفت والمساجد التي شيدت وصرح الخير والبر والمرحمة، والحركة العلمية الموسوعية التي قادها علماء ذلك العصر، كالنووي وابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير والمزي والسبكي والمقريزي وابن خلدون والسيوطي وغيرهم كثير، وهذا ما سوف نعرفه في هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
الحقيقة هناك تجاوزات حدثت في عهد المماليك منها استخدام العنف الغير مبرر ضد المعارضين مما ولّدت ردة فعل عكسية قال أبو المحاسن: إن أهل مصر لم يرضوا بسلطان مسه الرق، وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك وهم يسمعونه ما يكره حتى في وجهه إذا ركب ومر بالطرقات، ويقولون لا نريد إلا سلطاناً رئيساً مولوداً على الفطرة.وتزعم تلك الثورة الشعبية شريف علوي وهو حصن الدين بن ثعلب الذي طمع في السلطنة، وصرح بأن ملك مصر يجب أن يكون للعرب وليس للعبيد الأرقاء، وأقام دولة عربية مستقلة في مصر الوسطى، وفي منطقة الشرقية بالوجه البحري وكانت قاعدة هذه الدولة بنواحي الفيوم في بلدة تعرف بذروة سريام أو ذروة الشريف ((نسبة إليه)) وتقع بين النيل وترعة المنهى التي هي الآن بحر يوسف. واتصل الشريف حصن الدين بالملك الناصر يوسف الأيوبي صاحب الشام يطلب مساعدته في محاربة أيبك في ذلك الوقت، إذ كانت رسل الخليفة المستعصم قد تدخلت لحسم النزاع بينهما وكان العرب يومئذ في كثرة من الرجال والخيل والمال بفضل الله ثم مشاركتهم في حروب الصليبيين، فكونوا جيشاً كبيراً والتفوا حول زعيم حصن الدين وحلفوا له، واضطر السلطان أيبك أن يرسل حملة تأديبية للقضاء على هذه الثورة، ومن عجب أن يسند قيادتها إلى منافسه أقطاي وذلك فيما يبدو لمهارته الحربية، وخرج أقطاي من القاهرة بخمسة الآلاف فارس من خيرة المماليك وتوجه إلى الشرقية حيث كانت أكبر مظاهر العصيان، وعلى الرغم من قلة عدد المماليك بالقياس إلى العرب، تغلب المماليك بسبب تفوقهم الحربي ومهارة قائدهم أقطاي، وتهدمت المقاومة العربية في بلبيس سنة 1253م، غير أنها بقيت على حالها في مصر الوسطى، حيث ظل حصن الدين طليقاً وأقام حكومة مستقلة هناك ولم يتمكن أيبك ومن جاء بعده من سلاطين من القبض عليه إلى أن خدعه السلطان بيبرس البند قداري وقبض عليه وشنقه بالإسكندرية، وكيفما كان الأمر في نهاية الأمير حصن الدين، فالمهم هنا أن أيبك تغلب على أحد العناصر المهددة بقيام دولة المماليك واستقرارها في مصر، وذكر المقريزي في السلوك أن من نتاج ثورات العرب ضد المماليك: أن تبدد شمل عرب مصر وخمدت جمرتهم من حينئذ.
6 ـ خطر زملائه المماليك ومقتل الفارس أقطاي: ومن العوائق التي هددت حكم أيبك ودولته الناشئة، خطر زملائه المماليك البحرية وزعيمهم فارس الدين أقطاي وكان أيبك يتوجس خيفة من هذه الطائفة لعلمه بقوتها وخطرها، ومن ثم أخذ يعمل على تقوية نفسه، فأنشأ فرقة من المماليك عرفوا بالمعزية نسبة إلى لقبه"الملك المعز" كما عين مملوكه قطز المعزى نائباً للسلطنة بمصر، ثم لم يلبث أن أخرج المماليك البحرية من ثكناتهم بجزيرة الروضة، وعزل الملك الأيوبي الطفل موسى شريكه في الحكم، وانفرد بالسلطنة، على أن هذه الإجراءات كلها لم تكن إلا مجرد احتياطات شكلية لم تقلل من خطر أقطاي وزملائه البحرية، ويجمع المؤرخون على أن أقطاي وصل إلى قمة المجد خصوصاً بعد تغلبه على ثورة العرب، وأصبح لا يظهر في مكان إلا حوله حرس عظيم من الفرسان المسلحين كأنه ملك متوج، وكانت نفسه ترى أن ملك مصر لا شيء عنده وكان كثيراً ما يذكر الملك المعز في مجلسه ويستنقصه ولا يسميه إلا أيبكاً، وقد بلغ ذلك المعز فكان يغضى عنه لكثرة خشداشيته البحرية، وتلقي المصادر التاريخية الضوء على القوة التي كان يمارسها ويتمتع بها أقطاي، فالمقريزي يقول عنه: واجتمع الكل على باب الأمير فارس الدين أقطاي، وقد استولى على الأمور كلها، وبقيت الكتب إنما ترد من الملك الناصر وغيره إليه، ولا يقدر أحد يفتح كتاباً ولا يتكلم بشيء، ولا يبرم أمراً إلا بحضور أقطاي.
لكثرة خشداشيته، وابن تغري بردي يقول عنه: فإنه كان أمره قد زاد في العظمة والتفت عليه المماليك البحرية وصار أقطاي المذكور يركب بالشاويش وغيره من شعار الملك وحدثثه نفسه بالملك وكان أصحابه يسمونه الملك الجواد، فيما بينهم وعملوا على تزويجه من أحد أميرات البيت الأيوبي، وهي ابنة الملك المظفر تقي الدين محمود ملك حماة، بل إنهم تآمروا على قتل أيبك ليخلو الجو لأقطاي، قال الذهبي عنه: فعظم، وصار نائب المملكة للمعز وكان بطلاً شجاعاً جواداً، مليح الشكل، كثير التحمل، أبيع بألف دينار، وأقطع من جمله إقطاعه الإسكندرية، وكان طائشاً ظلوماً عمّالا على السلطنة، بقي، يركب في دست الملك، ولا يلتفت على المعز، ويأخذ ما شاء من الخزائن، بحيث إنه قال: اخلوا لي القلعة حتى أعمل عُرس بنت صاحب حماة بها، وفهم منها المعز أنه مستهدف لإزالته من الحكم فقرّر التخلص منه، واتفق مع مماليكه على ذلك وأرسل إلى أقطاي يستدعيه موهماً له أنه يستشيره في مهمات من الأمور، وأكمن له كميناً من مماليكه وراء باب قاعة الأعمدة بالقلعة وقرر معهم أنه إذا مَرَّ مجتازاً بالدهليز يبتدرونه بسرعة، فلما وردته إلى أقطاي رسالة المعز بادر بالركوب في نفر يسير من مماليكه من غير أن يعلم أحد من خشداشيته، لثقته بتمكن حرمته وطلع القلعة آمناً ولم يدر بما كان له كامناً فلما وصل إلى باب القلعة مُنع مماليكه من الدخول معه، ووثب عليه المماليك المعزَّية فأذاقوه كأس المنية وكان قتله يوم الاثنين حادي عشرين من شعبان وامر المعز بغلق باب القعلة، فركبت مماليكه وحاشيته وكانوا سبعمائة فارس ومعهم جماعة من البحرية وقصدوا قلعة الجبل، بناءً على أن المعز قُبض عليه فبينما هم كذلك أرمي لهم برأسه من فوق السور فالتفت بعضهم إلى بعض وقالوا على من تقاتلوا فتفرقوا جميعهم، ولما شاع الخبر بقتله، أجمعوا البحرية على الخروج إلى الشام، وكان من أعيانهم يومئذ ركن الدين بيبرس البندقدار ي، وقلاون الألفي، وسنقر الأسثقر، وبَيْسري، وسِكر، وبرامق، فشمروا ويلاً وخرجوا ليلاً فوجدوا باب المدينة الذي قصدوا الخروج منه مغلقاً، فأضرموا فيه النار، وهو الباب المعروف بباب القارطين فأحرقوه، وخرجوا منه نحو الشام، فسمي من يومئذ الباب المحروق، وقصد البحرية الملك الناصر صاحب الشام ليكونوا عنده ولما أصبح المعز، بلغه هروبهم من المدينة فأمر بالحوطة على أملاكهم وأموالهم ونسوانهم وغلمانهم واتباعهم، وإسبتصفيت أموالهم وذخائرهم وشؤنهم وخزائنهم، واستتر من تأخر منهم، وحمل من موجود الأمير فارس أقطاي الجمال المستكثرة من الأموال ونودي على البحرية في الأسواق والشوارع، وتمكن الملك المعز من المملكة وارتجع ثغر الاسكندرية إلى الخاص السلطاني، وأبطل ما قرره من الجبايات وأعفى الرعية من المصادرات والمطالبات وأما البحريةّ، فإنهم وفدوا على الملك الناصر، فأحسن إليهم، وأقبل عليهم وأعطى كلاً منهم إقطاعاً يلائمه، ثم عزم على قصد الديار المصرية، فجرد عسكراً صحبة البحرية فساروا ونزلوا الغور واتخذوا العوجاء منزلا، وبلغ المعزّ مسيرهم إليه واتفاقهم عليه، فبرز بالعساكر المصرية ومعه جماعة ممن حضر إليه من العزيزية، فنزل الباردة بالقرب من العباسية وانقضت هذه السنة وهو مخيم بها، وفي هذه السنة وصل الشريف المرتضى من الروم ومعه بنت السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسروا صاحب الروم وكان الناصر قد خطبها لنفسه، فزفت إليه بدمشق، ودخل بها واحتفل بها احتفالا كبيراً.
وتدخل الخليفة العباسي من جديد بين الأيوبيين والمماليك ووصل نجم الدين البادرائي لتوسط بين الطرفين ونجح في تجديد معاهدة الصلح على أن:
ـ يستعيد المعز أيبك ساحل بلاد الشام.
ـ ألا يأوي الناصر يوسف أحداً من المماليك البحرية.
7 ـ مقتل السلطان أيبك وشجرة الدر: يبدو أن أيبك أخذ يشعر بما بين زوجته شجرة الدر والمماليك البحرية بالكرك من مراسلات واتفاقات، فعزم على الزواج من غيرها وأرسل سنة 1256م ميلادية إلى بدر الدين لؤلؤ الاتابكي صاحب الموصل يطلب إليه حلفا زواجيا لم يعلم عنه إلا ما تداولته المراجع من خطبته أيبك لابنة بدر الدين وليس من المعقول أن تكون الخطبة قاصرة على مجرد الرغبة في الزواج إذ ربما أراد من وراء ذلك الحلف معرفة تحركات المغول عن طريق صاحب الموصل، وكيفما كان الأمر فقد كانت هذه المسألة بداية الخاتمة لعهد أيبك، وذلك لئن شجرة الدر لما علمت ما يبيت لها أخذت هي تتزعم حركة المعارضة الداخلية والخارجية لسلطنته، فقام بعض من بقي في مصر من البحرية بمعارضة مشروع الزواج، فقبض أيبك على عدد كبير، منهم أيدكين الصالحي، وسيرهم لقلعة الجبل لسجنهم في الجب، فلما وصلوا إلى قرب نافذه القصر السلطاني حيث سكنت شجرة الدر، احنى الأمير أيدكين رأسه احتراماً وقال بالتركية(والله يا خوندما عملنا ذنب وجب مسكناً ولكنه لما سير يخطب بنت صاحب الموصل، ما هان علينا لأجلك، فانا تربية نعمتك ونعمة الشهيد المرحوم"الصالح أيوب"، فلما عتبناه تغير علينا وفعل بنا ما ترين، فأومأت إليه شجرة الدر بمنديلها بما معناه"قد سمعت كلامك" وعندما نزلوا بهم إلى الجب قال أيدكين؛ إن كان قد حبسنا فقد قتلناه، ومعنى هذا أن شجرة الدر كانت قد بيتت هي الأخرى لايبك جزاء وفاقاً، وأن قبضه على أولئك لم يكن مجرد معارضتهم في الزواج، بل لأنه علم بمؤامرتهم، فأراد أن يقضي على الحركة كلها بالفصل بين أمراء المماليك وزعيمتهم غير أن شجرة الدر كانت قد دبرت ما لم يكن في الحسبان إذ أرسلت سراً أحد المماليك العزيزية إلى الملك الناصر يوسف بهدية ورسالة تخبره فيها أنها عزمت على قتل أيبك والتزوج منه وتمليكه عرش مصر، ولكن الناصر أعرض عنها خوفاً أن يكون في الأمر خدعة، ولم يجبها بشيء وعلم بدر الدين لؤلؤ باخبار هذه المفاوضات السرية فبعث بها إلى أيبك ينصحه أن يأخذ حذره، وخاف أيبك على حياته فترك القلعة وأقام بمناظر اللوتي وصمم على قتل زوجته قبل أن تقضي عليه وأخذ الزوجان يتسابقان في نسج المؤامرات بعد القبض على البحرية في القاهرة، وانتهى السباق بانتصار المرأة في ميدانها، إذ أرسلت شجرة الدر إلى أيبك رسالة رقيقة تتلطف به وتدعوه بالحضور إليها بالقلعة، فاستجاب لدعوتها وصعد إلى القصر السلطاني بالقلعة حيث اعدت له شجرة الدر خمسة من الغلمان الأشداء لاغتياله، منهم محسن الجوجرى ونصر العزيزي، وسنجر وكان آخرهم من مماليك أقطاي، وقد قام هؤلاء الغلمان بما أمروا به وقتلوه في الحمام في أبريل سنة 1257م،655هـ، قال الذهبي عن السلطان المعز كان ديناً عاقلاً، كريماً، تاركاً للشرب.
حاولت شجرة الدر إخفاء واقعة القتل، وأمرت بتجهيز جثمان عز الدين أيبك بملابس لائقة ووضعه على فراشه، والإدعاء بأنه سقط من فوق جواده أثناء عدوه، وتسبب ذلك في إصابات أنهت حياته، وسرعان ما أنتشر نبأ وفاة السلطان وبدأ أمراء المماليك يتوافدون على القصر، وكانت شجرة الدر ما تفتأ تروي واقعة سقوطه من على ظهر جواده، لكنهم استمعوا إليها في ريبة، فقد شهد أيبك معارك كثيرة خاضها وهو يحارب من على ظهر جواده لكنها في كل مرة كانت تصر وتؤكد الواقعة، وأحيط بشجرة الدر، وواجها أمراء المماليك فلم يكن أمامها إلا أن تعترف بأنها أرادت الإنتقام، لكن لم يخطر ببالها أبداً أن ذلك سيؤدي إلى وفاته وتشاور أمراء المماليك فيما يصنعون، لقد وقفوا مع شجرة الدر بادئ الأمر، وصنعوا منها ملكة وسلطانة، وأحاطوها برعايتهم وحمايتهم، حتى في أصعب الأوقات، وباركوا زواجها من عز الدين أيبك،  وساعدوها على أن تصبح زوجة السلطان، فكيف ترتكب هذه الفعلة النكراء؟ وتتنكر على هذا النحو البغيض على أنهم انقسموا على امرهم، وانحاز بعض الأمراء إلى جانبها وأعادوا ما كان لأيبك من قسوة وغلطة وجبروت، فضلاً عن أن وجود شجرة الدر يعتبر ضرورياً  كرمز للشرعية، فهي أرملة نجم الدين أيوب وأم أبنه خليل، ولها من الأيادي على مصر وعلى المماليك انفسهم الشيء الكثير البادي للعيان ورأى البعض الآخر أنها قد ارتكبت جريمة مرعبة، وكاد الأمر أن يتطور إلى حرب بين الفريقين، وأخيراً انتصر أعداؤها وحُبست في أحد أبراج القلعة، ونودي بعلي، بن عز الدين أيبك السلطان الراحل، سلطاناً جديداً ليخلف والده الراحل ويحدثنا أحد المؤرخين أن شجرة الدر كانت قوية في مواجهة الموت كما كانت قوية في مواجهة المدلهمات، فلمّا ايقنت من نهايتها أسرعت إلى خزانتها واستخرجت حليها ومجوهراتها جميعاً، وسحقتها سحقاً حتى لا تتزين بها غريمتها أم على زوجة السلطان الأولى وفي هذه الرواية شك كبير كذلك؛ فكيف لشجرة الدر، وهي سجينة في برج بالقلعة أن تسرع إلى خزنتها وتستخرج حليها، ثم تسحقها جميعاً حتى لا تتزين بها غريمتها أم على كما يقول المؤرخ؟ وفي خارج القصر هدأت الجموع التي أثارها انتشار النبأ ورضي الجيش بالسلطان الجديد بعد أن كان قد انقسم على نفسه بين مؤيد لشجرة الدر ومنكر لها، وتوقفت أعمال الشغب التي كانت قد انتشرت في القاهرة، وتجنّب أمراء المماليك شبح الفتنة التي كانت، تتهددهم، واقتيدت شجرة الدر إلى بلاط السلطان الجديد حيث كانت غريمتها أم على، زوجة أيبك الأولى قد أصبحت منها أم السلطان الجديد، وتمايلت أم علي فرحاً فكانت تنتظر فرصة كهذه منذ سبع سنوات، منذ أن هجرها زوجها أيبك وهجر معهما أبنهما علي. إن ساعة الإنتقام قد أزفت، وأمرت خادمات القصر بالدخول على شجرة الدر وضربها بالقباقيب حتى تفارق الحياة، يقول المقريزي: فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت، وألقوها من سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها، سوى سروال وقميص، فبقيت في الخندق أياماً وأخذ بعض أراذل العامة تكة سراويلها ثم دفنت بعد أيام ـ وقد نتنت ـ وحملت في قفة، بتربتها، قال عنها الذهبي: ودفنت بتربتها بقرب قبر السيدة نفيسة، وقيل: إنها أودعت أمولاً كثيرة فذهبت، وكانت حسنة السيرة، هناك لكن هلكت بالغيرة، وقال ابن العماد فيها: كانت بارعة الحسن، ذات ذكاء وعقل ودهاء… نالت من السعادة أعلى المراتب، بحيث أنها خُطِبَ لها على المنابر، وملَّكوها عليهم أياماً، فلم يتم ذلك، وتملك المعز آيبك فتزوج بها وكانت ربما تحكم عليه، وكانت تركية ذات شهامة وإقدام وجرأة وآل أمرها إلى أن قتلت. وأما غريمتها أم السلطان الجديد، أم علي، فكانت قد نذرت أن تدعو كل سكان القاهرة، إلى وجبة من الحلوى في نفس اليوم الذي تتخلص فيه من غريمتها، وعندما ماتت شجرة الدر، أمرت طهاة القصر بإعداد تلك الوجبة، لكن الوقت لا يسمح بالإنتهاء في نفس اليوم، فجاءتهم بوصفة طهي بسيطة للغاية، كما كميات ضخمة الخبز، يجري تسخينها إلى درجة الإحمرار وتغمر في اللبن والعسل، ثم تغطى بطبقة سمكية من اللوز والزبيب والصنوبر، وإلي وجبة الحلوى اللذيذة التي تقدم في المطاعم في أيامنا هذه، وقد سميت بإسم أول من صنعتها، أم علي.
8 ـ سلطنة على ابن المعز ثم تولي سيف الدين قطز: صمم المماليك المعزية، وعلى رأسهم سيف الدين قطز، على أن يقيموا على العرش الذي بات شاغراً بمصرع آيبك صبياً في الخامسة عشر من عمره هو (نور الدين علي)) ابن سيدهم المعز آيبك، وتم ذلك في ربيع الأول سنة 655هـ/1257م ولقبوه الملك المنصور علي، وقد رفض المماليك الاعتراف بالسلطان الصبي، وتجسد رفضهم في عدة إضطرابات عاصفة، استنجدت بعض الفئات المتنازعة بملوك بني أيوب في بلاد الشام، وحاول المغيث عمر صاحب إمارة الكرك ـ في الأردن حالياً ـ غزو مصر مرتين، لكن الفشل كان من نصيبه، بيد أن هذه الاضطرابات كانت فرصة جديدة لظهور نجم الأمير سيف الدين قطز، فقد قام قطز بالقبض على الآتابك سنجر الحلبي وحبسه في الجب بقلعة الجبل، لأنه كان يطمع في السلطنة بعد مقتل المعز آيبك، ولأنه كان يتحين الفرصة للوثوب على العرش، وأدى ذلك إلى مزيد من الاضطرابات والفوضى، فقد هرب عدد من المماليك البحرية إلى جهة الشام، وطاردهم المماليك المعزية وقبضوا على عدد منهم وأودعوهم سجون القلعة، وخلا الجو لسيف الدين قطز فصار نائب السلطان:.. وصار مدبر دولة الملك المنصور علي. وكان جلسو السلطان الصبي على العرش مسألة قصد بها كسب الوقت حتى يمكن لواحد من كبار المماليك الطامعين في عرش السلطنة أن يحسم الصراع لصالحه، وكان هذا مشهداً تكرر كثيراً طوال عصر سلاطين المماليك، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إن هذه كانت ممارسة سياسية حظيت بإعتراف الجميع طوال ذلك العصر ومن المهم أن نشير إلى أن المماليك لم يؤمنوا بنظام وراثة العرش، إذ طبيعتهم العسكرية من ناحية، وشعورهم بأنهم جميعاً سواء في ناحية أخرى، جعل كبار أمرائهم يعتقدون أنهم جميعاً يستحقون العرش الذي يفوز به اقواهم، واقدرهم على الإيقاع بالآخرين تحقيقاً لمبدأ (الحكم لمن غلب)، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن ظل عرش السلطنة على الدوام محل التنافس والمنازعات بين كبار الأمراء، لا سيما عندما يخلو العرش بسبب موت السلطان، وكان هذا هو الحال عندما مات عز الدين آيبك ولم يشأ ((سيف الدين قطز)) أن يتعجل الأمور ويواجه المنافسين، فأمسك بيده زمام السلطة الفعلية تاركاً للسلطان الصبي شعار السلطنة ولقبها.. ولا شيء أكثر من ذلك وبات عرش مصر قاب قوسين أو أدنى، ثم جاءت الفرصة تسعى إلى قطز، وكان سيف الدين قطز مشغولاً بترتيب الأوضاع السياسية الداخلية لصالحه، على حين كانت الإشاعات تملأ سماء القاهرة بأن السلطان الصبي يريد خلع قطز مملوك أبيه وصاحب اليد البيضاء في توليه عرش البلاد، وإجتمع الأمراء في بيت أحد كبارهم، وتكلموا إلى أن نجحوا في إصلاح الأمور بين الملك المنصور علي وبين مملوك أبيه الأمير قطز،.. وخلع عليه وطيب قلبه وهكذا توطدت مكانة سيف الدين في الدولة، وفي الوقت نفسه كانت الأحوال متردية تماماً بسبب الفتن التي أثارتها طوائف المماليك في القاهرة، كما كان خطر محاولات الغزو الفاشلة التي قام بها المغيث عمر في ذي القعدة 655هـ/1257م وفي ربيع الأول سنة 656هـ/1258م يقلق باله، بحيث خرج في المرتين للقاء المماليك البحرية وحليفهم الأيوبي وبفضل شجاعة ((سيف قطز)) تم القضاء عل هذا الخطر الأيوبي بيد أنه كان على قطز أن يواصل ترتيب أمور المملكة في الداخل وبعد أن واجه الخطر الخارجي، فقد قبض على جماعة من الأمراء لميلهم إلى ((الملك المغيث عمر)) في هذا الشهر نفسه، وهم: الأمير ((عز الدين آيبك الرومي الصالحي))، والأمير ((سيف بلبان الكافوري الصالحي الأشرفي))، والأمير ((بدر الدين بكتوت الأشرفي))، والأمير ((بدر الدين بلغان الأشرفي)) وغيرهم، وضرب أعناقهم في السادس والعشرين من ربيع الأول واستولى على أموالهم كلها، وبذلك إزدادت القامة السياسية لسيف الدين قظز طولاً، ولكن الدولة التي يحكمها سلطان في سن الصبى بدت واهنة ضعيفة وغير قادرة على تحمل مؤامرات الصغار ولعبهم بأقدار البلاد والعباد، ثم بدا صدى طبول الحرب التتارية يتردد على حدود السلطنة الوليدة، ولم يكن بوسع السلطان الصبي ((نور الدين علي)) أن يفعل شيئاً إزاء هذا الخطر الداهم، فقد كان يقضي وقته في ركوب الحمير والتنزه في القلعة.. ويلعب بالحمام مع الخدم، ومع كل خبر جديد عن وحشية التتار كانت الأحوال تزداد إضطراباً والقلق يفترس نفوس الناس. وتعين على الأمير سيف الدين قطز نائب السلطنة أن يخطو الخطوة الأخيرة نحو العرش من ناحية وتدعيم نفوذه السياسي الداخلي من ناحية أخرى والاستعداد لمواجهة التتار، من ناحية ثالثة، ومع اقتراب جحافل التتار من الشام أرسل الملك الناصر المؤرخ والفقيه المعروف كمال بن العديم إلى مصر يستنجد بعساكرها وهكذا بدأت الحرب تطل بوجها المرعب، على الساحة السياسية في مصر، وكان النجم الساطع في تلك الساحة هو الأمير ((سيف الدين قطز))، ولما قدم ابن العديم إلى القاهرة، عقد مجلس بالقلعة حضره السلطان الصبي الملك المنصور نور الدين علي، وحضره كبار أهل الرأي من الفقهاء والقضاة، مثل: قاضي القضاة بدر الدين حسن السنجاري، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكان سيف الدين قطز بين الحاضرين، وسألهم الحاضرون عن أخذ الأموال من الناس لانفاقها على الجنود فأفتى الشيخ عز الدين بفتوته المشهورة التي يأتي تفصيلها عند الحديث عن عين جالوت بإذن الله تعالى، وكان هذا الاجتماع من الأدوات السياسية التي أحسن سيف الدين قطز استغلالها للوصول إلى هدفه النهائي، عرش مصر وقتال التتار، وكان ذلك الاجتماع الذي عقد بحضور السلطان الصبي آخر خطوات قطز صوب عرش مصر وقتال التتار. وبينما كان هولاكو يجتاح أقاليم العالم الإسلامي الشرقية كان نجم سيف الدين قطز يزداد سطوعاً وتزداد قامته السياسية طولاً، وكأنه على موعد مع التاريخ لكي ينجز مهمته الكبرى في هزيمة الجحافل التتارية الظالمة، لقد استغل قطز إجتماع القلعة لخلع السلطان الصبي، وأخذ يتحدث عن مساوئ المنصور علي، وقال: لا بد من سلطان قاهر يقاتل هذا العدو، والملك الصبي صغير لا يعرف تدبير الملك، وساعده على الوصول لهدفه أن مفاسد الملك المنصور علي كانت قد زادت حتى انفض الجميع من حوله واستهتر في اللعب وتحكمت أمه فاضطربت الأمور وجاءت الفرصة تسعى إلى سيف الدين قطز عندما خرج أمرا ء المماليك المعزية والبحرية إلى الصيد في منطقة العباسية بالشرقية وفي غزة، وعلى رأسهم سيف الدين بهادر والأمير علم الدين سنجر الغتمي، في يوم السبت 24 ذو القعدة سنة 657هـ/1259م وقبض قطز على الملك المنصور وعلى أخيه قاقان وأمهما وإعتقلهم في أحد أبراج القلعة، فكانت مدة حكم المنصور سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام. وهكذا اكتملت رحلة المملوك صوب العرش، وصار سلطاناً على الديار المصرية، وجلس على سرير الملك بقلعة الجبل في نفس اليوم، واتفق الحاضرون على توليته، لأنه كبير البيت ونائب الملك وزعيم الجيش، وهو معروف بالشجاعة والفروسية، ورضى به الأمراء الكبار والخوشداشية وأجلسوه على سرير الملك ولقبوه بالمظفر.
9 ـ ترتيب سيف الدين قطز للأمور الداخلية: لم يكن جلوس قطز على عرش السلطنة نهاية لرحلة المملوك إلى عرش السلطان، إذ كان على السلطان المظفر سيف الدين قطز أن يوطد دعائم حكمه في الداخل قبل أن يتوجه للقاء عدوه في الخارج، فبدأ بتغيير الوزير ابن بنت الأعز، وولى بدلاً منه زين الدين يعقوب عبد الرفيع بن يزيد بن الزبير، ثم كان عليه أن يواجه معارضة كبار الأمراء الذين قدموا إلى قلعة الجبل، وأنكروا ما كان من قبض قطز على الملك المنصور، ووثوبه على المك، فخافهم واعتذر إليهم بحركة التتار إلى جهة مصر والشام، وقال سيف الدين قطز في سياق تبريره لما حدث: وإني ما قصدت إلا أن نجتمع على قتال التتار، ولا يتأتى ذلك بغير ملك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالأمر لكم، أقيموا في السلطنة من شئتم، وأخذ يرضي أمراء المماليك حتى تمكن على حد تعبير المقريزي، وما أن شعر أن سلطته قد رسخت حتى أخذ يتخلص من كل من يمكن أن يشكل تهديداً على عرشه، فأرسل المنصور علي وأخاه وأمه إلى دمياط، واعتقلهم في برج بناه هناك وأطلق عليه أسم برج السلسلة، ثم نفاهم جميعاً إلى القسطنطنية، بعد ذلك قبض السلطان سيف الدين قطز على الأمير علم الدين سنجر الغتمي، والأمير عز الدين أيدمر النجيبـي الصغير، والأمير شرف الدين قيران المعزي، والأمير سيف الدين بهادر، والأمير شمس الدين قراسنقر، والأمير عز الدين أيبك النجمي الصغير، والأمير سيف الدين الدود خال الملك المنصور علي بن المعز والطواش شبل الدولة كافور لا لا الملك المنصور، والطواشي حسام الدين بلال المغيثي الجمدار، واعتقلهم، وهكذا تمكن من التخلص من رؤوس المعارضة، ومن ناحية أخرى، بدأ السلطان المظفر سيف الدين قطز يختار أركان دولته ويوطد دعائم حكمه، فحلف الأمراء والعسكر لنفسه، واستوزر الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع، وأقر الأمير فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي المعروف بالمستغرب أتابكاً وفوض إليه وإلى الصاحب زين الدين تدبير العساكر واستخدام الأجناد، وسائر أمور الجهاد والاستعداد للحرب ضد التتار، لقد ضمن سيف الدين قطز هدوء الأحوال داخل دولته، بيد أنه كان ما يزال متوجساً من ملوك الأيوبيين في بلاد الشام، خاصة الناصر يوسف صلاح الدين صاحب دمشق وحلب، وعندما علم بخبر قدوم نجدة من عند هولاكو إلى الملك الناصر بدمشق، خاف من عاقبة ذلك وكتب إليه خطاباً رقيقاً يحاول فيه تجنب المواجهة وأقسم قطز بالإيمان أنه لا ينازع الملك الناصر في الملك ولا يقاومه، وأكد له أنه نائب عنه بديار مصر، ومتى حل بها أقعده على الكرسي وقال قطز أيضاً: … وأن أخترتني خدمتك، وإن إخترت قدمت ومن معي من العسكر نجدة لك عل القادم عليك، فإن كنت لا تأمن حضوري سيرت لك العساكر صحبة من تختاره. وهكذا ظهرت من قطز معاني من التضحية والتواضع والحرص على وحدة الصف ساعدته للتصدي للمشروع المغولي وكسره في عين جالوت يأتي الحديث عنه مفصلاً بإذن الله في الفصل القادم.


















الفصل الثاني

معركة عين جالوت الخالدة
إنكسار المغول

المبحث الأول: إحتلال المغول لبلاد الشام والجزيرة:
أولاً: صمود ميا فارقين: انتهى التتار من غارات الاستطلاع في الجزيرة، ومن جمع المعلومات عن أرضها وشعبها وملوكها وكانوا قد فرغوا من أمر بغداد،فوجّهوا جيوشهم بثقلها صوب الجزيرة، وعلى رأسهم القائد العام للعمليات في المنطقة هولاكو خان، لم يضيع التتار الوقت في عام 656هـ/ 1258م بعد سقوط بغداد، توجه هولاكو مباشرة إلى الجزيرة، وكان هدفه دينسمر ونصيبين، ومن ثم حرّان، وكلّف ابنه يشموط بقيادة فرقة أخرى من جيش التتار والسير بإتجاه ميّافارقين وكلّف معه القائدين إيلكا نويان وسونتاي نويان، ووجّه فرقة أخرى بقيادة الصالح ابن صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ إلى آمد.
1 ـ آمد بمواجهة التتار:في عام 655هـ / 1257م كان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن المظفر شهاب الدين صاحب ميّافارقين قد عاد من زيارة منكوقاآن التتار الأعظم، بعد أن قدم له فروض الطاعة، فعلم أن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يكاتب أهل آمد لتسليمه المدينة، فطلب نجدة الملك السعيد صاحب ماردين، وأرسل عسكره، فطردوا عسكر سلاجقة الروم واحتلوا آمد، وفي عام 557هـ وبينما كان التتار يحاصرون ميّافارقين، وصل هولاكو إلى آمد واستدعى سيف الدين بن محلي نائب الكامل فيها، فخرج إليه،وطلب منهم هولاكو تسليم المدينة، فلم يمانع، وقام هولاكو بتسليمها إلى ابني كيخسرو سلطان سلاجقة الروم المتوفي، وهما رُكن الدين وعز الدين ولما اقتسما البلاد أصبحت آمد مع رُكن الدين قليبج أرسلان، وفيها نوّابه مع نوّاب التتار، ثم انتقلت بعد مقتله إلى ابنه غياث الدين.
2 ـ تحدي ميّافارقين للتتار:وبعد عودة الملك الكامل من خان التتار إلى ميّافارقين أعلن العصيان على التتار، وحبس نوّابهم وخرج بإتجاه دمشق لمقابلة الملك الناصر يوسف وقال له: إن هؤلاء التتار لا تفيد معهم مُدارة، ولا تنجح فيهم خدمة، وليس لهم غرض إلا في ذهاب الأنفس، والاستيلاء على البلاد، ومولانا السلطان قد بذل لهم الاموال من سنة أثنتين وأربعين ,إلى اليوم (656هـ)، فما الذي أثرت فيهم من خلوص المودة؟ فلا يغتر مولانا بكلام بدر الدين ـ صاحب الموصل ، ولا بكلام رسولك ـ الزين الحافظي، فإنهما جعلاك خبزاً ومعيشة وأحذرك كل الحذر من رسولك فإنه لا يناصحك ولا يختارك عليهم، وغرضه إخراج ملكك من يدك وأنا فقد علمت أنني مقتول سواء أكنت لهم أو عليهم، فاخترت بأن أكون باذلاً مهجتي في سبيل الله، وما الانتظار وقد نزلوا على بغداد، والمصلحة خروج السلطان ـ الناصر ـ بعساكره لإنجاد المسلمين وأنا بين يديه، فإن أدركناه عليها فيها، ونعمت وكانت لنا عند الخليفة اليد البيضاء وإن لم ندركه أخذنا بثأره.
3 ـ مشروع الكامل لمواجهة التتار:كانت لدى الكامل رؤية واضحة لموضوع الصراع مع التتار، وقد تجلت في المشروع الذي قدمه للملك الناصر الايوبي عند زيارته له في دمشق، وهو مشروع هجومي وليس دفاعي:
أ ـ أدرك الناصر أن نزول هولاكو على بغداد لحصارها هو الهدف الأكبر للتتار وإنهم بعده سيتوجهون إلى الجزيرة والشام.
ب ـ تأكد الكامل أن سقوط بغداد سيكون نهاية للدولة الإسلامية بكل رموزها ومعانيها وممالكها وإماراتها.
ج ـ لكل ذلك كان مشروعه يبدأ من بغداد، فقد طلب من الناصر يوسف التوجه بجيشه وسيكون الكامل معه إلى بغداد لنجدتها، فمعركة بغداد هي التي ستحسم الصراع مع بغداد.
د ـ كان يبدو من كلام الكامل ثقته ـ إلى حد ـ ما بالنصر، فإن لم يمكن نجدة الخليفة وإنقاذه فالثأر له.
س ـ قام الكامل بتحذير الناصر من تضليل بدر الدين لؤلؤ المتعامل مع التتار، ومن خيانة رسول الناصر إلى التتار وزيره الزين الحافظي ((فقد جعلوك خبزاً ومعيشة)).
لقد كان الكامل واحداً من الملوك القلّة الذين تجرّؤوا على مجرّد التفكير بالمقاومة وربما كان ذلك لتقديره الصحيح للموقف فقد قتل التتار الملوك المستسلمين والخاضعين والمقاومين على السوء، وهذا ما أثبتت الأيام صحته.
4 ـ ردّ الناصر على مشروع الكامل:ما إن علم الملك الناصر بتوجه الكامل المتمرد على التتار نحوه حتى جمع أرباب دولته واستشارهم، فكان رأي الأغلبية منهم استقبال الكامل، والاستماع إلى ما جاء من أجله، بينما عارض ذلك الزين الحافظي والصالح نور الدين بن المجاهد والملك الاشرف بن المنصور صاحب حمص، فإنهم كانوا متفقين مع التتار وقال الزين الحافظي للناصر: متى بلغ هولاكو خروجك إليه جعله سبباً إلى قصد بلادك والمصلحة اعتذارك إليه، وردّه، فلم يمكن الناصر إلا موافقة الجم الغفير، فخرج إليه، وتلقّاه وأنزله بدار السعادة، إن ما نستنتجه من ما دار في مجلس الملك الناصر هو أن أعوان التتار يشكلون حزباً له وجوده حتى في حاشية الملوك، ولكنّهم قلة، وأن معظم الناس كان مشاعرها ضد التتار، وتميل للمقاومة مهما كانت النتائج، لقد استمع الملك الناصر ولم يوافق على مشروع الكامل، فبعد أن عرض الكامل مشروعه للمسير إلى بغداد أيّد جميع الحاضرين في المجلس هذا المشروع، ما عدا حزب التتار، فقد كانت لهم جرأة في المعارضة، أما الملك الناصر، فكان ردّه متخاذلاً أكثر من تخاذله على أرض، إذ عرض على الكامل أن يرسل من طرفه رسولاً ليشفع له عند هولاكو، فأجابه الكامل قائلاً: جئتك في أمر ديني تُعوّضني عنه بأمر دنيوي؟ فقال: متى نزلوا عليك ارسلتُ لك عسكراً. فأجاب الكامل: هذا لا ينفعني حينئذ، إذ لا وصول له إلي، لقد مثل الكامل إرادة الجهاد والمقاومة مهما كلف الثمن، واختار الشهادة بعزة إن لم يكن النصر،أما الملك الناصر، فقد عبّر عن جبنه وتخاذله وحيرته وتردده وانعدام قدرته على اتخاذ قرار ناجح في لحظة تحتاج إلى قرار، وبقي الكامل في دمشق حتى سمع سقوط بغداد، فرجع إلى بلاده عن طريق حلب، حيث التقى به ابن شداد وقال له: أصبت في قصدك الملك الناصر، وما أصبت في رجوعك، هلا قصدت مصر؟ فيرد الكامل: لقد خفت على قلب الملك الناصر، فيشير عليه ابن شداد أن يخرج حريمه من ميّافارقين، ويستخلف نوّاباً، ويعود للملك الناصر، لعل تنهض عزيمته. ويتضح لنا من هذا الحديث بين الكامل وابن شداد أن فكرة قصد مصر كأمل أخير للوقوف في وجه التتار قد خطرت على بال الكامل، لكنّه لم ينفذها حتى لا يغضب الناصر في وقت هو بأمس الحاجة إليه، كما نتبين أن ابن شداد كان مطلعاً على الوضع العام، فقد عرف أن وضع الجزيرة ميؤوس منه فنصح الكامل بإخراج حريمه من ميّافارقين، وعرف أن الناصر متخاذل خائف يحتاج لاستنهاض عزيمته.
5 ـ سقوط ميّافارقين واستشهاد الكامل:بعد أن تمّ للمغول الاستيلاء على اربل، أمر هولاكو الأمراء يشموت وايلكا نويان وسونتاي بالتوجه إلى مدينة ميّفارقين،ولما بلغوا حدودها أرسلوا رسولاً من قبلهم إلى الملك الكامل الايوبي صاحبها يدعونه إلى الخضوع، والطاعة لهم ويتوعدونه بالهلاك والدمار في حالة عصيانه لهم، إلا أن الملك الكامل قابل ذلك التهديد بالرفض الشديد، وذلك لما كان يعرفه عن المغول من الخيانة ونكث العهود حيث رد عليهم قائلاً:إنني لن أنخدع بكلامهم المعسول، ولن أخشى جيش المغول وسأضرب بالسيف ما دمت حيا، ونتيجة لهذا الرد الحاسم من الملك الكامل، إتفق الأمراء المغول على مهاجمة ميافارقين، وإنتزاعها بالقوة من يد حكامها وفي الوقت نفسه أخذ الملك الكامل يعد نفسه وقواته لمواجهة ذلك الخطر، حيث عمد إلى تطييـب خواطر سكان مدينته ورفع روحهم المعنوية، بإعطائهم وعداً ببذل كل ما يملك من الذهب والفضة والغلال الموجودة بالمخازن في سبيل الدفاع عن مدينتهم، فاتحد معه سكان المدينة جميعاً وأعلنوا له أنهم رهن إشارته، وعلى إستعداد للجهاد ضد العدوان المغولي الذي بات يهدد مدينتهم بالخراب والدمار، واستطاع مسلمو ميافارقين أن يصمدوا واستبسلوا في القتال، وصمدت المدينة الباسلة، وظهرت فيها مقاومة ضارية، وقام الأمير الكامل محمد في شجاعة نادرة يشجع شعبه على الثبات والجهاد، وكان من المفروض في هذا الحصار البشع الذي ضرب على ميافارقين أن يأتيها المدد من الإمارات الإسلامية الملاصقة لها، ولكن هذا لم يحدث لم تتسرب إليها أي أسلحة ولا أطعمه ولا أدوية، لقد احترم الأمراء المسلمون النظام الدولي الجديد الذي فرضته القوة الأولى في العالم ـ التتار ـ على إخوانهم وأخواتهم وأبناهم وبناتهم وآبائهم وأمهاتهم المسلمين والواقع أنني أتعجب من رد فعل الشعوب، أين كانت الشعوب؟
ـ لم يكن الشعوب تملك حريتها وقرارها بل كانت خاضعة لإرادة حكامها.
ـ كانت هناك عمليات ((غسيل مخ)) مستمرة لكل شعوب المنطقة فلا شك أن الحكام ووزراءهم وعلماءهم كانوا يقنعون الناس بحسن سياستهم وبحكمة إدارتهم.
ـ من لم يقنعه العلماء والخطب والحجج فإقناعه يكون بالسيف، لقد تعودت الشعوب على القهر والبطش والظلم من الولاة.
أقبل المغول على فرض حصار شديد على مدينة ميافارقين، اشتركت فيه فرق أرمينية ومسيحية شرقية وقابله المسلمون داخل المدينة بصمود هائل عجز أمامه المغول على اقتحامها مدة طويلة، وكان في جيش الملك الكامل فارسان بارعان أذهلا قادة المغول ودوخاهم وأوقعاهم في الدهشة والحيرة، إذ كان لبسالتهما وأحكامهما الرماية سبباً في إنزال أفدح الخسائر في الجيش المغولي، حتى اضطر هولاكو الذي أدرك عجز قواته عن اقتحام المدينة إلى إرسال مدد جديد بقيادة الأمير أرقتو، وانضم هذا القائد الجديد بجموعه إلى الجهة التي فيها جيش الأمير المغولي إيلكيا نويان، ونظراً لطول الحصار الذي فرضه المغول على المدينة، نفذت الأرزاق من داخلها وعم القحط وانتشر الوباء وتهدمت الأسوار من شدة ضرب المنجنيقات، حتى هلك أكثر سكان المدينة، فقد وقعت المجاعة فيها بسبب الحصار الطويل وفي عام 658هـ 1260م سقط آخر معقل للمقاومة في الجزيرة ودخل التَّتار ميَّافارقين"فوجدوا جميع سُكَّنها موتى، ما عدا سبعين شخصاً نصف أحياء، وقبضوا على الكامل الأيوبي؛ فعنَّفه هولاكو وأمر بتقطيعه، وأخذوا يقطعون لحمه قطعاً صغيرة ويدفعون بها إلى فمه حتى مات، ثم قطعوا رأسه وحملوه على رمح وطافوا به في البلاد وذلك في سنة 657هـ/1259م، حتى وصل دمشق، فعلَّقوه على باب الفراديس، حتى أنزله الأهالي ودفنوه وقتل المغول كل من وجدوه في ميَّافارقين وهدموها، وهذا يدل على شدة حنق المغول من الملك الكامل، ومن مقاومته لهم وربما كان أيسر ما كلفتهم إياه هو الخسائر البشرية والمادية فهي ـ بلا شك ـ ساهمت في تحطيم سُمعتهم الحربية المرعبة لأن مقاومة الكامل أصبحت رمزاً لإرادة المقاومة ضد التَّتار، وأصبح الكامل بموته قدوة ومثالاً للتضحية والشهادة. وكذلك مدينة ميافارقين التي تقع الآن في شرق تركيا إلى الغرب من بحيرة"وان" فقد كانت جيوش الكامل الأيوبي تسيطر على شرق تركيا، بالإضافة إلى منطقة الجزيرة، وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات من جهة الشمال، أي أنه يسيطر على الشمال الغربي من العراق وعلى الشمال الشرقي من سوريا.
6 ـ ماردين: بعد أن تمكن هولاكو من انهاء الأمر في ميافارقين أشار على امرائه بالزحف على مدينة ماردين، التي كانت تتمتع الأخرى بحصانة كبيرة، إذ تعجب المغول من ارتفاع قلعتها واستحكاماتها لذلك عمد هؤلاء القادة إلى اتباع نهجهم التقليدي بارسال الرسل إلى صاحبها الملك السعيد، بالتهديد والوعيد إلا أن الملك السعيد نجم الدين ايلغازي الارتقي، أبى الانصياع إلى أوامرهم ورد عليهم قائلاً: كنت قد عزمت على الطاعة والحضور إلى الملك، ولكن حيث أنكم قد عاهدتم الآخرين، ثم قتلتموهم بعد أن اطمئنوا إلى عهدكم وامانكم، فإني الآن لا اثق بكم، وأن القلعة بحمد الله تعالى مشحونة بالذخائر والاسلحة ومليئة برجال الترك وشجعان الكردوضرب الحصار الشديد على ماردين وعلى كل فإن هولاكو استطاع خلال تلك الفترة أن يستولي على آمد وحران والرها وسروج وعدد كبير من مدن وحصون اقليم الجزيرة، ومن ثم قرر هولاكو إرجاء أمر ماردين ريثما يصفى حسابه مع الشام، فعبر الفرات على رأس قواته قاصداً حلب فاستولى عليها في المحرم من عام 658هـ /1259م وعاد الحصار من جديد واثناء الحصار توفي الملك السعيد بسبب وباء انتشر بين سكان القلعة فهلك أكثرهم فتولى الحكم ابنه الملك المظفر، وتمت مفاوضات بين الملك المظفر والمغول وتم الصلح مع المغول وكان هولاكو قد أرسل بكوهداي أحد كبار أمراء المغول إلى ماردين وأعلن كوهداي إسلامه على يد الملك المظفر وزوجه الأخير أخته وأعقب ذلك مسير الملك المظفر بنفسه إلى هولاكو في رمضان من السنة نفسها يحمل الهدايا إليه، فاجتمع به هولاكو وأكرمه، ثم قال له: بلغني أن أولاد صاحب الموصل هربوا إلى مصر، وأنا أعلم أن أصحابهم كانوا سبب ذلك،فاترك أصحابك الذين رافقوك عندي، فإني لا آمن أن يحرفوك عني، ويرغبوك في النزوح عن بلادك إلى مصر، وإذا ما دخلت البلاد فاصطحبهم معي، فأجابه الملك المظفر إلى ذلك ثم قفل عائداً إلى بلاده وفي الطريق ارسل هولاكو في طلبه يأمره بالعودة إليه ثانية فعاد إليه يرتجف خوفاً، فلما اجتمع به قال له هولاكو: إن اصحابك أخبروني أن لك باطناً مع صاحب مصر، وقد رأيت أن يكون عندك من جهتي من يمنعك من التسلل إليهم، ثم عيّن لذلك أمير يدعى ((أحمد بغا)) وأعادهما إلى ماردين، بعد أن أضاف إلى الملك المظفر نصيبين والخابور، ومنطقة لا يستهان بها من ديار بكر ضمت إلى آمد وميافارقين، كما ألحق بإمارته بعض المدن التي سيطر عليها المغول في الجزيرة كقرقيسيا حيث ابقى المغول قوة لحفظ المعابر، وفي الوقت نفسه أمر هولاكو الملك المظفر بهدم أبراج قلعة ماردين وما أن غادر الملك المظفر معسكر هولاكو حتى أقدم الأخير على ضرب رقاب اصحاب الملك السعيد، وكان عددهم سبعين رجلاً من كبار أمراء ماردين، ولم يكن لاي من هؤلاء ذنب يذكر، ولكن قصد بقتلهم أن يقص جناح الملك المظفر. وغدت مدينة ماردين ولاية مغولية، ينفذ حكامها ما يأمرهم به قادة المغول، ويلتزمون بالخطوط العامة لسياستهم الخارجية وتحركاتهم العسكرية، ويقدمون لهم المال والإمدادات العسكرية ويضربون السكة باسمهم ويخطبون لهم وحقق المغول بإدخالهم إمارة ماردين وغيرها تحت سيطرتهم هدفهم المنشود وهو السيطرة على منطقة ديار بكر واتخاذها مركزاً لتنظيم الهجمات على الجهات الغربية من العالم الإسلامي.
ثانياً: السلطان الناصر بين المقاومة والاستسلام:أقدم الملك الناصر يوسف الايوبي صاحب حلب ودمشق الذي يعد أعلى الأمراء الايوبيين شأناً في بلاد الشام على اعلان الخضوع لهولاكو بعد سقوط بغداد مباشرة، فقد استجاب لأمر هولاكو، فأنفد إليه ابنه الملك العزيز يحمل الهدايا والتحف معه عدد من الأمراء فلما وصل العزيز إلى معسكر هولاكو وسلمه ما معه من الهدايا والتحف التي تعبر عن الولاء والتبعية لهولاكو، طلب منه العزيز على لسان والده أن يرسل إليهم نجدة لمساعدتهم في استعادة الاراضي المصرية، من أيدي المماليك.
1 ـ رد هولاكو على الملك الناصر: رأى هولاكو أن عدم إستجابة الملك الناصر يوسف لأوامره، بالخروج إليه بنفسه، يعد تمرداً على أوامره، وأن الوفد الذي أرسله الملك الناصر إليه لا يناسب مقامه، ولم يكتف بعدم الاستجابة لطلبه هذا، بل أصر هذه المرة على خروج الملك الناصر إليه بنفسه لتقديم الولاء والطاعة ومعه قوة قوامها عشرون ألف فارس، حيث أعاد هولاكو الملك العزيز إلى أبيه ومعه رسالة ذكَّر فيها من صنوف العذاب والدمار والهلاك وجاء فيها:
الذي يعلم به الملك الناصر صاحب حلب، أنا قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى، وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنيانها وأسرنا سكانها، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز "قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون"، واستحضرنا خليفتها وسألناه عن كلمات فكذب، فواقعه الندم واستوجب منا العدم وكان قد جمع ذخائر نفيسة، وكانت نفسه خسيسة، فجمع المال، ولم يعبأ بالرجال، وكان قد نما ذكره وعظم قدره ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال:
        إذا تمَّ أمر دنا نقصه
                        تَوَقَّ زوالاً إذا قيل تَم
        إذا كنت في نعمة فارعها
                        فإن المعاصي تُزيل النِّعم
        وكم من فتى بات في نعمة
                        فلم يدر بالموت حتى هَجَم

إذا وقعت على كتابي هذا فسارع برجالك وأموالك، وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض (شاهنشاه روي زمين) أي ملك الملوك على وجه الأرض، تأمن شره، وتنل خيره، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى"، ولا تعوق رسلنا عندك كما عوقت رسلنا من قبل، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم إنهزموا بحريمهم إلى كروان سراي، فإن كانوا في الجبال نسفناها وإن كانوا في الأرض خسفناها.
            أين النجاة ولا مناص لهاربٍ
                            ولى البسيطان الثرى والماء
            ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت
                            في قبضتي الأمرا والوزراء

هذا طرف من الحرب النفسية التي كانت التتار يشنونها ضد أعداهم.
2 ـ إستنجاد الناصر بالمماليك: رفض الملك الناصر دعوة هولاكو وأرسل إليه رداً مليئاً بالسباب وقلب سياسته تجاه المغول رأساً على عقب، حيث أقدم عندما بلغه عبور القوات المغولية نهر الفرات على إرسال رسول من قبله هو الصاحب كمال الدين بن العديم إلى المماليك في مصر يستنجد بهم ضد جيوش هولاكو التي بات هجومها وشيكاً على بلاد الشام، وأمام هذا التصرف الجريء للملك الناصر يوسف، أدرك هولاكو ـ على ما يبدو ـ فشل سياسة التشدد التي إتبعها مع الملك الناصر، والتي أدت به إلى الارتماء في أحضان المماليك في مصر، وبدأ هولاكو يفكر في تلافي ذلك الخطأ حيث سارع بإرسال نجدة سريعة إلى الملك الناصر في دمشق، ولكن هذه النجدة لم تؤت ثمارها بالنسبة لهولاكو، بل زادت فكرة التصالح بين المماليك والأيوبيين، إذ يذكر المقريزي أن السلطان المملوكي المظفر قطز عندما علم بوصول تلك النجدة المغولية إلى الملك الناصر بدمشق، بعث إليه كتاباً أقسم له فيه بالإيمان أنه لا ينازعه في الملك ولا يقاومه وأنه نائب عنه بديار مصر، وختم كتابه هذا بقوله:
وإن إخترتني خدمتك، وإن إخترت قدمت ومن معي من العسكر نجدة لك على القادم عليك، فإن كنت لا تأمن حضوري سيرت إليك العساكر صحبة من تختار.
3 ـ سقوط حلب: كانت مدينة حلب أول مدينة شامية واجهت العاصفة المغولية، فقد أصدر هولاكو أوامره لقواته بعبور نهر الفرات، ومهاجمة بلاد الشام، ووصل الخبر بذلك إلى حلب وكان يحكمها الملك المعظم تورانشاه نائباً عن الملك الناصر، فجحفل الناس خوفاً من المغول إلى دمشق، وعظم الخطب على من بداخلها، وقبل وصول القوات المغولية إلى حلب، أرسل هولاكو كعادته إنذاراً إلى صاحبها، إلا أن الملك المعظم الأيوبي رد علي بقوله:
ليس لكم عندنا إلا السيف، ثم احترز على حلب حتى صارت في غاية الحصانة والمنعة، بأسوارها المحكمة البناء وقلعتها المنيعة، وبما نصبه عليها من آلات دفاعية. وفي العشرة الأخيرة من ذي الحجة سنة 657هـ نوفمبر 1259م، قصد المغول مدينة حلب ونزلوا على قرية يقال لها سلمية وامتدوا إلى قريتي حيلان والحاري وهما قري حلب، ثم سيروا فرقة من عسكرهم بإتجاه حلب، فخرج عسكر المسلمين ومعهم جمع غفير من العوام والسوقة، وأشرفوا على المغول وهم نازلون على تلك الأماكن، وقد ركبوا جميعهم لإنتظار عسكر حلب، فلما تحقق المسلمون كثرتهم كروا راجعين إلى المدينة وأصبح الملك المعظم تورانشاه بعد ذلك أوامره إلى قواته بالتحصن داخل حلب، وعدم الخروج منها، وفي اليوم التالي تحركت القوات المغولية طالبة حلب، ولما وصلت جموع المغول إلى أسفل الجبل نزلت إليهم فرقة من جيش المسلمين لمقاتلتهم، فلما شاهد المغول ذلك تراجعوا أمام الجيش الإسلامي مكراً وخديعة لاجتذابهم بعيداً عن البلد، فتبعهم عسكر حلب ساعة من النهار، ثم كر الجيش المغولي وخرج من مكامنه فاندفع المسلمون أمامه إلى جهة البلد، والعدو في أثرهم، ولما حازوا جبل بانقوسا وعليه بقية الجيش الإسلامي إندفعوا جميعاً نحو المدينة والعدو مستمر في مطاردتهم، فقتل من المسلمين جمع كثير من الجند والعوام، ونازل المغول حلب ذلك اليوم إلى آخره، ثم رحلوا عنها إلى أعزاز فتسلموها بالأمان.
أ ـ الإضطرار إلى التسليم: عاود المغول هجومهم على حلب في ثاني صفر من 658هـ/يناير 1260م وأحكموا حصارها بحفر خندق حولها عمقه قامة، وعرضه أربعة أذرع، وبنوا حائطاً بإرتفاع خمس أذرع، ثم نصبوا عليها عشرين منجنيقاً وشرعوا في رميها بالحجارة ونقب أسوارها ومهاجمتها من كل الجهات، حتى اضطرـ إلى التسليم في التاسع صفر من 658هـ/يناير 1260م، ولم ملكوها غدروا بأهلها وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ونهبوا الدور وسبوا النساء والأطفال، ثم إستباحوا المدينة خمسة أيام عاثوا فيها فساداً حتى إمتلأت الطرقات بجثث القتلى، ويقال إنه أسر من حلب زيادة على مائة ألف من النساء والصبيان، ولم يسلم من أهل حلب إلا من إلتجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون، ودار نجم الدين أخي مردكين، ودار البازياد، ودار علم الدين قيصر الموصلي، والخانقاه التي لزين الدين الصوفي وكنيسة اليهود بفرمانات كانت بأيديهم وقيل أنه سلم بهذه الأماكن من القتل ما يزيد عن خمسين ألف نفس
ب ـ هدم أسوار المدينة وقلعتها ومساجدها: لجأ الملك المعظم تورانشاه إلى القلعة ومع جمع كثير من حلب، واستمر الحصار على القلعة وشدد المغول مضايقتهم لها نحو شهر، ويبدو خيانة حدثت في جيش الملك المعظم سهلت للمغول مهمتهم في تشديد حصارهم للقلعة ومعرفة مواطن الضعف فيها، ومن ثم تثبيط همم المقاتلين داخلها، الأمر الذي ترتب عليه تسليم القلعة إلى المغول رغم حصانتها بكل سهولة، ودخل هولاكو بعد ذلك إلى القلعة وخربها، وهدم أسوار المدينة وجوامعها ومساجدها وبساتينها وعفى آثارها، حتى غدت بلدة موحشة، بعد أن كانت تعد من أزهى مدن الشام، وخرج إليهم الملك المعظم تورانشاه، ويذكر المقريزي أن هولاكو لم يتعرضه بسوء لكبر سنه، ولا يستبعد أن يكون الملك المعظم قد أصيب خلال حصار المغول للمدينة والقلعة بجراح بالغة أو بمرض لم يعد يرجى برءه، أو أن هولاكو قد دبر قتله سراً، بدليل ما ذكره المقريزي نفسه من أن الملك المعظم توفي بعد ذلك بأيام قلائل.
جـ ـ غنائم لحلفاء هولاكو من النصارى: لم يشأ هولاكو أن تمر فرصة إستيلائه على حلب دون أن يكافئ حليفه، هيثوم الأول ملك أرمينية الصغرى، وبوهيمند السادس الصليبي أمير أنطاكيا الذين ساعداه في ذلك العمل، حيث قام بإعطاء ملك الأرمن جزءاً من الأنفال، وأعاد إليه الأقاليم والقصور التي كان مسلمو حلب قد استولوا عليها منهم، كما رد إلى بوهيمند جميع الأراضي التي كان المسلمون قد اقتطعوها من إمارته، وعبر هيثوم عن إبتهاجه بذلك بإحراق الجامع الكبير في حلب بنفسه إنتقاماً من المسلمين. وهكذا سقطت مدينة حلب في يد المغول، وحقق هولاكو بذلك ما لم يستطع تحقيقه الأمراء الصليبيون والأباطرة البيزنطيون وحطم حصناً عظيماً من حصون الإسلام، وغدت هذه المدينة، التي كانت تعتبر بحق من أروع وأزهى مدن الشام خربة يائسة، وعين عليها هولاكو حاكماً من قبله، وقد أثار سقوط هذه المدينة التي كانت موطن حركة الجهاد ضد الصليبيين، الفزع والوجل في نفوس المسلمين ببلاد الشام، فوصل إلى هولاكو بحلب كثير من أمراء المسلمين، ليعلنوا ولائهم وخضوعهم، ومنهم الملك الأشرف موسى الأيوبي، صاحب حمص، الذي سبق أن إنتزع منه الناصر إمارته، فأعادها إليه هولاكو، على أن تكون إقطاعاً وراثياً له من قبل هولاكو، ولما رفض رجال حامية مدينة حارم الاستسلام إلا لقائد حامية حلب، إعتبر هولاكو ذلك إهانة له وإنتقاصاً من مكانته، فأمر بقتل أهل حارم عن آخرهم وسبي نسائهم وأطفالهم ثم ألحق بهم رجال الحامية جميعاً.
4 ـ دمشق: بعد سقوط حلب أرسل هولاكو رسلاً من قبله إلى دمشق دخلوها ليلة الإثنين السابع عشر من صفر سنة 658هـ/ فبراير 1260م وهم يحملون فرماناً منه تأمين المدينة وأهلها مقابل تسليمها، وقرئ هذا المرسوم على الناس بدمشق بعد صلاة الظهر.
أ ـ موقف بيبرس البندقداري: وفي هذا الموقف الحرج أشار بعض كبار أهل دمشق وعلى راسهم الأمير زين الدين الحافظي، بمداراة المغول والدخول في طاعة هولاكو، لتجنيب دمشق وأهلها ما حل بحلب من الهلاك والدمار والخراب، ولكن ذلك الرأي لم يجد التأييد الكامل من أهل دمشق، حيث رفضه البعضوعلى رأسهم ركن الدين بيبرس، وصاح في وجه زين الدين قائلاً: أنتم سبب هلاك المسلمين، ويبدو أن الملك الناصر كان على رأي زين الدين الحافظي، فحاول بعض أتباع بيبرس من طائفة المماليك البحرية، قتل الملك الناصر، وتولية حاكم آخر عالي الهمة، نافذ الرأي، يستطيع جمع الناس للجهاد في سبيل الله وقيادتهم في ميدان القتال لصد العدوان المغولي والدفاع عن الإسلام وأهله، إلا أن بيبرس تخلى عن دمشق وذهب مع جماعة من المماليك البحرية إلى غزة، حيث استقبله أميرها أحسن إستقبال، وفيها سير بيبرس رسولاً من قبله إلى السلطان المظفر قطز ليحلفه على إعطاه الأمان ونجح في المصالح مع قطز الذي وعده الوعود الجميلة، ثم سافر إلى بيبرس إلى مصر وانضم إلى قيادة قطز وأصبح من أكبر أعوانه الذين ساهموا للتخطيط لمعركة عين جالوت وقيادة الجيوش الإسلامية وتحيق ذلك النصر المؤزر الذي بدد أحلام المغول بكاملها.
ب ـ تسليم دمشق: خرج الملك الناصر من دمشق ومعه جمع من أتباعه يريد غزة وترك دمشق في حالة يرثى لها، وقصد جمع من أكابر دمشق وأعيانها حضرة هولاكو ومعهم التحف والهدايا ومفاتيح بوابات دمشق، وأظهروا الطاعة والخضوع له، وسلموا المدينة، وأمر هولاكو قاده كيتوبوقا إلى دمشق لإختبار أهلها، فاستقبله أهل المدينة وطلبوا منه الأمان، ثم أرسل أعيانهم إلى بلاط هولاكو وهكذا دخل المغول دمشق بلا حصار ولا قتال وولى عليها هولاكو جماعة من المغول وعين ثلاثة من أهلها لمساعدتهم في تصريف الأمور بها، وأما قلعة دمشق فقد استعصت على المغول، ورفض من بداخلها التسليم لهم، وفي هذا الوقت وصل إلى دمشق الملك الأشرف صاحب حمص من عند هولاكو ومعه مرسوم بأن نائب السلطة لدمشق والشام كلها، وتم حصار القلعة وضربها بالمنجنيقات وخرب من القلعة مواضع وطلب من بداخلها الأمان، ودخلها المغول ونهبوا ما كان فيها من الكنوز والدفائن وأحرقوا مواضع كثيرة منها، وهدموا عدداً كبيراً من أبراجها، وأتلفوا سائر ما بها من الآلات والعدد.
ت ـ تسليم حماه: أما مدينة حماه فإن صاحبها الملك المنصور الثاني كان قد حضر إلى برزة ليتجهز مع الملك الناصر، فلما سمع أهل البلد في غيبته بأخذ حلب أرسلوا رسولاً من قبلهم إلى هولاكو، يسألونه العطف، وسلموا له البلد، فأعطاهم الأمان، وجعل عندهم شحنة من قبله، أما قلعة حماه فيبدو أن ما حل بحلب وأهلها وقلعتها من الأهوال فضلاً عن هروب الملك المنصور صاحبها قد دفع متوليها إلى المسارعة بالتسليم للمغول. وبعد أن تم للمغول السيطرة على حلب ودمشق وحماه، وغيرها من البلدان المجاورة، أصبح إستيلاءهم على بقية مدن الشام مسألة وقت، كان على القائد المغولي أن يختاره متى شاء، وذلك بسبب ما حل ببلاد الشام من الأهوال والفزع والخوف، فضلاً عن تفرق كلمة الأمراء الأيوبيين، ففي الأسابيع القليلة التالية، أتم القائد المغولي كيتوبوقا الذي أوكل إليه هولاكو مهمة إتمام الإستيلاء على بلاد الشام بعد عودته من حلب إلى مدينة مراغة للمشاركة في إنتخاب الخان الجديد، السيطرة على بلاد الشام حيث توجه إلى نابلس، وحينما حاول أهلها المقاومة جرى قتل عدد كبير منهم، ثم أغارت جموع المغول على سائر بلاد الشام، حتى وصلت إلى أطراف غزة، وبيت جبريل، والصلت، وبعلبك وبانياس وغيرها، واستولوا عليها وقتلوا وسبوا ما قدروا عليه، ثم عادوا إلى دمشق، فباعوا بها ما غنموه من هذه المدن.
جـ ـ موقف النصارى في الشام: جاءت سيطرت المغول شديدة الوطأة على المسلمين في بلاد الشام، إذ أنهم بادروا قبل كل شيء إلى تدمير الاستحكامات والأسوار والقلاع في البلاد التي خضعت لهم مثل حلب ودمشق وحمص وحماه وبعلبك وبانياس وغيرها، وحققوا بذلك ما لم يستطع تحقيقه الصليبيون من قبل، ولقد مال المغول منذ اللحظة الأولى لغزوهم للشرق الأدنى إلى العنصر المسيحي النسطوري، ولعل وصية منكو خان لأخيه هولاكو التي نصت على إستشارة هولاكو لزوجته دوقوز خاتون التي كانت مسيحية نسطورية خير دليل على ذلك، وقد أدى وجودها في ركاب زوجها هولاكو إلى التفاف المسيحيين الشرقيين حول المغول، إذ المعروف أن النساطرة إزداد عددهم في الجيش المغولي ووصلوا إلى حد قيادة الجيوش المغولية، فكيتوبوقا كان من عنصر النايمان النساطرة، وكان من الطبيعي أن يتآخى هؤلاء النساطرة مع الجماعات الأرمينية واليعاقبة وغيرهم التي تكاثر عددها في كبرى مدن الشام، وقد أدى هذا التلاحم إلى مشاركة العنصر المسيحي على مستوى قيادة الجيوش في إقتحام مدن الشام، وهولاكو عندما اقتحمت جيوشه مدينة حلب كان بصحبته ملك أرمينية هيثوم الأول وصهره بوهيمند السادس أمير أنطاكيا، كما شهدت عاصمة الخلافة الأموية دمشق لأول مرة منذ ستة قرون ثلاث أمراء مسيحيين هم: كيتوبوقا وهيثوم وبوهيمند يشقون بمواكبهم شوارعها، ويصح أن نؤكد أن غزو المغول لبلاد المسلمين في الشام إتخذ طابعاً صليبياً، وقد ذكر أن هولاكو عندما غزا بلاد الجزيرة قدم عليه جاشليق الأرمني ومنحه البركات، ولما كان هيثوم الأول ملك أرمينية الصغرى في إتصاله مع المغول يتحدث بإسمهم وإسم صهره بوهيمند السادس أمير أنطاكيا الصليبي فإن هذه الحملة قد إتخذت صفة حملة صليبية أرمينية ـ مغولية، والواقع أن سقوط المدن الثلاث الكبرى، بغداد وحلب ودمشق في أيدي المغول يعتبر من الكوارث الفاجعة التي هزت العالم الإسلامي في ذلك الوقت، وترتب على سقوط دمشق في أيدي المغول أن أعلن المسيحيون بها التمرد والشموخ، ولم يخفوا فرحتهم بما حل بالمسلمين من نكبة، ولم يخف القائد المغولي كيتوبوقا نفسه ما يكنه من الميل نحو هؤلاء المسيحيين وتردده إلى كنائسهم، وذهب بعضهم إلى هولاكو وأحضروا من عنده ((فرماناً)) ينص على الاعتناء بأمرهم ودخلوا به البلد وصلبانهم مرتفعة وهم ينادون حولها بإرتفاع دينهم وانتضاع دين الإسلام، ورشوا الخمر على ثياب المسلمين وأبواب المساجد وألزموا المسلمين في حوانيتهم بالقيام للصليب، ومن لم يفعل ذلك أهانوه وأقاموه غصباً، وطافوا وهم يحملون الصلبان ويدقون النواقيس في الشوارع إلى كنيسة مريم، وقام بعضهم أثناء المسيرة بإلقاء الخطب فبجل دين المسيح وانتقص دين الإسلام، وضجر المسلمون من ذلك وصعدوا مع قضاتهم وشهودهم إلى نائب هولاكو بالقلعة، فلم يستجب لشكواهم وأخرجهم من القلعة بالضرب والإهانة، وأخذت نائب هولاكو موجة من الإهتمام بالنصارى ـ فجعل يزور الكنائس ويعظم رجالها على اختلاف مذاهبهم، فاشتدت ثائرة المسلمين، للانتقام لمقدساتهم، فقاموا باحراق كنيسة مريم، وخربوا جزءاً من كنيسة اليعاقبة.
ويمكن القول أن هذا التلاحم بين القوى المغولية والقوى المسيحية الشرقية، الذي أثمر استيلائهم على بلاد الشام، وتحطيم استحكاماتها، ومن ثم التطاول على المسلمين بها والاعتداء على مقدساتهم، كان أحد العوامل التي دفعت المسلمين في الأراضي المصرية إلى تدارك الأمر واستنفار كامل قواهم، ومن ثم إعلان حركة الجهاد الإسلامي المقدس ضد المغول وحلفائهم حتى تحقق لهم ذلك النصر العظيم في معركة عين جالوت.
5 ـ نهاية السلطان الناصر الأيوبي:أصبح الملك الناصر مسلوب الإرادة مرعوباً، ليس له رأي، وعندما شاهد جنده ومماليكه هذه الحال، قرروا تنحيته باغتياله أو القبض عليه، وسلطنة أخيه الملك الظاهر غازي بن العزيز لشهامته، وعلم الناصر بالأمر، فترك المعسكر هارباً بالليل إلى قلعة دمشق، فأسقط بيد مماليكه الناصرية، وأعوانهم، فهربوا ومعهم الظاهر غازي إلى غزة، وكان تسارع الأحداث في الشام أكبر من أن يترك صدى أو ذيولاً لهذه المحاولة الفاشلة، فالتتار لا يهدؤون وقد انضم إليهم ـ علناً ـ الأشرف بن المجاهد، فأعادوا له حمص وأعمالها وكذلك الملك السعيد بن عبد العزيز، حيث أطلقه هولاكو من سجن البيرة، وأعاد له ولايته على بانياس، وقلعتها التي تعرف بالصبيبة، فقرر الملك الناصر الانسحاب جنوباً نحو مصر، وقد تضلَّلت العسكر، وتصرمة، وقلت الحرمة، وطمع كل أحد، ولم يبق عند الناصر إلا قوم قلائل، وسار الملك الناصر عن دمشق على أمل جمع الكلمة مع المظفر قطز للقاء التتار، وأخذ ما بقي معه من الجيش، وترك دمشق خالية من العسكر، وأهلها على الاسوار يشتمونهم ويدعون عليهم ويقولون: تركتمونا طعمة للتتار، لا كتب الله عليكم السلامة، وعبر الزين الحافظي إلى دمشق وأغلق أبوابها وسيّر الناصر طلبه، ليجتمع به، فامتنع عن الخروج إليه وجمع أكابر دمشق، واتفق معهم على تسليم دمشق لنواب هولاكو، وسار الناصر ومعه المنصور محمد صاحب حماه، فوصل نابلس، حيث ترك بها حامية، ولما وصل غزة، انضم إليه مماليكه الفارون وتصالح مع أخيه غازي، وعلم الناصر في غزة أن التتار قد احتلوا نابلسن فقصد العريش، وأرسل يخبر قطز ويسأله الاجتماع لمواجهة التتار، ويبدو ان جواباً شافياً مطمئناً لم يصل من قطز إلى الناصر(( فاستراب الناصر باهل مصر))، وكان قد بلغ قطية(( فخاف الناصر دخول مصر فيُقبض عليه))، فسمح الناصر لمن يريد من مرافقيه دخول مصر، فحزم المنصور محمد أمره ودخل المنصور والعسكر مصر، فالتقاهم قطز، واحسن للمنصور، وأعطاه سنجقاً ودخلوا القاهرة، وأما الملك الناصر، فقد أعمته الحيرة فيما يفعل؟ واين يتوجه؟وأخذ يفكر بالتوجه نحو الحجاز، ثم عدل إلى ناحية الكرك، فتحصن به، ولكنه قلق، فركب نحو البرية، واستجار ببعض أمراء الأعراب.وربما بسبب الطمع، أو نيل الخطوة لدى التتار، قام واحد من مرافقيه وخدمه هو حسين الطبردار الكردي، بالتوجه إلى إحدى سرايا التتار التي أخذت تنتشر جنوب الأردن وفلسطين وأعلمهم بمكان وجود الملك الناصر ((فقصدته التتار وأتلفوا ما هنالك من الأموال، وخرّبوا الديار، وقتلوا الكبار والصغار، وهجموا على الأعراب التي بتلك النواحي وقتلوا منهم خلقاً وسبوا نسلهم ونساءهم وقبضوا على الملك الناصر وأرسلوه مع أخيه الظاهر غازي بن محمد وابنه العزيز محمد بن يوسف وإسماعيل بن شيركوه إلى كتبغا نوين الذي سيّره بدوره إلى هولاكو وأقام الناصر عند هولاكو حتى بلغهم أخبار هزيمة التتار في عين جالوت، فقام هولاكو بقتل الناصر ثم قتلوا بقية من كان معه ولم ينج من نقمة هولاكو إلا العزيز محمد بن الناصريوسف لصغر سنه حيث بقي عند التتار حتى مات.
المبحث الثاني: مقدمات معركة عين جالوت وسير أحداثها:
 كان من نتائج سقوط بلاد الشام في ايدي المغول وحلفائهم ان عم الرعب والخوف سائر أرجائها، فهرب الناس باتجاه الاراضي المصرية، وقد انغرس داخل نفوسهم نتيجة ما شاهدوه من الاهوال وبسبب ما حل بهم وببلادهم من الدمار والخراب والهلاك وأن الشيء الذي سينقذ المسلمين وممتلكاتهم من الزحف المغولي المدمر هو البحث عن قيادة حكيمة قوية تترجم نواياهم تلك بإنهاء خلافاتهم وتوحيد كلمتهم، وإعادة تنظيم جموعهم ومن ثم بعث روح الجهاد الإسلامي في نفوسهم لدرء ذلك العدوان الذي استشرى خطره وبات يهدد ما تبقى من العالم الإسلامي بالدمار والهلاك والواقع أن مصر في ذلك الوقت كان كل شيء فيها ينبيء بظهور قوة جديدة.
أولاً: احتلال مصر هدف استراتيجي للمغول:إن المتتبع لخط سير التتار سيدرك على وجه اليقين أن مصر هدفاً استراتيجياً للمغول وذلك لعدة اسباب منها:
1 ـ سياسة التتار التوسعية الواضحة وهم لا ينتهون من بلد إلا ويبحثون عن الذي يليه، ومصر هي التي تلي فلسطين مباشرة.
2 ـ لم يبق في العالم الإسلامي بأسره قوة تستطيع أن تهدد أمن التتار إلا مصر،فقد سقطت معظم الممالك والحصون والمدن الإسلامية تقريباً وبقيت هذه القلعة الصامدة.
3 ـ الموقع الاستراتيجي لمصر في غاية الاهمية، فهي في قلب العالم القديم، ومتحكم في خطوط التجارة العالمية.
4 ـ احتلال مصر بوابة لشمال افريقيا وفي ذلك الوقت كان المغرب الكبير، قد تمزق إلى دويلات صغيرة بعد سقوط دولة الموحدين، ولم تكن لها القدرة على الوقوف أمام الإمبراطورية المغولية.
5 ـ القوة البشرية في مصر، والطاقات الكامنة بها، واستيعابها لفلول المسلمين الهاربين من المغول كان مصدر قلق بالنسبة للمغول.
6 ـ مقومات حركة الجهاد الناجحة كانت متوفرة في مصر من قيادة واعية، وحمية دينية، وتجمع للعلماء والفقهاء الفارين من هول المغول، فكان المغول يخشون أن تتحول تلك المقومات إلى مشروع إسلامي لتحرير ديار المسلمين من الاحتلال المغولي.
6 ـ رغبة المغول في الهيمنة على العالم كله تستدعي منهم القضاء على دولة المماليك، ثم أن القرار باحتلال مصر أخذه امبراطور المغول في عاصمتهم بحضور كبار مستشاري الإمبراطورية المغولية.
ثانياً: خطوات سيف الدين قطز لتوحيد الصف الإسلامي:بات سيف الدين قطز يدرك ادراكاً تاماً أن بقاء دولته الفتية يتوقف على اجتياز ذلك الامتحان الصعب المتمثل في الغزوالمغولي للممالك الإسلاميةالذي استشرى خطره، وأن يثبت انه بحق أهل للثقةالتي أولاها إياه الأمراء في مصر ورجل الساعة بالفعل بعد اجماعهم على عزل الملك المنصور علي ابن المعز أيبك وتنصيبه على دولة المماليك، ولكي تتوحد الصفوف أمام الازمة اتخذ سيف الدين قطز الخطوات التالية:
الخطوة الأولى:جمع الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر وتناقشوا في أمر القيادة التي تتصدى للمغول وأجمع الحاضرون على أن الملك المنصور علي بن المعز أيبك الذي كان صغير السن ضعيف الشخصية لم يكن لديه من الطاقة والقدرة ما يستطيع به مواجهة الاخطار والتحديات التي باتت تهدد دولة المماليك في مصر، لذا قرروا عزل السلطان الصغير، وقال للحاضرين: إني ما قصدت(أي من السيطرة على الحكم) إلا نجتمع على قتال التتار، ولا يتأتى ذلك بغير ملك فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالامر لكم، اقيموا في السلطة من شئتم. فاستطاع قطز أن يجمع الناس على فكرة الجهاد والتصدي للغزاة وفوق ذلك أعلن بوضوح أنه سيجعل الأمر في الناس، يختارون من يشاءون دون التقيد بعائلة معينة أو مماليك بذاتهم، وسيرة الرجل تدل على أنه صادق فيما قال وأن الانتصار لهذا الدين ورغبته في قتال التتار إعلى بكثير من رغبته في الملك وقد جعل الله نصر الامة على يديه، وليس من سنة الله ـ عز وجل ـ أن يكتب نصر الامة على يد المنافقين، والفاسدين قال تعالى:"إن الله لا يصلح عمل المفسدين" ((يونس:آية:81)).ومع أن قطز ـ رحمه الله ـ قد استخدم الاخلاق الرفيعة، والاهداف النبيلة في تجميع القادة والعلماء حوله، إلا أنه لم يتخل عن حزمه في الادارة وعن أخذه بأسباب النصر واختيار الفريق المساعد له وابعاد من يراه مناسباًفعزل الوزير(( ابن بنت الاعز)) المعروف بولائه الشديد لشجرة الدر، وولىّ بدلاً منه وزيراً آخر يثق في ولائه وقدراته وهو((زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع)) وحفظ الامانة ووسد الأمور إلى أهلها، وأقر قائد الجيش في مكانه وهو ((فارس الدين أقطاي الصغير الصالح)) مع أنه من المماليك البحرية الصالحية، إلا أنه وجد فيه كفاءة عسكرية وقدرة قيادية وأمانة وصدق وهي مؤهلات ضرورية لأي إمارة، وهذا ذكاء سياسي من قطز فهو بذلك يستميل المماليك البحرية الذين فروا في أنحاء الشام وتركيا، ويبث الإطمئنان في نفوسهم، وهذا ـ ولا شك ـ سيؤدي إلى إستقرار الأوضاع في مصر، كما أنه سيجعل للمسلمين تستفيد من الخبرات العسكرية النادرة للماليك البحرية، كما قام قطز بالقبض على بعض رؤوس الفتنة الذين حاولوا أن يخرجوا علىسلطته وحكمه، وبذلك هدأت الأمور نسبياً في مصر، وعلم قطز أن الناس إن لم يشغلوا بالجهاد شغلوا بأنفسهم، ولذلك فبمجرد أن إعتلى على عرش مصر أمر وزيره زين الدين، وكذلك قائد الجيش فارس الدين أقطاي الصغير أن يجهزا الجيش، ويعدا العدة وينظما الصفوف، فانشغل الناس بالإعداد لمواجهة العدو، لقد ساهمت هذه الخطوة في تقوية الوضع الداخلي، وإنشغل الناس بالجهاد، وقام السلطان بإقامة الشرع والدفاع عن البلاد، والقيام بشئون الرعية وحماية مصالح الناس، فاستقرت الأحوال المحلية، وتوحد الصف الداخلي، وهذه خطوة في تحقيق النصر.
الخطوة الثانية: العفو الحقيقي: أصدر السلطان قطز قراراً بالعفو العام (الحقيقي) عن كل المماليك البحرية، لقد مر بنا كيف أنه قد حدثت فتنة بين المماليك البحرية وبين المماليك المعزية، وكانت بدايات الفتنة من ست سنوات (652هـ)، عندما قتل فارس الدين أقطاي زعيم المماليك البحرية، ثم بدأت الفتنة تتفاقم تدريجياً إلى أن وصلت إلى الذروة بعد مقتل الملك المعز عز الدين آيبك، ثم شجرة الدر، ووصل الأمر إلى أن معظم المماليك البحرية ـ وعلى رأسهم ركن الدين بيبرس ـ فروا من مصر إلى مختلف إمارات الشام، ومنهم من شجع أمرا الشام على غزو مصر، ووصل الأمر إلى حدٍ خطير، فلما إعتلى قطز عرش مصر أصدر قراره الحكيم بالعفو عن المماليك البحرية وبدعوتهم إلى العودة إلى دولتهم، وإستطاع قطز أن يقنع خصومه من أمراء المماليك البحرية الذين كانوا قد هربوا إلى بلاد الشام، وعلى رأسهم بيبرس البندقداري بالعودة إلى الأراضي المصرية والانضواء تحت لوائه متناسين ما بينهم من الخلافات، بعد أن ثبت لهم عجز أمراء الشام من البيت الأيوبي عن مقاومة المغول، وكان سيف الدين قطز قد أدرك أهمية كسب ركن الدين بيبرس لصف المقاومة لأمور منها:
أ ـ الكفاءة القتالية العالية جداً، والمهارة القيادية رفيعة المستوى لركن الدين بيبرس، والحمية الإسلامية لهذا القاد الفذ.
ب ـ الذكاء الحاد الذي يتميز به بيبرس، والذي سيحاول قطز أن يوظفه لصالح معركة التتار بدلاً من أن يوظف في معارك داخلية ضد المماليك المعزية.
جـ ـ ولاء المماليك البحرية لركن الدين بيبرس، وأنه إن ظل هارباً فلا يأمن أحد أن ينقلب عليه المماليك البحرية في أي وقت، لذلك فمن الأحكم سياسياً أن يستقطب بيبرس في صفه، ويعظم قدره ويستغل قدراته وإمكانياته، وبذلك يضمن إستقرار النفوس وتجميع الطاقات لحرب التتار بدلاً من الدخول في معارك جانبية لا معنى لها.
لذلك لما قدم بيبرس إلى مصر بعد إستقدام قطز له، عظم قطز من شأنه جداً وأنزله دار الوزارة وعرف له قدره وقيمته وأقطعه (قليوب) وما حولها من القرى، وعامله كأمير من الأمراء المقدمين وجعله على مقدمة جيوشه فيما بعد، فنلاحظ من صفات قطز القيادية، العفو عند المقدرة وإنزال الناس منازلهم، والفقه السياسي الحكيم، والحرص على الوحدة، وقد إستطاع سيف الدين قطز أن يستفيد من طاقات المماليك البحرية وإمكانياتهم وتقوية الجيش بهم. وفتح أبواب مصر أمام فلول المماليك الإسلامية في الشرق الإسلامي التي تعرضت للغزو المغولي، فدخل جموع الخوارزمية الفارة من وجه المغول لمصر، ورحب بهم سيف الدين قطز، وكذلك جموع الشام، ومعه الملك المنصور صاحب حماه وغيرهم.
الخطوة الثالثة: حرص على التواصل مع الدولة الأيوبية، فقد كانت العلاقة بين المماليك والأيوبية متوترة إلى حد كبير، بل أن الناصر يوسف الأيوبي أمير دمشق وحلب كان قد طلب من التتار بعد سقوط بغداد أن يعاونوه في غزو مصر، إلا أن سيف الدين قطز سعى لإذابة الخلافات بينه وبين أمراء الشام، وكان يسعى إلى الوحدة مع الشام أو على الأقل تحييد أمراء الشام، ليخلو بينهم وبين التتار دون أن يطعنوه في ظهره، فتواصل سيف الدين قطز مع الملك الناصر الأيوبي وعرض عليه أن يكون تابعاً للناصر ثم أن قطز ـ رحمه الله ـ علم أن الناصر يوسف قد يتشكك في أمر الوحدة الكاملة أو في أمر القدوم إلى مصر، فعرض عليه بإمداده بالمساعدة لحرب التتار، فتحققت المصلحة المشتركة في هزيمة التتار وإن لم تتحقق الوحدة الكاملة بين مصر والشام، قال قطز في أدب جم وخلق رفيع: وإن إخترتني خدمتك وإن إخترت قدمت ومن معي من العسكر نجدة لك على القادم عليك، فإن كنت لا تأمن حضوري سيرت لك العساكر صحبة من تختاره. لكن الناصر يوسف لم يستجب لهذه النداءات النبيلة من قطز، وآثر التفرق على الوحدة، فماذا كانت النتيجة؟ سقوط حلب ودمشق، ووقوع الملك الناصر في الأسر ثم قتله بعد عين جالوت، ولم يكتف قطز بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير المنصور صاحب حماه والتحق بعض جيشه بقطز، وأما المغيث عمر صاحب الكرك بالأردن فقد آثر أن يقف على الحياد، وقد حاول مرتين قبل ذلك أن يحتل مصر، وصده قطز في المرتين، وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الإستجابة تماماً لقطز، وفضل التعاون المباشر مع التتار، وبالفعل أعطاه هولاكو إمارة الشام كلها ليحكم باسم التتار، وأما الأخير وهو الملك السعيد ((حسن بن عبد العزيز)) صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضاً قاطعاً، بل إنضم بجيشه إلى قوات التتار يساعدهم في فتح بلاد المسلمين، وهكذا استطاع قطز أن يكسب أمير حماه المنصور وانضم إليه جيش الناصر، وحيَّد إلى حد كبير المغيث عمر صاحب الكرك، وبذلك يكون قد إنضم الكثير من الجنود الشاميين مع سيف الدين قطز.
الخطوة الرابعة: أراد الملك سيف الدين قطز قبل الشروع في مواجهة المغول أن يختبر الصليبيين على ساحل بلاد الشام، لمعرفة موقفهم من ذلك الصراع الذي أصبح محاذياً لهم، لتخوفه من إنضمام هؤلاء الصليبيين إلى المغول عند نشوب الحرب، وبناء عليه توجهت سفارة مصرية إلى عكا تطلب من الصليبين السماح للجيوش الإسلامية بإجتياز بلادهم وشرا ما تحتاجه من المؤن، والواقع أن الصليبيين لم يخفوا مرارتهم وكراهيتهم وحقدهم للمغول بعن أن قام المغول بمهاجمة مدينة صيدا ونهبها، كما أنه لم تتوافر عندهم الثقة فيهم لما ارتكبوه من المذابح الجماعية، على حين أن الصليبيين اتصلوا بالحضارة الإسلامية وألفوها، بل ونتيجة لذلك أبدوا أول الأمر إستعدادهم لبذل المساعدة العسكرية للسلطان قطز إلا أن السلطان سيف الدين شكرهم حينما عرضوا عليه أن يسيروا معه نجدة واستحلفهم أن يكونوا لا له ولا عليه، واستطاع السلطان سيف الدين قطز أن يتحصل على موافقة الصليبيين بالسماح لقواته باجتياز الأراضي الساحلية التي تحت أيديهم، وجعلته في مأمن من ذلك الجانب، وتجنب خطر إشتباكه في أكثر من جهة في تلك اللحظات الحرجة.
الخطوة الخامسة: تحكيم الشريعة في أموال الحرب: كانت النفقات للإعداد كبيرة، من تجهيز الجيش، وإعداد التموين اللازم له، وإصلاح الجسور والقلاع والحصون، وإعداد العدة اللازمة للحرب، وتخزين ما يكفي للشعب في حال الحصار، وكانت الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد طاحنة، وليس هناك وقت لخطة خمسية أو عشرية، والتتار على الأبواب وقد وصلوا غزة والدولة تحتاج للأموال، فجمع سيف الدين قطز مجلسه الاستشاري ودعا إليه إلى جانب الأمراء والقادة والعلماء والفقهاء وعلى رأسهم سلطان العلما الشيخ العز بن عبد السلام، وبدأوا يبحثون عن حل لتجهيز كتائب المسلمين، واقترح سيف الدين قطز، أن نفرض ضرائب لدعم الجيش. إلا أن الشيخ العز بن عبد السلام تحفظ على هذا المقترج ولم يوافق عليه إلا بشرطين واصدر هذه الفتوى: إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كله قتالهم ( أي العالم الإسلامي)، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم (أي فوق الزكاة)، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء من السلاح والسروج والذهب والفضة والسيوف المحلاة بالذهب، وأن تبيعوا مالكم من ممتلكات والآلات (أي يبيع الحكام والأمراء والوزراء ما يمتلكون)، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه وتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات فلا. فقد بين الشيخ العز بن عبد السلام، بأنه لا يجوز فرض ضرائب إلا بعد أن يتساوى الوزراء والأمراء مع العامة في الممتلكات، ويجهز الجيش بأموال الأمراء والوزراء، فإن لم تكف هذه الأموال جاز هنا فرض الضرائب على الشعب بالقدر الذي يكفي بتجهيز الجيش ليس أكثر من ذلك. لقد قبل سيف الدين قطز فتوى العز بن عبد السلام ببساطة وبدأ بنفسه وباع كل ما يملك وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك، فانصاع الجميع وامتثلوا أمره، فقد أحضر الأمراء كافة ما يملكون من مال وحلي نسائهم وأقسم كل واحد منهم أنه لا يملك شيئاً في الباطن، ولما جمعت هذه الأموال وضربت سكاً ونقداً وأنفقت في تجهيز الجيش، ولم تكف هذه الأموال نفقة الجيش، فقرر قطز على كل رأس من أهل مصر والقاهرة من كبير وصغير ديناراً واحداً، وأخذ من أجرة الأملاك شهراً واحداً، وأخذ من أغنياء الناس والتجار زكاة أموالهم معجلاً، وأخذ من الترك الأهلية ثلث المال، وأخذ من الغيطان والسواقي أجرة شهر واحد، وبلغ جملة ما جمعه من الأموال أكثر من ستمائة ألف دينار. فجمع بذلك الأسلوب الفريد للمال الحلال الذي لا ظلم ولا عدوان فيه. وكان هذا العمل الجليل من اسباب النصر في عين جالوت قال تعالى"إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" (محمد ، آية : 7) ونصر الله لا يكون إلا بتطبيق شرعه، والجيش المسلم الذي يبتعد عن شرع الله يكون بعيداً عن نصر الله عز وجل، إن ما قام به سيف الدين قطز في الاستمتاع لرأي الشيخ العز بن عبد السلام ثم تنفيذه ترتب عليه شحنة معنوية قوية شحذت همم الناس للجهاد وبذل الغالي والنفيس في سبيل الله، إذ يمكن القول أن تلك الفتوى التي أصدرها العز بن عبد السلام، في ذلك الوقت الذي كان الشرق الإسلامي بلا خلافة شرعية، أدت الدور نفسه الذي كانت الخلافة ستؤديه فيما لو كانت قائمة، إذ كانت فتواه تلك بمثابة سلطة روحية ساعدت المظفر في الحصول على استجابة عامة المسلمين بدفع ما قرر عليهم من أموال، مستشعرين بأن ذلك وأجب يفرضه عليهم دينهم الحنيف، وكان الشيخ العز بن عبد السلام وعلماء مصر يحثون الناس في سبيل الله تعالى، ووعظ الأمراء والحكام وحرك قلوبهم فتنبه فيها الإيمان، فأخرجوا ما عندهم، ورأى الناس ذلك فتسابقوا إلى بذل الجود، وكثرت الأموال، فأعدوا العدة وجمعوا السلاح، وأقيمت معسكرات التدريب في كل مكان واهتزَّت البلدة بالهتاف والتكبير، وصار كل مسلم يشتهي الوصول إلى المعركة، وهذا درس مهم في أهمية التكامل بين أمراء المماليك والعلماء في مقاومة التتار.
ثالثاً: رسالة هولاكو إلى سيف الدين قطز: أرسل هولاكو رسالة إلى سلطان مصر كلها تهديد ووعيد قال فيها: من ملك الملوك شرقاً وغرباً القان الأعظم، باسمك الله باسط الأرض ورافع السماء يعلم الملك المظفر قطز، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الاقليم يتنعمون بانعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، وأسلموا إلينا امركم، قبل أن ينكف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرفق لمن شكى قد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تأويكم وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم، فما من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا خلاص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع والعساكر لقتلنا لاتنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عن الكلام، وخنتم العهود والإيمان وفشا فيكم العقوق والعصيان فأبشروا بالمذلة والهوان "فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير حق وبما كنتم تفسقون" "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" فمن طلب حربنا ندم ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم مالنا وعليكم ما علينا، وإن خلفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذر من أنذر وقد ثبت عندكم ان نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة والأحكام المدبرة، فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، وبغير المذلة ما لملوكم علينا من سبيل، فلا تطيلو الخطاب، واسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون مناجاها ولا عزاً ولا كافياً ولا حرازاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منا خالية، فقد انصفناكم إذ راسلناكم، وايقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم والسلام علينا وعليكم وعلى من أطاع الهدى وخشي عواقب الردى وأطاع الملك الأعلى.
            ألا قل لمصر ها هُلاوُن قد أتى
                            بحدّ سيوف تُنضى وبواتر
            يصير أعز القوم منا أذلة
                            ويُلحق أطفالاً لهم بالأكبر
1 ـ مجلس شورى حربي: كانت الرسالة بمثابة التحدي النهائي لآخر قيادة إسلامية، وعلى ضوء الموقف الذي ستقرر هذه القيادة اتخاذه سيتوقف مصير عالم الإسلام وحضارته التي وضعها كدح القرون الطوال، كل المؤشرات كانت تقود إلى الاستلام للتحدي والإذعان لضروراته.. ولكنه الإيمان له منطق آخر، أنه لا يمنح القدرة عل الحركة في ظروف الشلل التام، فحسب، لكنه بصيرة تخترق حجب العمى والظلام، لكي تطل على الأفق يشع ضياء، وبالحركة القديرة، والرؤية الصائبة تجابه القيادات الفذة تحديات التاريخ ومحنه وويلاته، فتخرج منها ظافرة، وتحقق بالاستجابة قفزة نوعية في مجرى الفعل والتحقق، قرأ سيف الدين قطز الرسالة واستدعى الأمراء ليعرض الأمر عليهم وجرى هذا الحوار:
قطز: ماذا ترتؤن؟
ناصر الدين قميري: إن هولاكو فضلاً عن أنه حفيد جنكيز خان، فإن شهرته وهيبته غنية عن الشرح والبيان وإن البلاد الممتدة من تخوم الصين إلى باب مصر كلها في قبضته الآن، فلو ذهبنا إليه نطلب الأمان فليس في ذلك عيب وعار، ولكن تناول السم بخداع النفس واستقبال الموت، أمران بعيدان عن حكم العقل، أنه ليس الإنسان الذي يطمأن إليه، فهولا يتورع عن إحتراز الرؤوس، وهو لا يفي بعهده وميثاقه، فإنه قتل فجأة الخليفة وعدداً من الأمراء بعد أن أعطاهم العهد والميثاق، فإذا سرنا سيكون مصيرنا هذا السبيل.
قطز: والحالة هذه فإن كافة ديار بكر وربيعة والشام ممتلئة بالمناحات الفجائع، وأصبحت البلاد من بغداد وحتى الروم خراباً يباباً، وقضى على جميع ما فيها من حرث ونسل، فلو أننا تقدمنا لقتالهم وقمنا بمقاومتهم فسوف تخرب مصر خراباً كغيرها من البلاد، وينبغي أن تختار مع هذه الجماعة التي تريد بلادنا واحد من الثلاثة: الصلح أو القتال أو الجلاء عن الوطن، أما الجلاء عن الوطن فأمر متعذر ذلك لأنه لا يمكن أن نجد مفراً إلا المغرب، وبيننا وبينهم مسافات بعيدة.
قميري: وليس هناك مصلحة أيضاً في مصالحتهم، إذ أنه لا يوثق بعودهم.
عدد من الأمراء: ليس لنا طاقة ولا قدرة على مقاومتهم، فمر بما يقضيه رأيك.
قطز: إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعاً إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلا فلن نكون ملومين أمام الخلق.
الظاهر بيبرس: أرى أن نقتل الرسل، ونقصد كتبغا ـ قائد المغول ـ متضامنين، فإذا إنتصرنا أو هزمنا فسوف نكون في تلك الحالتين معذورين.
أيد الأمراء المجتمعون كافة هذا الرأي، وكان على قطز أن يتخذ قراره وقد إتخذه فعلاً.
2 ـ التغيير العام: وفي هذه الأثناء أراد المظفر أن يقطع كل مجال للتردد في الخروج لمواجهة المغول، فأصدر أوامره إلى ولاة الأقاليم المصرية بجمع الجيوش وحث الناس على الخروج للجهاد في سبيل الله ونصرة دين رسول الله صى الله عليه وسلم، وطالب الولاة بإزعاج الأجناد للخروج للسفر، ومن وجد منهم من إختفى يضرب بالمقارع، وسار بنفسه حتى نزل الصالحية، حيث تكامل عنده وصول العساكر المصرية، ومن إنضم إليهم من عساكر الشام والعرب والتركمان وغيرهم، وذلك في يوم الاثنين الخامس عشر من شعبان سنة 658هـ/يوليو1260م، وفي هذه المنطقة طلب قطز الأمراء واجتمع بهم وتكلم معهم في المسير لقتال المغول، وهنا يبدو أن بعض هؤلاء الأمراء عاودهم الخوف من مواجهة المغول وامتنعوا عن الخروج، الأمر الذي أثار حماسة السلطان المظفر قطز فقال لهم: يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون أموال بيت المال وأنتم للغزاة كارهون وأنا متوجه فمن إختار الجهاد يصحبني ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين، وأمام هذا التصميم الذي أبداه قطز لمواجهة المغول، والذي أعقبه تحليف من وافقه من الأمراء على المسير، ومن ثم إصدار أوامره إلى قواته بالمسير لملاقاة العدو مهما كانت الظروف حيث عبر عن ذلك بقوله: "أنا ألقي التتار بنفسي" لم يسع بقية الأمراء المعارضين إلا الموافقة، وانقضى الجمع على الخروج صفاً واحداً لإنقاذ المسلمين من ويلات الغزو المغولي المدمر.
3 ـ قتل سفراء هولاكو: وكان أول إجراء قام به المظفر قطز ضد المغول هو إستدعاء رسل هولاكو واستقبالهم استقبالاً جافاً إيذاناً لإعلان الحرب عليهم، ومن ثم القبض عليهم وضرب عنق كل منهم أمام باب من أبواب القاهرة وتعليق رؤوسهم على باب زويلة وأبقى على صبي من الرسل وجعله من مماليكه، وكانت تلك الرؤوس أول ما علق على باب زويلة من المغول. ويبدو أن قطز اعتبر الرسل محاربين وأنهم ليس لهم الحصانة الكافية لمنع قتلهم، حيث أن المغول قتلوا النساء والأطفال والشيوخ غير المقاتلين، وبأعداد لا تحصى في سمرقند وبخارى وبغداد وحلب ودمشق وغيرها من بلاد المسلمين، كما أن رسل التتار أغلظوا القول وأساؤوا الأدب وتكبروا عليه وكان الهدف من تعليق رؤوس المغول على أبواب القاهرة الرئيسية رفع معنويات الناس وإعلان الحرب على التتار وإعلامهم بأنهم قادمون على قوم يختلفون كثيراً عن الأقوام الذين قابلوهم من قبل، وهذا يؤثر سلباً على التتار فيلقي في قلوبهم ولو شيئاً من الرعب أو التردد، ويبقى الهدف الأكبر لقتل الرسل هو قطع التفكير في أي حل سلمي للقضية والاستعداد الكامل الجاد للجهاد، فبعد قتل رسل المغول لن يقبل التتار باستسلام مصر حتى لو قبل بذلك المسلمون، كان هذا هو إجتهاد قطز والأمراء في قتل رسل المغول، ولكن هذا يخالف الأصل في الإسلام، حيث أن الرسل لا تقتل، لا رسل المسلمين، ولا رسل الكفار، ولا حتى رسل المرتدين عن الإسلام، فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، يقول عبد الله بن مسعود: جاء ابن النواحة وابن أشال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى اله عليه وسلم فقال لهما: "أتشهدان أني رسول الله؟ قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسوله، لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما، يعلق عبد الله بن مسعود على هذا الحديث فيقول: مضت السنة أن الرسل لا تقتل. وهذا الحديث يدل على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار، وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام أو سائر المسلمين. وما حدث من سيف الدين قطز، مخالف لأحكام الشريعة والكمال لله وحده.

رابعاً: اليوم الفصل:
1 ـ مقدمات الصدام: لم يعد أمام المظفر قطز بعد إتمام تلك الاستعدادات سوى إختيار مكان وزمان المعركة التي كان ينوي منازلة المغول فيها، وهنا تبدو لنا إستراتيجية جديدة إتبعها قطز في هذه المواجهة الحاسمة، ذلك أنه إذا كان حكام المسلمين إبتداء من الدولة الخوارزمية حتى أرض فلسطين قد التزموا مبدأ التحصن داخل مدنهم إنتظار لهجوم المغول عليهم ومحاولة صده فقط فإن السلطان قطز أدرك عدم جدوى الأساليب الدفاعية ورأى أن من الأفضل منازلة المغول قبل وصولهم إلى الأراضي المصرية واختار لذلك النزال مكاناً مناسباً خارج دولته هو منطقة عين جالوت بأرض فلسطين الذي يمتاز بقربه من المناطق الساحلية الذي كان يسيطر عليها الصليبيون، الذين أبدوا إستعدادهم الكامل لتسهيل مرور القوات الإسلامية إليه، هذا بالإضافة إلى كون هذا الجزء من أرض فلسطين منطقة فسيحة يعلوها جبل، الأمر الذي سيمكن قواته من مواجهة العدو في كل الظروف، ففي حالة الاشتباك المباشر مع العدو في معارك مكشوفة، يكون القتال في منطقة منبسطة، وفي حالة مناوشته من بعيد يكون الجبل مساعداً للرماة لأداء واجبهم عل الوجه الأكمل، كما أن إختيار هذا المكان في بلاد الشام لمنازلة المغول، يعطي في حد ذاته دفعة قوية لتلك الجموع الشامية الهاربة منهم إلى مصر والتي انضمت إلى جيش المماليك، للاستبسال والتفاني في الجهاد وطمعاً في العودة مرة أخرى إلى بلادها، خاصة وأن هناك أمراء أيوبيين في ركاب هذه الجيوش، كان الملك المظفر قطز قد وعدهم بإعادتهم إلى إماراتهم بعد طرد المغول من بلاد الشام، كما إختار قطز لهذه المعركة الفاصلة شهر أغسطس الذي تكون فيه الحرارة مرتفعة للتأثير على تلك الجموع المغولية القادمة من صحاري منغوليا الباردة، للتقليل من نشاطهم القتالي لكونهم لم يعتادوا على المناخ الحار الذي عادة ما يسود مناطق فلسطين في ذلك الوقت.
2 ـ تحرك جيوش المسلمين: طلب سيف الدين قطز من الأمراء الاجتماع العاجل، وحثهم على القتال وذكرهم بما وقع في أقاليم الإسلام، وقال لهم: يا مسلمين قد سمعتم ما جرى من أهل الأقاليم من القتل والسبي والحريق، وما منكم أحد إلا وله مال وحريم وأولاد، وقد علمتم أن أيدي التتار تحكمت في الشام وقد أوهنوا قوى دين الإسلام، وقد لحقني على نصرة دين الإسلام الحمية، فيجب عليكم يا عباد الله القيام في جهاد أعداء الله حق القيام، يا قوم جاهدوا في الله بصدق النية تجارتكم رابحة وأنا واحد منكم وها أنا وأنتم بين يدي رب لا ينام ولا يفوته فائت ولا يهرب منه هارب، فعند ذلك ضجت الأمراء بالبكاء وتحالفوا أنهم لا بقاء لهم في الدنيا إلى أن تنكشف هذه الغمة، فعند ذلك جرد السلطان، الأمير ركن الدين بيبرس وصحبته جماعة من العساكر وأرسله طليعة.
3 ـ معركة غزة:تحركت طلائع الجيش المملوكي بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري نحو فلسطين، فسار حتى نزل غزة في شعبان 658هـ /يولية 1260م واستطاع ركن الدين بيبرس أن يحقق انتصاراً ساحقاً على الحامية المغولية في غزة وكانت هزيمة قاسية لهم، واكتشف المغول أن هناك من المسلمين من يتحرك من خلال خطط عسكرية، وأبعاد استراتيجية، وأنه لا زال من المسلمين من يحمل السيوف للدفاع عن دينه وأرضه وشرفه وكرامته، وكانت هذه المعركة من أهم المعارك بالنسبة للمسلمين، فقد رأى المسلمون بأعينهم أن التتار يفرون، وسقطت المقولة التي انتشرت في تلك الآونة التي كانت تقول: من قال لك أن التتار يهُزمون فلا تصدقه، وكان لهذه الموقعة أثر ايجابي على جيش المسلمين وكان لها أثر سلبي هائل على جيش التتار. واصبحت غزة ملكاً للمسلمين وبهذا تعتبر معركة غزة هذه أولى المعارك التي انتصر فيها المسلمون على المغول كما يمكن القول أن هذا الانتصار الذي تحقق للمسلمين كان دافعاً قوياً لهم للتقدم إلى الشمال باتجاه عين جالوت للقاء المغول في موقع أفضل خاصة وأن تلك الهزيمة التي مني بها جيش الأمير المغولي بأيدر لم تقابل بأي اهتمام من القائد المغولي كيتوبوقا الذي بقي على جموده إلى أن وصلت الجيوش الإسلامية عين جالوت وكان هذا الانتصار من الأسباب التي جعلت الصليبيين تحرص على خطب ود المسلمين بتقديم العون والمساعدة لهم والسماح لجيوش المماليك بعبور أراضيهم إلى داخل فلسطين، ولما رحل سيف الدين قطز من غزة سلك طريق الساحل فاجتاز مدينة عكا وهي يومئذ بيد الفرنج، فلما عاينوه، وأرسلوا له الهدايا والتحف والضيافات، وألتقاه ملوكها فأعرضوا عليه أن يأخذ معه نجدة فلاطفهم السلطان وأخلع عليهم واستحلفهم أن يكونوا لا له ولا عليه، وما له حاجة بنصرتهم وقال لهم: والله العظيم متى تبعهم منهم فارس أو راجل ـ يريد أذى عسكر المسلمين ـ قتلتكم قبل ملتقاي التتار وقد عرفتكم ذلك، عند ذلك كتب الملوك إلى اتباعهم بما سمعوه،ورفض السلطان قطز تلك المساعدة التي عرضها الصليبيون عليه، فقد كان حريصاً كل الحرص على صبغ حروبه ضد المغول والصليبيين معاً بصبغة إسلامية خالصة، كما أن هذا يشير إلى رغبة قطز ومشروعه الجهادي يستهدف دحر العدوان المغولي ومن ثم التوجه إلى الساحل الشامي لتطهيره من نير الاحتلال الصليبي، وحرص في الوقت نفسه على أن لا تكون للصليبيين عليه منة عند مهاجمتهم.
4 ـ معلومات استخبارية مهمة:قاد السلطان قطز جيشه واقترب من عين جالوت، وبينما هو في الطريق جاء رجل من أهل الشام وقدم معلومات استخبارتية لسيف الدين قطز، مرسل من قبل صارم الدين أيبك وهو أحد المسلمين الذين أسرهم هولاكو عند غزوه بلاد الشام، ثم قبل الخدمة في صفوف جيش التتار، واشترك معهم في مواقعهم المختلفة وجاء معهم إلى موقعة عين جالوت، ولا ندري إن كان قد قبل التعاون مع التتار لرغبة في نفسه، أم قبل ذلك مضطراً وهو يعد العدة لينفع المسلمين فهذا بينه وبين الله عز وجل، ولكن في موقعة عين جالوت قرر أن يخدم جيش المسلمين بقدر ما يستطيع، وقد نقل هذا الرسول إلى قطز ـ العلومات التالية:
أ ـ جيش التتار ليس بقوته المعهودة، فقد أخذ هولاكو معه عدداً من القادة والجند، فلم يعد الجيش على الهيئة نفسها التي دخل بها الشام، فلا تخافوهم.
ب ـ ميمنة التتار أقوى من ميسرتهم، فعلى جيش المسلمين أن يقوي جداً ميسرته التي ستقاتل ميمنة التتار.
ج ـ أن الأشرف الأيوبي أمير حمص سيكون في جيش التتار بفرقته،ومع صارم الدين أيبك، ولكنهم سوف ينهزمون بين يدي المسلمين..أي أن الرسالة تقول أن الاشرف الأيوبي قد راجع نفسه وآثر أن يكون مع جيش قطز، ولكنه خرج مع جيش التتار مكيدة لهم، وتفكيكاً لصفهم. ومع ذلك أخذ المسلمون حذرهم، واستفادوا من هذه الأمور دون تفريط في الإعداد أوتهاون في الاحتياط والحذر، وبذلك انتهى يوم الرابع والعشرين من رمضان 658هـ وقضى المسلمون الليل في القيام والابتهال والدعاء والرجاء.
5 ـ الاشتباك مع المغول: كان سيف الدين قطز قد بعث الأمير ركن الدين بيبرس على رأس فرقة من الكشافة لاستطلاع أخبار العدو وتحديد مكانه، واشتبك بيبرس مع طلائع الجيش المغولي واستمر يناوشهم إلى أن وافاه السلطان قطز بالجيش الرئيسي عند عين جالوت في الخامس والعشرين من رمضان سنة 658هـ / سبتمبر 1260م حيث ألتقى الجمعان وذلك بعد طلوع الشمس وقد امتلأ الوادي بالناس وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين وتتابع ضرب كوسات السلطان والأمراء ايذاناً ببدء الهجوم، كان الجيش المغولي بقيادة كتبغا، وكان قطز يعرف جيداً تفوق جيشه في العدد على العدو، ولذا أخفى قواته الرئيسية في التلال القريبة ولم يعرض للعدو إلا المقدمة التي قادها بيبرس، ولما لبث كتبغا أن وقع في الفخ، إذ حمل بكل رجاله على القوات الإسلامية التي شهدها أمامه، فأسرع بيبرس في تقهقره إلى التلال بعد أن اشتدت مطاردة كتبغا له، فلم يلبث الجيش المغولي بأسره أن جرى تطويقه فجأة وجرت بين الطرفين معركة طاحنة، واضطربت قوات المماليك بعض الوقت وانكسرت ميسرة المسلمين في بداية الأمر كسرة شنيعة، فحمل الملك المظفر بنفسه في طائفة من عساكره وأردف الميسرة حتى جبر ضعفها، ثم اقتحم القتال وأبلى في ذلك اليوم بلاء حسناً وهو يشجع أصحابه ويحسن لهم الموت في سبيل الله ويكر بهم كرة بعد كرة، وألقى خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته((وأسلاماه)) وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة فأيده الله بنصره، ولم تنقضي سوى ساعات حتى بدأ تفوق المسلمين في الميدان،وسحقت زهرة القوات المغولية، ومر العسكر في إثر التتار إلى قرب بيسان، فرجع التتار،والتقوا بالمسلمين لقاءً ثانياً أعظم من الأول، فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم، وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديداً، فصرخ السلطان صرخة عظيمة، سمعه معظم العسكر وهو يقول: ((وأسلاماه)) ثلاث مرات:يا الله انصر عبدك قطز على التتار)) فلما انكسر التتار الكسرة الثانية نزل السلطان على فرسه ومرغ وجهه على الارض وقبلها وصلى ركعتين لله تعالى ثم ركب، فأقبل العسكر وقد امتلأت ايديهم بالغنائم، واستمر ركن الدين بيبرس في مطاردة فلول المغول حتى افامية فوجدهم قد تجمعوا بها ووحدوا صفوفهم للمرة الثالثة استعداداً لمواجهتهم، فهاجمهم بكل شجاعة وكسرهم كسرة شنيعة وغنم منهم اموالاً طائلة وخيولاً كثيرة.
6 ـ شجاعة القائد المغولي:ورغم الهزيمة القاسية التي مُني بها المغول في هذه المعركة فإن أحد المؤرخين المسلمين وهو رشيد الدين فضل الله الهمذاني، لم ينكر ما كان للقائد المغولي كيتوبوقا من صفات بطولية في هذه المعركة، فعندما اقترح عليه أحد اعوانه الإنسحاب أجاب:علينا أن نموت هنا، هذه هي النهاية ويعيش الخان ويسعد، وفي رواية:لا مفر من الموت هنا، فالموت مع العزة والشرف خير من الهروب مع الذل والهوان، وسيصل رجل واحد، صغيراً أو كبيراً من أفراد هذا الجيش إلى حضرة الملك ويعرض عليه كلامي قائلاً:إن كيتوبوقا لم يشأ أن يتراجع وقد كلله الخجل فضحى بحياته الغالية في سبيل واجبه، وينبغي ألا يشق على الخاطر المبارك نبأ فناء جيش المغول، وليتصور الملك أن نساء جنوده لم يحملن عاماً واحداً، وأن جياد قطعانه لم تلد المهور، فليدم اقبال الملك، مادامت نفسه الشريفة آمنة سالمة، فإنها تكون عوضاً لكل مفقود، إذ أن وجودنا وعدمنا نحن العبيد والاتباع أمر سهل يسير، كما يذكر رشيد الدين نفسه رأياً مخالفاً في كيفية قتل القائد المغولي كيتوبوقا، حيث يشير إلى أنه وقع في بداية الأمر في الاسر، ثم أحضره قطز إلى مجلسه مكبلاً ودار بينهما حواراً بداه قطز مخاطباً كيتوبوقا بقوله: أيها الرجل الناكث العهد ها انت بعد أن سفكت كثيراً من الدماء البريئة وقضيت على الابطال والعظماء بالوعود الكاذبة، وهدمت البيوتات العريقة بالاقوال الزائفة المزورة قد وقعت أخيراً في الشرك. وعندما سمع كيتوبوقا كلامه انتفض وهو مكبل اليدين كأنه الفيل الهائج، فأجاب قائلاً: أيها الفخور المغتر، لا تتباه كثيراً بيوم النصر هذا، فأنا إذا قُتلت على يديك فإني أعلم أن ذلك من الله لا منك، فلا تُخدع بهذه المصادفة العاجلة، ولا بهذا الغرور العابر، فإنه حين يبلغ حضرة هولاكو نبأ وفاتي سوف يغلي بحر غضبه وستطأ سنابك خيل المغول البلاد من آذربيجان حتى ديار مصر، وستحمل رمال مصر في مخالي خيولهم إلى هناك، إن لهولاكو خان ثلاثمائة ألف فارس مثل كيتوبوقا، فأفرض أنه نقص واحد منهم، فقال له قطز:لا تفخرإلى هذا الحد بفرسان توران، فإنهم يزاولون أعمالهم بالمكر والخداع لا بالرجولة والشهامة. فرد عليه كيتوبوقا: إني كنت عبداً للملك ما حييت ولست مثلك ماكراً وغادراً… بادر بالقضاء عليّ بأسرع ما يمكن حتى لا أسمع تأنيبك. فأمر قطز بقتله ففصلوا رأسه عن جسده، ولما بلغ هولاكو خان نبأ نعي كيتوبوقا، وعلم بحديثه في ذلك الموقف أسف أسفاً شديداً على وفاته، واشتعلت نيران غضبه وقال: أين أجد خادماً آخر مثله يبدي مثل هذه النوايا الطيبة، ومثل هذه العبودية ساعة هلاكه. وبالرغم مما يعرف به رشيد الدين من محاباة للمغول، فإنه لا يمكن أن ننكر ما كان عليه كيتوبوقا من مكانة عند المغول، يعتمدون على رأيه وشجاعته وتدبيره وكان بطلاً شجاعاً مقداماً، وخبيراً بالحروب وافتتاح الحصون، وكان هولاكو يثق به ولا يخالفه فيما يشير به، وبموته استراح الإسلام منه، حيث كان شر عصابة على الإسلام وأهله. وعلق نور الدين خليل على شجاعة القائد المغولي والقصص المنسوبة إليه فقال: وننظر إلى تلك الروايات ببالغ الريبة، بل والإنكار، فكيف حصل الهمذاني على رسالة شفهية حملها مجهول بلغة مغولية، بطبيعة الحال، هذا إن كانت هناك رسالة أصلاً وكذلك الحال فيما يتعلق بالروايات الأخرى، لا شك أن تلك الروايات محض اختلاف وتصور خيال، حتى وإن رددها المؤرخون الواحد تلو الآخر، سواء مؤرخو العرب أو الغرب.
7 ـ تحرير دمشق وبلاد الشام:لم تنته مهمة الملك المظفر بعد ما زال هناك تتار في دمشق، وحمص وحلب وغيرها من المدن الشامية فكانت دمشق هي أولى المحطات الإسلامية التي تقع تحت سيطرة التتار، وهي تقع على مسافة مائة وخمسين كيلو متراً تقريباً من عين جالوت إلى الشمال الشرقي منها، فقبل وصوله إلى دمشق أرسل رسالة عظيمة تحمل بشريات النصر الكبير وكان مما جاء في هذه الرسالة:أما النصر الذي شهد الضرب بصحته، والطعن بنصيحته، فهو أن التتار خذلهم الله، استطالوا على الايام وخاضعوا بلاد الشام واستنجدوا بقبائلهم على الإسلام وهذه عساكر الإسلام مستوطنة في مواطنها ما تزلزل لمؤمن قدم إلا وقدم إيمانه راسخة ولا تثبت لأحد حجة إلا وكانت الجمعة ناسخة ولا عقدت برجمة ناقوس إلا وحلها الآذان ولا نطق كتاب إلا وأخرسه القرآن ولم تزل أخبار المسلمين تنتقل إلى الكفار، وأخبار الكفار تنتقل إلى المسلمين، إلى أن خلط الصباح فضته بذهب الاصيل، وصار اليوم كأمس ونُسخت آية الليل بسورة الشمس إلى أن تراءت العين بالعين واضرمت نار الحرب بين الفريقين، فلم تر إلا ضرباً يجعل البرق نضوا ويترك في بطن كل من المشركين شلوا، وقتل من المشركين كل جبار عنيد، ذلك بما قدمت أيديهم((وما ربك بظلام للعبيد)). وصل الخبر لأهالي دمشق قال ابن كثير: واتبع الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وجماعة من الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب وهرب من بدمشق منهم وكان هربهم منها يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان صبيحة النصر الذي جاءت فيه البشارة بالنصر على عين جالوت فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون ويأسرون وينهبون الاموال فيهم ويستفكون الاسارى من أيديهم قهراً ولله الحمد والمنن على جبره الإسلام ومعاملته إياهم بلطفه الحسن، وجاءت بذلك البشارة السارة، فجاوبتها البشائر من القلعة المصورة وفرح المؤمنون يومئذ بنصر الله فرحاً شديداً، وأيد الله الإسلام وأهله تأييداً وكُبت أعداء الله النصارى واليهود والمنافقون وظهر دين الله وهم كارهون ونصر الله دينه ونبيه ولو كره الكافرون، فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب فانتهبوا ما فيها، وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها، فأحترقت دور كثيرة للنصارى، وملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة، وهمت طائفة بنهب اليهود، فقيل لهم: إنهم لم يكن منهم فيما ظهر من الطغيان، كما كان من عبدة الصُلبان، وقتلت العامة في وسط الجامع شيخاً رافضياً، كان مصانعاً للتتارعلى اموال الناس يقال له الفخر محمد بن يوسف الكنجي، كان خبيث الطوية ممالئاً لهم على أموال المسلمين وقتلوا جماعة مثله من المنافقين الممالئين على المسلمين "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" ((الأنعام:آية:45)).
8 ـ وصول سيف الدين قطز إلى دمشق:في اليوم الثلاثين من رمضان سنة 658هـ وصل البطل سيف الدين قطز إلى دمشق واستقبله الناس استقبال الفاتحين، وعلقت الزينات في الشوارع، وخرج الرجال والنساء والاطفال، يستبلون البطل المظفر وهذه هي الفرحة الحقيقية قال تعالى:"قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"((يونس:آية:58))، فرحة النصر لدين الله والرفعة للإسلام والعزة للمسلمين لا تقارن هذه الفرحة بفرحة الطعام والشراب والمال والجاه والسلطان، ودخل الجيش المملوكي المسلم دمشق واستتب الأمن الحقيقي بسرعة عجيبة، لم يحدث شيء مما يقع عند دخولالمستعمرين البلاد واستقر الوضع بسرعة وحفظ الاعراض والنفوس والاموال لكل الساكنين من نصارى ويهود وقام قطز بعزل ابن الزكي قاضي دمشق الذي عينه التتار وكان مواليا لهم، وعين مكانه نجم الدين أبا بكر بن صدر الدين بن سني الدولة وبدأ يفصل في القضايا، ويحكم في المخالفات التي تمت بين المسلمين والنصارى حتى لا يظلم نصراني في بلاد المسلمين، هذا مع كل ما فعله النصارى بالمسلمين أثناء احتلال التتار للمدينة، وفي اليوم التالي لدخول قطز إلى دمشق كان عيد الفطر وهوله طعمه الخاص ومكانته المتميزة، لأنه كان أيضاً عيداً للنصر والتمكين قال تعالى"وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم"((التوبة:آية:40)).
لم يضيع قطز وقتاً بل ارسل مقدمة جيشه بقيادة بيبرس تتبع الفارين من التتار وتطهر مدن الشام الأخرى من الحاميات التتارية، وطارد المغول في أعالي بلاد الشام حتى لحق بهم في حمص، وفر المغول بحياتهم وألقوا ما كان معهم من متاع وغيره، وأطلقوا الاسرى وعرّجوا نحو طريق الساحل، فتخطف المسلمون منهم وقتلوا خلقاً كثيراً وأسروا أكثر، فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره وقتل نائبه كتبغا عظم عليه، فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك ورحل من يومه.
واستطاع المسلمون تطهير بلاد الشام بكاملها في بضعة أسابيع وأعلن قطز توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، بعد عشر سنوات من الفرقة وذلك منذ وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب ـ رحمه الله ـ في سنة 648هـ وخُطب لقطز على المنابر في كل المدن المصرية والفلسطينية والشامية حتى خطب له في أعالي بلاد الشام والمدن حول نهر الفرات وعاش المسلمون أياماً من أسعد أيامهم.
9 ـ ترتيب أمور الولايات الشامية:شرع السلطان سيف الدين قطز على ترتيب أحوال الشام بسرعة حتى يتمكن من العودة إلى مصر، فأقطع الأمراء الصالحية والمعزية وأصحابه إقطاعات الشام وجعل نائبه على دمشق الأمير علم الدين سنجر الحلبي ومعه الأمير أبو الهيجاء بن عيسى بن خشتر الأزكشي الكردي، وأعاد ملوك الأيوبيين أصحاب العروش الصغيرة إلى عروشهم ملوكاً تابعين لسلطان مصر المملوكي وبعث إليه الاشرف موسى، حاكم حمص، والذي كان هولاكو قد عينه نائباً له في حكمها وفي بلاد الشام، يطلب الأمان، فاستجاب قطز وأمّنه على عرشه كذلك بعث بالملك المظفر علاء الدين علي بن بدر الدين لؤلؤ صاحب سنجار ليكون نائباً للسلطان في مدينة حلب ووزع الإقطاعات في المناطق الريفية المحيطة بحلب على الأمراء الموالين له، كذلك قام سيف الدين قطز ببعض التعديلات الإدارية البسيطة في بلاد الشام، فأقر الملك المنصور على حماه وبارين وأعاد له المعرّة التي كانت بيد حكام حلب منذ سنة 635هـ ومن ناحية أخرى، أخذ منه سلمية وأعطاها الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب وعين الأمير شمس الدين آقوش البرلي العزيزي أميراً بالساحل وغزة ومعه عدد من أمراء العزيزية وكان هذا الأمير قد فارق الناصر يوسف، صاحب دمشق وحلب، وانضم إلى قوات السلطان قطز في القاهرة، ثم خرج في جيش السلطان وحارب معه في عين جالوت، وأمر بشنق حسين الكردي الطبرادار، فشنق من أجل أنه دل على الملك الناصر.
وهكذا قام السلطان قطز بترتيب حكم الشام، وأعاد إلى ربوعها الأمن والاستقرار الذي كان مفقوداً منذ غزاها المغول، وفي اليوم السادس والعشرين من شوال 658هـ توجه السلطان سيف الدين قطز بجيشه الظافر صوب مصر، وبينما كانت القاهرة تتزين لاستقبال القائد المنتصر كان أجل سيف الدين قطز قد حان واقترب الرحيل من هذه الحياة وسيأتي الحديث عن ذلك مفصلاً بإذن الله تعالى.
10 ـ موقف هولاكو من الهزيمة:رغم أن هذه الهزيمة لم تلحق بشخص هولاكو نفسه فإن تلك الهزيمة الثقيلة التي مني بها جيشه وقتل فيها قائده العظيم كيتوبوقا، تعد صدمة عنيفة هزت كيانه وهو بعيد عن مسرح الحوادث، فتأثر لذلك وحاول أن يمحو ذلك العار الذي لحق بجيوشه بارسال حملة جديدة إلى الشام، في محاولة يائسة للانتقام من المسلمين، غير أن الظروف في ذلك الوقت لم تمكنه من ذلك، إذ لم يستطع التقدم غرباً لمساعدة جيوشه المهزومة في عين جالوت لانشغاله في حروبه مع منافسيه من أهل بيته وعلى رأسهم ابن عمه زعيم القبيلة الذهبية، واكتفى هولاكو بأن عمل على مراسلة الخان الاعظم في قراقورم أخبره بما حل بالمغول في بلاد الشام من هزيمة على يد سلطان مصر، فما كان من الخان الاعظم إلا أن اصدر مرسوماً يقضي بإعطاء هولاكو البلاد الواقعة بين نهر جيحون حتى بلاد الشام، قاصدأ بذلك ـ على ما يبدو ـ رفع معنويات هولاكو وجيوشه وتشجيعه على معاودة حرب المماليك، وبدأ هولاكو يستعد لحرب المسلمين، لكن الموت عاجله في سنة 663هـ /1265م فتوفي دون أن يحقق حلمه بضم مصر والشام إلى ممتلكاته.
11 ـ ما قيل من شعر في عين جالوت:نظم شهاب الدين محمود قصيدة مدح فيها الأمير الظاهر بيبرس بسبب انتصار المسلمين في عين جالوت فقال:
            سر حيث شئت لك المهيمن جار
                            واحكم فطوع مرادك الاقدار
                لم يبق للدين الذي أظهرته
                            يارُكنه عند الاعادي ثارُ
                لما تراقصت الرؤوس وحركت
                            من مطربات قسّيك الاوتار
                حملتك أمواج الفرات ومن رأى
                            بحرا سواك تقله الانهار
                وتقطعت فرقاً ولم يك
                            طودها إذ ذاك إلا جيشك الجرار
                رشّت دماؤهم الصعيد فلم يطر
                            منهم على الجيش السعيد غبار
                شكرت مساعيك المعاقل والورى
                            والتُربُ والآساد والاطيار
                هذي منعت وهؤلاء حميتهم
                            وسقيت تلك وعمّ ذا الإيسارُ

                فلأملأن الدهر فيك مدائحاً
                            تبقى بقيت وتذهب الاعصارُ

وقال شرف الدين الانصاري من قصيدة يمدح فيها الملك المنصور الثاني الايوبي صاحب حماه الذي كان مع جنده إلى جانب المظفر قطز في معركة عين جالوت:
            رُعت العدى فضمنت شل عروشها
                            ولقيتها فأخذت فلّ جيوشها
            نازلت أملاك التتار فأنزلت
                            عن فحلها قسراً وعن إكديشها
            فغدا لسيفك في رقاب كُماتها
                            حصد المناجل في يبيس حشيشها
            روّيت أكباد القنا بدمائهم
                            لما أطال سواك في تعطيشها
            أقدمت مقتحماً على نُشّابها
                            تكسو الجياد رِياشها من ريشها
                دارت رحى الحرب الزُّبون عليهم
                            فغدت رؤوسُهُم حطام جريشها
                وطويت عن مصر فسيح مراحل
                            ما بين بركتها وبين عريشها
                حتى حفظت على العباد بلادها
                            من رُومها الاقصى إلى أُحبوشها
                فرشت حماة لِوَطء نعلك خدّها
                            فوطئت عين الشمس من مفروشها
                وكذا المعرّة إذ ملكت قيادها
                            دَهِشتَ سروراً سار في مدهوشها
                لا زلت تُنعش بالنّوال فقيرها
                            وتنال أقصى الأجر من منعوشها
وقال بعض الشعراء في عين جالوت:
                هلك الكفر في الشام جميعاً
                            واستجد الإسلام بعد دحوضه
                بالمليك المظفر الملك الاروع
                            سيف الإسلام عند نهوضه
                ملك جاء بعزم وحزم
                            فاعتززنا بسمره وبيضه
                أوجب الله شكر ذاك علينا
                            دائماً مثل واجبات فروضه

خامساً: مقتل سيف الدين قطز:
كان لانتصار قطز في عين جالوت أجمل الوقع ـ على العالم الإسلامي ـ وخصوصاً مصر فقد استعدت لاستقباله، ودقت البشائر بالقلعة وأقيمت الزينات بالقاهرة وأخذت البلاد تنتظر قدوم المظفر سيف الدين قطز، وعندما وصل السلطان إلى بلدة القصير، بقي السلطان بهذه البلدة مع عدد من خواصه، على حين رحل بقية الجيش إلى الصالحية، بإقليم الشرقية بمصر وهناك أقيم الدهليز السلطاني((الخيمة السلطانية))، وفي الوقت نفسه بلغت توتر العلاقات بين سيف الدين قطز، وبين ركن الدين بيبرس، وتجدد الخلاف القديم، وأخذ كل واحد منهم حذره وحيطته، وبات الغريمان يتربص كل منهما بالآخر، ولكن بيبرس البندقداري بما عرف عنه من جسارة ودهاء بادر إلى العمل ضد السلطان، فاتفق مع الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، والأمير سيف الدين بهادر المعزي، والأمير بدر الدين بكتوت الجُكنداري المعزي، والأمير سيف الدين بيدغان الرٌكني، والأمير سيف الدين بلبان الهاروني، والأمير بدر الدين أنس الأصبهاني، فلما قرب إلى القصير بين الغرابي والصالحية، انحرف عن الدرب للصيد، فلما قضى وطره، عاد قاصداً إلى الدهليز، سايره الأمير ركن الدين وأصحابه وطلب منه إمرأة من سبي التتار فأنعم له بها فأخذ الظاهر يده ليقبلها، وكانت تلك إشارة بينه وبين من اتفق معه، فلما رأوه قد قبض على يده، بادره الأمير بدر الدين بكتوت وضربه بالسيف على عاتقه، فأبانه، ثم اختطفه الأمير بدر الدين أنس والقاه عن فرسه، ثم رماه الأمير بهادر المعزي بسهم أتى على روحه، وقيل إن أول من ضربه الأمير ركن الدين بيبرس وهو الصحيح، وذلك يوم السبت الخامس عشر من ذي القعدة، ثم ساروا إلى الدهليز للمشورة بينهم على من يملكوه ويسلموا إليه قيادتهم، فوقع اتفاقهم على الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، فتقدم الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، المعروف بالأتابك، فبايعه وحلف له،ثم بلبان الرشيدي ثم الأمراء على طبقاتهم، ولقب بالملك الظاهر، ثم في الساعة الراهنة قال الأمير فارس الدين أقطاي الأتابك له:لا يتم الملك إلا بدخولك إلى قلعة الجبل، فركب هو والأمير فارس الدين والأمير بدر الدين بيسري وبلبان الرشيدي وقلاوون الالفي وبيليك الخازندار وجماعة من خواصه، وقصدوا القلعة، فلقي في طريقه الأمير عز الدين أيدمر الحلبي نائب السلطنة عند الملك المظفر، وكان خارج للقاء استاذه، فأعلموه بصورة الحال وحلّفوه فحلف وتقدم بين يديه إلى القلعة، فلم يزل على بابها ينتظره حتى وصل إليها فدخلها وتسلمها، وكانت القاهرة قد تزينت لقدوم الملك المظفر، والناس في فرح وسرور بعوده وكسر التتار، فلما أسفر الصبح وطلع النهار وإذا مناد ينادي: معاشر الناس ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس.
1 ـ أسباب مقتل قطز:تنوعت روايات المؤرخين المعاصرين حول الأسباب التي أدت إلى مقتل سيف الدين قطز، ونحاول أن نناقش هذه الأسباب ونبين الأقوى منها:
أ ـ يقول ابن أيبك الدواداري:وحكى لي والدي ـ عن مخدومه سيف الدين بلبان الدوادار الرومي قال: إن يوم المصاف هربت جماعة من الأمراء من خشداشية الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، فلما انتصر الإسلام، تنمر عليهم السلطان المظفر ووبخهم، وشتمهم، وتوعدهم، فأضمروا له السوء، وحصلت الوحشة منذ ذلك اليوم، ولم تزل الاحقاد والضغائن تتراءى في صفحات الوجوه وغمزات العيون، وكل منهم يترقب من صاحبه الفرصة.
ب ـ أما المؤرخ تقي الدين المقريزي:فيقول أن سبب ذلك أن الأمير ركن الدين بيبرس طلب من السلطان المظفر قطز أن يوليه نيابة حلب، فلم يرض، فأضمرها في نفسه، ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
ج ـ أما بيبرس الدواداري: وهو أقربهم إلى الاحداث فيقول: وذلك أنه ((قطز)) رحل من دمشق عائد إلى الديار المصرية وفي نفوس البحرية منه ومن استاذه ما فيها لقتلهما الفارس اقطاي، واستبدادهما بالملك وإلجائهم إلى الهرب والهجاج، والتنقل في الفجاج، إلى غير ذلك من أنواع الهوان التي قاسوها، والمشقات التي لبسوها، وإنما إنحازوا إليه لما تعذر عليهم المقام بالشام، والتناصر على صيانة الإسلام لا لأنهم أخلصوا له الولاء، أو رضوا له الاستيلاء.
                وقد بنيت المرعى على دمن الثرى
                                وتبقى حزازات النفوس كما هي
وقد رجح الدكتور قاسم عبده قاسم السبب الذي ذكره المؤرخ بيبرس الدواداري واعتبره السبب الرئيسي لما حدث، فقد كان سيف الدين قطز أكبر مماليك السلطان عز الدين أيبك، وكان من أهم الذين شاركوا في قتل فارس الدين أقطاي، ومطاردة المماليك البحرية من خشداشية، كما أن البحرية عاشوا سنوات منفين في بلاد الشام، ولم يمر عليهم الوقت دون مشكلات وحروب وسجن ومطاردات، ساهم في بعضها سيف الدين قطز بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن المهم أن نتذكر أن رابطة الخشداشية التي كانت تجمع المماليك، كانت رابطة قوية للغاية، ومن ثم فإن بيبرس ورفاقه من المماليك البحرية كانوا يحملون رغبة الثأر لزميلهم أقطاي من ناحية ولزملائهم الآخرين الذين قتلوا على يد قطز، أو بسببه من ناحية أخرى، فضلاً عما نالهم من الهوان والمذلة في منفاهم من ناحية ثالثة.
وقال الدكتور أحمد مختار العبادي: أما أسباب مصرع قطز فلا شك أنها أعمق بكثير من قصة رفضه نيابة حلب لبيبرس، وأن هذا الرفض لم يعد أن يكون سبباً مباشراً لمقتله عند الحدود المصرية، والواقع أن تلك الاسباب قديمة ترجع إلى أيام السلطان أيبك وتشريده معظم المماليك البحرية الصالحية، وقتله زعيمهم أقطاي، إذ صار مماليك أيبك وهم المعزية ومنهم قطز، أصحاب النفوذ والسلطان في مصر، واستمر العداء بين العزية والبحرية قائماً حتى أغار المغول على مصر، فاضطر المماليك جميعاً إلى الإتحاد بدليل قول العيني أن المماليك البحرية انحازوا إلى قطز المعزي، لما تعذر عليهم المقام بالشام، وللتناصر على صيانة الإسلام، لا لأنهم أخلصوا الولاء له، فلما انتصر المماليك على المغول في عين جالوت، ولم تبق هناك ضرورة للإتحاد، ظهر العداء القديم بين الطائفتين من جديد، وكان من نتائج ذلك مقتل قطز المعزي على يد بيبرس الصالحي، وهذا هو المعنى الحقيقي لما أورده ابن أبي الفضائل تعقيباً على مقتل قطز حين قال: فلحق الناس خوف عظيم من عودة البحرية إلى ما كانوا عليه من الفساد، وروى ابن أياس في هذا الصدد، ولما تم أمر بيبرس في السلطنة، رسم باحضار المماليك البحرية الذين كانوا منفين في البلاد، كما روى في موضع آخر وكذلك المقريزي أن المماليك المعزية حاولوا اغتيال بيبرس، عقب عودته إلى القاهرة، فقتل بعضهم، وسجن ونفي البعض الآخر. وهذه النصوص وأن دلت على شيء، فإنما تدل على أن مقتل قطز كان نتيجة لعداء قديم مستحكم بين المماليك البحرية الصالحية والمماليك المعزية.
2 ـ الطريق إلى عرش المماليك:كان الطريق إلى عرش سلطنة المماليك منذ البداية ـ القتل، وسفك الدماء، فقد اعتلت شجرة الدر العرش بعد اغتيال تورانشاه آخر سلاطين الايوبيين في مصر، كما أنها هي وزوجها عز الدين أيبك لقيا حتفهما بسبب الصراع على السلطة، وبسبب طبيعة الحكم العسكري في دولة سلاطين المماليك، وتطبيقاً لمبدأ الحكم لمن غلب، الذي قام عليه البناء السياسي لهذه الدولة، كان طبيعياً أن يفكر الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري في إزاحة السلطان سيف الدين قطز من طريقه صوب عرش سلطنة المماليك، ورجح الدكتور قاسم عبده قاسم أن بيبرس ظن أنه أحق بالعرش من قطز، لا سيما وأنه صاحب دور كبير في هزيمة الحملة الصليبية السابعة بقيادة الملك لويس التاسع قبل عشر سنوات في المنصورة، كما أنه لعب دوراً كبيراً في هزيمة المغول في عين جالوت، كما أنه كان أول من ألحق بهم هزيمة عندما دمر طليعة الجيش المغولي، ثم طارد فلوله المنسحبة حتى أعالي بلاد الشام، لقد كان بيبرس ابن عصره، وكانت تلك هي الأفكار السياسية السائدة آنذاك، ولم تكن هناك مؤسسات شورية قوية في اختيار الحاكم، وغاب الفقه السياسي في الإسلام المتعلق باختيار السلطان، أو الملك أو الحاكم، لقد حاول السلطان قطز ارجاع الأمر إلى نصابه، ولكنه قتل قبل تحقيق ذلك، وبعد أن أستطاع أن يدحر المغول ويحرر بلاد الشام.
3 ـ نتائج مقتل قطز:انتقلت السلطة إلى القاتل قبل أن تجف دماء المقتول، دون أن يرى كبار أمراء المماليك غضاضة في ذلك، بل إن أتابك العسكر سأل عن القاتل وحينما علم أنه بيبرس قال له ((يا خوند إجلس أنت في مرتبة السلطنة)) وكأن عرش الدولة مكافأة لمن تخلص من السلطان القتيل، وهكذا مرة أخرى ترسخ مبدأ ((الحكم لمن غلب))، ويبدو أن هناك إجماع من المماليك البحرية على زعامة ركن الدين بيبرس، وأما النتائج التي ترتبت على هذه المأساة هي:
أ ـ فكانت على الناحية السياسية تكريساً للقوة والدماء سبيلاً إلى السلطة والعرش وكانت تلك هي ((سنة المماليك في دولتهم)) ولم يحدث طوال مائتي وسبعين عاماً، هي عمر دولة سلاطين المماليك أن وجدنا لهذه السنة تبديلا، لقد كانت المفاهيم السياسية للدولة المملوكية نتاجاً للظروف التاريخية التي خرجت هذه الدولة من رحمها إلى الوجود، ويمكن بلورة هذه المفاهيم السياسية في أن أمراء المماليك اعتقدوا منذ البداية أن عرش البلاد حق لهم جميعاً يفوز به أقواهم وأقدرهم على الإيقاع بالآخرين، وهو الأمر الذي ظهر واضحاً منذ بداية الدولة سواء في مصرع تورانشاه أو عز الدين أيبك وشجرة الدر، ثم تأكد فيما قام به بيبرس عندما اغتال قطز، كما تكرر في سلسلة انقلابات القصر ومؤامرات الحكم طوال سنوات حكم دولة سلاطين المماليك.
ب ـ مرحلة جديدة في تاريخ المماليك:وأما النتيجة الثانية الهامة، فتتمثل في الحقيقة التاريخية القائلة بأن صعود بيبرس على عرش سلطنة المماليك كان بداية مرحلة مهمة في تاريخ الدولة الناشئة جعلت من هذا الأمير الداهية، بقسوته وجبروته وحنكته السياسية وبراعته العسكرية، المؤسس الحقيقي لهذه الدولة((بفضل الله))، ثم انجازاته السياسية والإدارية والعسكرية، فقد كانت السنوات العشر السابقة، مرحلة سيولة سياسية حكم خلالها خمسة من السلاطين، ثم اغتيال ثلاثة منهم، ونجا الاثنان الآخران بسبب صغر سنهما وانعدام خطورتهما، ولكن بيبرس استمر يحكم سبعة عشر عاماً، ومن ناحية أخرى، كانت دولة سلاطين المماليك في السنوات العشر الأولى من عمرها، تفتقر إلى الشرعية وتبحث عن الأمن في مواجهة تهديدات الأيوبيين وجاء إحياء الخلافة العباسية بالقاهرة بمثابة الحل السعيد، لمشكلة الشرعية، على حين كانت معركة عين جالوت هي الحل ـ النافع ـ  لمشكلة الأمن وتهديدات الأيوبيين.
ج ـ زيادة الاعتماد على المماليك: وكانت النتيجة الثالثة لاغتيال قطز في ازدياد اعتماد أمراء المماليك على مماليكهم بحيث يكونون عدتهم في الصراع الذي يمكن أن يحدث في أي وقت، فقد كان الأمراء الكبار وولاة الأقاليم يمتلكون جيوشاً صغيرة من المماليك تتراوح أعدادها ما بين ثلاثمائة، وستمائة مملوك، وربما زادت الأعداد لتصل إلى ثمانمائة مملوك واما السلاطين يهتمون بشراء أكبر عدد ممكن منهم، وبعد عصر بيبرس كان من الممكن أن تصل مشتريات السلطان من المماليك إلى ثمانمائة مملوك بخلاف المماليك الذين ينتقلون إلى خدمته وراثة عن السلطان السابق أو من مماليك كبار الأمراء الذين يتركون الخدمة بالوفاء وغيرها، وهكذا تكرست الطائفية يبين العناصر المملوكية بالشكل الذي ترك آثاره السلبية على البناء السياسي لدولتهم على المدى الطويل، وربما كانت بذرة هذه الطائفية العسكرية الخطرة قد بذرت في حوادث الاغتيال الأولى التي شهدتها الدولة ومنها بطبيعة الحال حادث اغتيال السلطان سيف الدين قطز.
4 ـ قبر سيف الدين قطز وثناء العز بن عبد السلام عليه: يروى أبو المحاسن أن قطز: بقي ملقى بالعراء  فدفنه، بعض من كان في خدمته بالقصير، وكان قبره يقصد للزيارة دائماً …وكان كثير الترحم عليه والدعاء على من قتله، فلما بلغ بيبرس ذلك أمر بنبشه، ونقله إلى غير ذلك المكان وعفى أثره ولم يعف خبره، وقال المقريزي: ودفن بالقصير، فكانت مدّة ملكة أحد عشر شهراً وسبعة عشر يوماً وحمل قطز بعد ذلك إلى القاهرة، فدفن بالقرب من زاوية الشيخ تقي الدين قبل أن تعمر، ثم نقله الحاج قطز الظاهري إلى القارفة ودفن قريباً من زاوية ابن عبود، ويقال إن أسمه محمود بن ممدوح وإن أمه أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه وإن أباه ابن عم السلطان جلال الدين، وإنما سبي عند غلبة التتار، فبيع في دمشق ثم انتقل إلى القاهرة.
إن قيمة الرجال وعظمتهم لا تقاس بطول العمر ولا بكثرة المال، ولا بأبهة السلطان، إنما تقاس بالأعمال الخالدة التي تغير من وجه التاريخ، فمن قطز إذا لم يتمسك بالإسلام ويدافع عنه؟ ولا شك أن التاريخ كان سيُغفل اسمه كما أغفل اسماء الكثيرين الذين كانوا كغثاء السيل، بل كانوا وبالا على شعوبهم وأوطانهم مع حكمهم الفترات الطويلة والأعمار المديدة ولا شك أن حفر الاسم في سجل التاريخ يحتاج إلى رجال عظماء وليس بالضرورة أن يحتاج إلى وقت طويل، فالتغيير يعتمد على نوعية الرجال المغيرِّين، مع مراعاة السنن وفقه المصالح والمفاسد والسياسية الشرعية وفقه قيام الدول وسقوطها ومعرفة مسار حركة التاريخ في منحنياته المتعددة، لقد كان الشيخ العز بن عبد السلام يخشى أن يضيع النصر الكبير وتنهار الأمة من جديد، لقد قال بعد موت قطز وهو يبكي بشدة: رحم الله شبابه، لو عاش طويلاً لجدد للإسلام شبابه، وقال: ما ولي أمر المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز ـ من يعادل قطز ـ رحمه الله ـ صلاحاً وعدلاً. إلا أنني مع محبتي لسيف الدين قطز، واعترفي بجهوده العظيمة في خدمة الإسلام ودخوله نادي عظماء الأمة، فإنني أخالف شيخنا العز بن عبد السلام وأرى أن نور الدين محمود الشهيد فاقه صلاحاً وإصلاحاً وعدلاً وجهاد، ومن أراد التوسع فليراجع كتابي عن عصر الدولة الزنكية لقد كان سيف الدين قطز من خيار ملوك الترك وله اليد البيضاء في القيام لدفع العدو عن ديار المسلمين الشامية والمصرية.
5 ـ ردة فعل المغول لمقتل قطز: لما بلغ المغول نبأ مقتل قطز بتلك الصورة توقعوا حدوث انقسام داخل دولة المماليك، ووجدوا في ذلك فرصة سانحة لهم لمحاولة فرض سيطرتهم على بلاد الشام مرة أخرى، فتجمع المغول الذين كانوا بحران وغيرهما من مدن أقليم الجزيرة، وانضم إليهم من سلم من معركة عين جالوت، وساروا حتى قاربوا البيرة التي كانوا قبل ذلك قد هدموا أسوارها وابراج قلعتها واضحت مكشوفة فادرك الملك السعيد بن بدر الدين لؤلؤ الذي كان والياً على حلب خطورة الموقف فيها، وارسل نجدة من عنده لمساعدة أهل البيرة في الدفاع عن مدينتهم، إلا أن هذه القوة الإسلامية لم تستطع الصمود أمام الجموع المغولية وتراجعت إلى داخل المدينة حيث بعث قوادها إلى الملك السعيد يخبرونه بتفاقم خطر المغول وانهم اتجهوا إلى منبج، ويبدو أن المغول ارادوا عدم اضاعة الوقت في الهجوم على المدن الصغيرة، وعقدوا العزم على مهاجمة مدينة حلب التي وصلوها في يوم الخميس السادس والعشرين من ذي الحجة سنة658هـ/نوفمبر 1260م وبدأوا في مهاجمتها بقيادة الأمير المغولي بايدر الذي استطاع اقتحام المدينة واخراج من بها من المسلمين إلى قرية قرنبيا شرقي حلب وفيها حاول المسلمون توحيد صفوفهم مرة أخرى للوقوف في وجه المغول وايقاف زحفهم إلا أن ذلك التجمع لم يجد نفعاً أمام كثافة الجموع المغولية، واضطر المسلمون بقيادة حسام الدين الجوكندار الذي خلف الملك السعيد على حلب إلى التراجع إلى الخلف لاستدراج المغول إلى مكان أفضل لمنازلتهم فتراجع إلى حماه التي فيها الملك المنصور صاحبها، وفيها رأى توسيع الرقعة على المغول بالتراجع إلى حمص متظاهراً بالضعف أمامهم بهدف اعطاء نفسه فرصة كافية لحشد أكبر عدد من الجيوش الإسلامية فوصله بحمص الملك المنصور صاحب حماه ومعه اخوه الملك الأفضل علي ومعها عساكر حماه، كما انضم إليه في الوقت نفسه الملك الأشرف صاحب حمص وفي حمص اعاد الجوكندار تنظيم جيوش الإسلام مرة أخرى وجهزها بالعدة والعتاد استعداد لمنازلة المغول، الذين وصلوا إلى حمص في المحرم من سنة 659هـ/ديسمبر 1260م حيث دارت بين الطرفين معركة حامية الوطيس عند قبر خالد بن الوليد ـ رضي الله عنهـ بالقرب من الرستن ابلى فيها المسلمون بلاء حسناً رغم قلة عددهم وكثرة عدد المغول، حتى كتب الله لهم النصر على عدوهم، وفر بايدر من المعركة فيمن، سلم من جنده وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وسارع الملك المنصور عقب ذلك الانتصار بالاتجاه إلى سلمية حيث انضموا إلى جموع مغولية كانت نازلة بها، وحاولوا عبثاً مهاجمة حماة مرة ثانية واقاموا عليها يوما واحداً، ثم رحلوا عنهاإلى أفامية، التي كان قد سبقتهم إليها فرقة من جيش المسلمين اقامت بالقلعة، وقامت بتنظيم الهجمات على المغول داخل المدينة التي اضطر العدو إلى ترك افاميه والاتجاه إلى حلب التي ظلوا يحاصرونها مدة من الزمن حتى تمكن الملك الظاهر بيبرس من تثبيت نفسه على عرش الدولة المملوكية في مصر والشام، حيث سارع بارسال جيش كبير أوكل إليه مهمة طرد المغول من بلاد الشام، ولما سمع المغول بمقدم ذلك الجيش دخلهم الهلع والخوف فولوا الأدبار هاربين باتجاه الشرق وطهرت بلاد الشام مرة أخرى من نير الاحتلال المغولي، واستطاع المسلمون أن يتجاوزوا هذه المحن العظيمة وأثبت التاريخ بوقائعه وشواهده، أن هذه الأمة أصلب ما تكون عودة وأشد ما تكون قوة وأعلى ما تكون همة، عندما تحيط بها الشدائد، وتحل بساحتها الأزمات وتتبلد في سمائها الغيوم، فهي حينئذ تستجمع قواها وتستشير كوامنها، وتظهر ذخائرها وتقف في مواجهة الهجمات الغازية، والمحن القاسية، بإيمان صلب، وصبر جميل، وثبات نبيل وتوكل على الله حتى يجعل الله لها من عسرها يسراً ومن ضيقها فرجاً، ومن مأزقها مخرجاً ومن ظلام ليلها صبحاً مشرقاً ونهاراً مضيئاً، وبهذا أثبتت الأمة عراقتها وأصالتها وأنها قادرة على أمتصاص الهزائم واجتياز المحن والشدائد العظام والوصول إلى بر الأمان في النهاية بسلام.

سادساً: أسباب إنتصار المسلمين في عين جالوت:
1 ـ القيادة الحكيمة: أكرم الله الأمة في تلك الفترة التاريخية الحرجة، بالسلطان سيف الدين قطز وكان رجلاً صالحاً، كثير الصلاة في الجماعة، ولا يتعاطى الشرب ولا شيئاً مما يتعاطاه الملوك، وكان شجاعاً وبطلاً، كثير الخير، ممالئاً للإسلام وأهله وهم يحبونه، وكان مقداماً حازماً حسن التدبير، وكانت الأمة في أشد الحاجة لقيادة حكيمة، تتصف بصفات فذة، فقد جاءت مواهبه موافقة لحاجات الأمة، شهد معارك كثيرة مع الأيوبيين مما أتيح له خبرة في الحروب وكان مهيأ نفسياً منذ نعومة أظفاره في أن يكون قائداً فذاً، يشار إليه بالبنان، ويكون صاحب شأن في مجريات الأحداث في مصر والشام، وكان يعتز بعقيدته الإسلامية ويفاخر بها وكان يحمل الضغينة والحقد على المغول الذين أذاقوا خوارزمشاه ومن معه شراً ووطأوا بلادهم وساموهم سوء العذاب، وكان له من الصفات الجسمية ما يؤهله لأن يكون قائداً، فهو قوي البنية، مستدير الوجه، عريض الكفين، ممتلئ الجسم، أشقر، كث اللحية، وكان من البارزين في الفروسية والحاذقين في إستخدام الرمح، فإذا أتاه الخصم من الخلف رمى الرمح أمامه بقدر ثلث حتى إذا كان الرمح بين كتفي قطز أبطله وغرز رمحه في صدره لا محال، ولما داهم الخطر الأرض الشامية والمصرية وتحرك المغول بجيوشهم لكي يقضوا على المماليك إتخذ قطز حينذاك عدة إجراءات دفاعية منها: الترحيب بالهاربين من المماليك، وتناسيه الضغائن والأحقاد والخلافات التي كانت بينه وبينهم، وعزل الملك المنصور علي لصغر سنه وعدم قدرته على ترتيب الأوضاع التي تحتاج إلى حزم ووحدة، وقيادة قادرة على محاربة المغول وذلك سنة 657هـ/1259م، وتحضير الإمكانيات وحشد الطاقات البشرية والاقتصادية ومحاولة التحالف مع الملك الناصر صاحب الشام، وتوحيد القوتين ليكون الجيش أقوى في مواجهة أعدائه، لقد كان سياسياً إستراتيجياً مخططاً أكثر منه مقاتلاً إذ إستطاع في مدة بسيطة أن يسوس بلاد الشام، وأن يحسن إلى الشعب، ويقدم له الأمن والسلامة والاستقرار، وأن يهيء له سبل العيش الكريم، وأن ينظم الأمور الإدارية، ويعين الحكام الإداريين للمدن التي إحتلها واستردها التتار.
إنما يتميز به هذا السلطان هو الإيمان بالله عز وجل، الذي لا يرقى إليه ريب ولا شك، والفطرة السليمة التي جبل عليها وتربى في ظلالها والعيش الصعب الذي أهله للصبر والوقوف أمام الشدائد، وتقلبه في البلاد، والحرمان الذي قاساه في صغره، والتربية التي خضع لها، وتمت عقيدته ورسخ إيمانه، وهذب نفسه، وأصلح باله، وقوى من عزيمة الجهاد، ومن الاستهانة بالموت، ومن الإقدام والعزيمة على قتال المغول، ومن الوثوق الكامل في الله بالنصر عليهم، وقد دلت حروب قطز التي خاضها مع الأيوبيين وضد الأمراء الهاربين إلى الكرك، وضد الأمراء الذين حاولوا إغتصاب السلطة، وفي معركة عين جالوت، على أنه قائد حرب إستراتيجي من الطراز الأول، فهو خفيف الحركة على حصانه، وهو الذي أجاد في القتال بالأسلحة المستخدمة آنذاك، وكان صاحب قرار تميز بالوضوح والدقة، والنظر الثاقب، وجلاء الهدف، وبيان الحقيقة خاصة فيما يتعلق بمعركته هذه مع المغول، وهو حازم وقت الشدة ومصمم على بلوغ النصر مهما كانت العقبات أمامه، ومتفهم لقدرة عدوه ومقدر لقوة الصديق، وكان لكل شيء حسابه، ويدقق المعلومات ويحافظ على مرؤوسيه ويستميلهم بأسلوبه الجذاب، ويتعاون مع أركانه ويعطيهم الثقة، ويمنحهم المساعدة والعطاء، وكان منظماً قاد الكتلة الرئيسية من الجيش في معركة عين جالوت، فنظم الميمنة والميسرة والقلب، وأناط لكل جناح قائداً شجاعاً ونسق الصفوف إلى عدة تراتيب، وجعل الميمنة تتقدم بالإحاطة والميسرة بالإلتفاف والقلب بالتقدم البطيء الزاحف، كما بث الحرس المتحرك على الأجناب والكمائن في المواقع التي لا يتوقعها العدو، مما جعله يتمكن من عدوه، ويقضي عليه بعد أن استدرجه للوقوع في النقطة الميتة التي وقع فيها عدد كبير من قتلى المغول، ولقد حدد قطز قواعد وأسس الشئون الإدارية في الجيش المملوكي، إذ إستطاع أن ينظمها ويحدد خطوطها العريضة بخاصة فيما يتعلق بحركتيها وخفتها، وقد ظهر ذلك جلياً عندما حدد لصاحب حماه كيفية ونوع الإمداد، وعندما أكد على أن الجندي يجب أن يكون خفيف الحركة لا يثقله الطعام الكثير المتنوع فأمر بوضع قطعة من اللحم في مخلاة عسكرية ومما يشار إليه أن قطز كان متديناً عفيفاً، صاحب تقوى وورع، وهذه الصفة أكسبته الشجاعة والإقدام في الحروب، وجعلته يستبسل ويقدم روحه رخيصة، ويستهين بالموت، وبخاصة عندما قتل حصانه، واستمر في القتال دون جواد، وكان في مقدمة الجيش يقاتل عن حمية وعقيدة، وكانت له مواقف إيمانية متميزة منها:
أ ـ وضوح الرؤية ونقا الهوية: كان على إعتقاد جازم بأن النصر لا يكون إلا من عنده سبحانه وتعالى، ولذلك إهتم قطز بالناحية الإيمانية عند الجيش وعند الأمة وعظم دور العلماء وحفز شعبه لحرب التتار من منطلق إسلامي وليس من منطلق قومي أو عنصري، ولخص ذلك في عين جالوت في كلمته العظيمة ((وا إسلاماه)) ولم يقل: ((وا مصراه))، أو ((وا ملكاه))، أو ((وا عروبتاه))، لقد كانت الغاية واضحة والهوية إسلامية تماماً، ووضوح الرؤية ونقاء الهوية كان سبباً من أسباب النصر، بل هو أعظمها على الإطلاق.
ب ـ الدعاء سلاح فتاك: حرص سيف الدين قطز قبل بدء المعركة أن يتأخر الناس في مواجهة الأعداء كما قال: حتى تدور الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم، وكان هذا العمل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده حيث كانوا يحبون أن يكون القتال بعد الزوال، وقد نشبت المعركة وكان القتال شديداً على المسلمين، حتى أن الأعداء كادوا يزيلونهم عن مواقعهم، وكان السلطان قطز يثبت الناس وينحاز إلى بعض نواح الجيش حينما يحس ضعفاً منهم حتى يقوي من عزيمته ويشجعهم، وكان له عدة مواقف شجاعة أثناء المعركة.
جـ ـ الحرص على الشهادة: في معركة عين جالوت، قتل جواده ولم يجد أحداً في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم الجنائب فترجل وبقي واقفاً على الأرض ثابتاً والقتال على أشده في المعركة، وهو في موضع السلطان من القلب، فلما رآه أحد الأمراء ترجل عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها، فامتنع وقال لذلك الأمير: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك ولم يزل كذلك حتى جاءته الوشاقية بالخيل فركب، فلامه بعض الأمراء وقال: يا خونت لم لا ركبت فرس فلان فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك، فقال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان، حتى عدَّ خلقاً من الملوك، فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم ولم يضع الإسلام. فهذا موقف جليل لهذا الأمير البطل دلَّ على تواضعه وعدم إهتمامه بحفظ نفسه في سبيل مصلحة المسلمين العامة، كما يدل على تذكره عظمة الإسلام، والهدف العالي الذي ينشده المؤمنون حقاً وهو إبتغاء رضوان الله تعالى والجنة.
س ـ رؤيا صادقة: كان من أهم الحوافز للأمير سيف الدين قطز على الإقدام على حرب التتار رؤيا صالحة رآها في صغره، وكان يحدث بها أصحابه، حيث قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي: أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتار، وقول النبي صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيه. فهذه الرؤيا الصالحة كانت هي الدافع الأكبر لمظفر الدين قطز بأن يقدم على قتال التتار بعزم وقوة، بعدما نكل عن ذلك كثير من الأمراء أو قاتلوهم بضعف وخوف، لقد دخل مظفر الدين تلك المعركة وهو على يقين قوي وثقة كاملة بنصر الله تعالى له ولجنده، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يدخلون المعارك وهم يحملون في أفكارهم وعد النبي صلى الله عليه وسبم بالتمكين في الأرض، وما دامت هذه الرؤيا قد انتشرت، فإن الذين علموا بها من جنوده وقادته سيكونون على درجة عالية من الثقة واليقين بالنصر، فكان ذلك دافعاً قوياً له إلى بذل كل ما يستطيعون من طاقة في سبيل الله تعالى، وذلك من أسباب النصر على أعدائهم.
ش ـ القدوة: كان سيف الدين قطز متواضعاً وضرب أفضل الأمثلة لجنوده ولأمته في كل الأعمال، وتربية القدوة أعلى آلاف المرات من تربية الخطب والمقالات، كان سيف الدين قدوة في أخلاقه وفي نظافة يده وفي جهاده وفي إيمانه، وفي عفوه، ولم يشعر الجنود أبداً بأنهم غرباء عن قطز، لقد نزل ـ رحمه الله ـ بنفسه إلى خندق الجنود وقاتل معهم فكان حتماً أن يقاتلوا معه.
ع ـ عدم موالاة أعداء الأمة: لم يوال سيف الدين قطز التتار أبداً مع فارق القوة والإعداد بينهما، كما لم يوال أمراء النصارى في الشام مع إحتياجه لذلك، لقد سقط الكثير من الزعماء قبل قطز في مستنقع الموالاة للكفار، وكان منطلقهم في ذلك أنهم يجنبون أنفسهم أساساً، ثم يجنبون شعوبهم بعد ذلك ـ كما يدعون ـ ولايت الحروب، فارتكبوا خطأً شرعياً شنيعاً، بل إرتكبوا أخطاء مركبة، فتجنب الجهاد مع الحاجة إليه خطأ، وتربية الشعب على الخنوع لأعدائه خطأ آخر، وموالاة العدو وإعتباره صديقاً خطأ ثالث، لكن قطز كان واضح الرؤية بفضل الله ثم تمسكه بشرعه سبحانه وتعالى، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (المادة ، آية : 51).
لقد كان سيف الدين قطز من القيادات الحكيمة التي إستطاعت أن تأخذ بعوامل النصر وتتعامل مع أسبابه، وجمع بين الأسباب المادية والمعنوية، وبعد المعركة قرر المظفر قطز مواصلة الجهاد فجمع جيشه وأمراءه ونزل إلى الأرض، ومرغ وجهه بالتراب، وصلى ركعتين شكراً لله على هذا النصر، ووقف فيهم خطيباً، وقال: لقد صدقتم الله الجهاد في سبيله فنصر قليلكم على كثير عدوكم إياكم والزهو بما صنعتم، ولكن اشكروا الله واخضعوا لقوله وجلاله أنه ذو القوة المتين، واعلموا أنكم لم تنتهوا من الجهاد وإنما بدأتموه وإن الله ورسوله لن يرضيا عنكم حتى تقضوا حق الإسلام بطرد أعدائه من سائر بلاده، ويموئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
2 ـ توسيد الأمر إلى أهله: قام سيف الدين قطز بتوسيد الأمور إلى أهلها واهتم بالكفاءة والأمانة، قال تعالى: "إن خير من استأجرت القوي الأمين" (القصص ، آية : 26)، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن إعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إذا ضُيعت الامانة فانتظر الساعة قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة. فإذا تولى الأمور رجال لا يمتلكون كفاءة ولا يتصفون بأمانة، ولم يصلوا إلى مكانهم إلا بواسطة أو قرابة أو رشوة إذا حدث ذلك فاعلم أن النصر بعيد، أما سيف الدين قطز، فقد اسند الأمور إلى أهلها، واختار قادة جيشه وأركانه وكان لهم الفضل بعد الله تعالى في الانتصار على المغول على المستوى التكتيكي والاستراتيجي، ومن أشهر هولاء القادة الذين ساهموا في النصر:
أ ـ الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري: كان في معركة عين جالوت رئيس أركان الجيش المملوكي وقائد الطليعة، طارد بيدرا قائد طليعة الجيش المغولي إلى أرض فامية، ظهرت عليه النجابة والفطنة في سن مبكرة من حياته التي كان فيها مملوكاً وقربه وقدمه الملك الصالح نجم الدين ايوب على الجمدارية الذين كانوا عنده وحضر معه معركة دمياط وأبلى فيها بلاء حسناً ظهرت عبقريته العسكرية وشجاعته الفائقة، لا يزال الكره يملأ قلبه والحقد الكبير على المغول الذين أهانوه وأسروه وعندما كان عمره أربعة عشر عاماً، وباعوه فشروه إلى أن وصل إلى البند قداري الذي سمي الظاهر باسمه، ثم انتقل إلى الملك الصالح وكان من أبطال معركة المنصورة التي كانت من المعارك الحاسمة بين الصليبيين والأيوبيين والتي انتصر فيها الجيش الأيوبي الذي كان في أكثره من المماليك ورأى بنفسه أنه يمكن الانتصار على هؤلاء وغيرهم وأنه بإمكان المماليك، لو نظموا ودربوا، أن ينتصروا على كل طامع وغاصب وقد تميز، بثقافته العسكرية التي كان يتمتع بها، إذ كان شغوفاً بدراسة تاريخ المعارك والحروب وكان يشجع ويحث العسكريين التركيز على هذه الدراسة وبنفس الوقت كان يحب الاساتذة وخبراء الحرب ويميل إليهم ويكرمهم ويهيء لهم الجو الملائم للتدريس وإعطاء مزيد من المعلومات التاريخية العسكرية وكان يقول: سماع التاريخ أعظم من التجارب، وحافظ على التدريب العسكري المتواصل، والاهتمام بكل صغيرة وكبيرة من الامور المتعلقة بالسياسة والحرب، وقد تمتع بصفات قيادية فذة، وكان يأخذ بالحذر والحيطة لكل الامور، واتخاذ المناسب حيال كل حدث أو اعتداء، والخبرة الطويلة والمدة الزمنية الكبيرة التي قضاها في الحروب الحقيقية، كان من الشخصيات القيادية التي ساهمت في تحقيق النصر في عين جالوت.
ب ـ الأمير فارس أقطاي: المستعرب: أتابك الجيش والذي تولى تجهيزه وإعداده والأشراف على كل أموره، وفوق كل ذلك، فقد كان هو بنفسه من الرجال الموثوق بدينهم، واخلاقهم وشجاعتهم وكفاءتهم في الأعداد والتنظيم والتعبئة، كان مقداما شجاعاً وذا معرفة بالحروب وكان قطز يعول عليه كثيراً، وكان هادئاً ورعاً، محباً للخير، مقرباً إلى الملك قطز ومحبوباً من قبل مرؤوسيه.
ج ـ سنجر الحلبي: كان أتابك العسكر في زمن الملك المنصور علي بن آيبك سنة 655هـ/1257م، وكان نائب المظفر قطز في دمشق في أعقاب معركة عين جالوت، ولما جاءه خبر مقتل قطز واستلام الملك الظاهر ومبايعته هرب إلى بعلبك وضيق عليه ثم ألقى القبض عليه وسجن ثم أطلق سراحه وكان على درجة كبيرة من البطولة والشجاعة وقد أبلى بلاءً حسناً في المعركة الفاصلة.
د ـ آقوسي الشمس الأمير جمال الدين: كان جندياً قوياً، وأميراً موصوفاً بالشجاعة والإقدام والجرأة في التنفيذ، وقد كان خشداشيا عند الأمير بدر الدين البيسري، كما خدم عند غيره، وقد ظهرت عليه تطلعات الإرتقاء إلى المناصب العالية، حتى إذا كانت معركة عين جالوت، شكل من وحدته العسكرية، وقصد مقر قيادة المغول، حتى إذا كان قاب قوسين أو أدنى من القائد العام للجيش المغولي انقض عليه وأصابه وطرحه أرضاً وأسر كتبغا، ولما رأى الجيش المغولي وقد أسر قائده خارت قواه وضعفت معنوياته، وبهذا فقد حقق آقوشي نصراً لجيشه، بل كان منعطفاً تاريخياً ثم ولي فيما بعد نيابة حلب وبقي فيها حتى توفي.
هـ ـ هؤلاء كانوا من أهم قادة جيش المماليك الذين حققوا النصر الكبير في عين جالوت، فكانوا من أسباب النصر، لقد إهتم سيف الدين قطز بالكفاءات والقادة الآخرين فتعاطفوا معه والتفوا حوله وتولدت الثقة التي كانت المفتاح الرئيس لتحقيق التمكين في عين جالوت، وكان سيف الدين قطز يملك مقومات الحصول على الثقة من الأمراء والعلماء، وعامة الناس والتي من أهمها:
ـ التعاطف ويتحقق ذلك من خلال الإهتمام بالآخرين والوقوف إلى صفهم فيما يحدث لهم من خير وشر ومشاركتهم همومهم ومشاكلهم ومن خلال ذلك تم كسب ثقة القادة والعلماء وعموم الشعب.
ـ الصدق والصراحة، والكفاءة والعمل الجماعي المنظم والإنتماء للإسلام والقدرة على الاتصال بالآخرين، وكل هذه المقومات ساهمت في كسب الثقة في سيف الدين قطز.
3 ـ الجيش القوي: يعتبر الجيش المملوكي في ذلك الوقت من أقوى الجيوش الإسلامية والفضل لله ثم للملك الصالح أيوب، الذي قام بإصلاح عسكري في الدولة الأيوبية ووضع سياسة جديدة تقوم على إستخدام الأتراك المماليك بشكل لم يسبق له مثيل من قبل إسلافه الأيوبيين مكنته من متابعة حروبه الخارجية مع مملكة بيت المقدس والتصدي للحملة الصليبية السابعة، ورافق ذلك التطوير العسكري الإهتمام الديني به من حيث التربية والتعليم حتى أصبح كتائب المماليك تدافع عن عقيدة الإسلام، وأصبحت الدولة تحتفظ بجيش عقائدي ومنتظم ومدرب أحسن تدريب صناعته الحرب والقتال وأيدي من المهارة والبسالة في قتال القوات الصليبية برغم هزيمتهم في بداية الأمر، وتميز القواد المسلمون بوضع الخطط الحربية الممزوجة بالمكر والخدع الحربية،، وتسلم المماليك المؤسسة العسكرية الأيوبية بعد وصولهم للحكم وحافظوا عليها وقاموا بتطويرها، لقد اشترك الجيش المملوكي في معركة عين جالوت بقياداته العسكرية والتشكيلات المقاتلة النظامية، والجيش المركزي، والجيوش الإقليمية، والجيوش الإحتياطية بما فيها القبال العربية والتركمان والأكراد، وقدر المؤرخون في ذلك العصر أن حجم الجيش المملوكي بالكامل كان في حدود 40 ألف مقاتل، وكان عدد الفرسان في حدود عشرة آلاف فارس وأغلبهم من المماليك وقسم قليل من غيرهم من المشتركين في المعركة، وكان عدد الجيش المغولي في عين جالوت 15 ألف مقاتل، وذلك أن القوة الرئيسية من هذا الجيش تحركت بإتجاه فارس مع هولاكو وتوزعت بعض القوى الأخرى في المناطق التي احتلها مروراً ببغداد وإنتهاء بالشام وكان في إعتقاد القادة المغول إن هذا العدد قادر على تحطيم وتدمير الجيش المملوكي بكل سهولة طالما إن له الخبرة في الحروب وسبق أن انتصر على كل الجيوش التي اشتبك معها، وقد أكد على هذا العدد مجموعة من المصادر التاريخية من أهمها، جامع التواريخ، وتاريخ مختصر الدول، وتاريخ الشهابي، وتاريخ الصليبيين، وتاريخ الزمان،
4 ـ إحياء روح الجهاد: كانت الغاية من التوجيه المعنوي في الجيش المملوكي التذكير بالجهاد والحث عليه والترغيب وشحن النفوس بمقارعة ومحاربة العدو، وصون الديار، والحرمة الإسلامية، القوة المعنوية يركز عليها في كل الجيوش فلا ينتصر جيش بدون معنويات، ولهذا فإن القيادة تسعى دائماً إلى زيادة هذه القوة ورفعها، فهي تحاول أن يكون السلاح حديثاً موثوقاً به والشئون الإدارية بحالة جيدة كالطعام واللباس والحاجيات الأخرى، ولقد أكثر المماليك من الوسائل التي ترفع هذه القوة كالمكافآت والترقيات، وإغداق الأموال، ولكن هذه الوسائل كانت موقتة للسكن الذي لا يلبث أن يعود الجندي إلى حالته الطبيعية ولكن هناك وسيلة كبيرة هي العقيدة التي كانت تأمر بالقتال وأن النتيجة مع المقاتلين في النصر أو الإستشهاد، وقد أشعل هذه الناحية المشايخ في الجيش المملوكي فأججوها، ورفعوا بها إلى المكان الذي يمكن أن يأخذوا من الجندي كامل طاقته وقدرته، وإذا أردنا أن تحمل بواعث المعنويات عند الجيش المملوكي في معركة عين جالوت لخصناها كما يلي:
ـ زيادة حجم الجيش المملوكي وتفوقه على خصمه.
ـ الثقة في الله في تحقيق النصر.
ـ الانتقام من المغول الذين طغوا وبغوا في البلاد التي احتلوها والثأر لكل المظلومين والمقهورين.
ـ العقيدة التي أججت في المقاتلين روح التضحية والفداء وجعلتهم يقدمون على الموت وهو أحب إليهم من الحياة.
ـ الاستعداد الكامل والتحضير لهذه المعركة، وحشد كل الطاقات والإمكانات لنجاحها.
ـ تراخي العدو وعدم إكتراثه وعدم تطبيقه الأسس والمبادئ الحربية وعدم أخذ الحيطة والحذر.
إن الذي يلفت النظر في موضوع المعنويات هو العقيدة، فيها اجتمعوا وتوحدوا على مستوى واحد، وأرضية واحدة، فالمملوكي مهما كانت طبقته وقوميته فهو عقائدي وبهذا الإنتماء قدم الجهاد، وبهذه المزية إندفع بمعنوية لا تقابلها معنوية في الجيش المغولي، فذاك قطز نادي بأعلى صوته ((وا إسلاماه)) فاجتمع له الجيش بفئاته المختلفة بمعنويات عالية، ذلك لأن هذا النداء العقائدي أجج في نفوس القادة والجنود كل إمكانيات المقاتل القتالية، وجعله يقدم الإرادة حباً وتضحية وفداء واستبسالاً، على هذا النداء قاتل الجيش المملوكي قتال رجل واحد، فانتصروا على أكبر قوة في تلك الحقبة.
5 ـ الإعداد وسنة الأخذ بالأسباب: إن إنتصار المسلمين في معركة عين جالوت، لأنهم عرفوا كيف يتعاملوا مع سنة الأخذ بالأسباب، وكان سلاطين المماليك أصحاب فقه عميق بسنة الأخذ بالأسباب، ويظهر ذلك من خلال حرصهم على العمل، وقوله تعالى: "واعدوا لهم من استطعتم من قوة ومن رباط الخيل…" (الأنفال ، آية : 60)، لقد فهم قادة المماليك أن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى على إختلافها وتنوعها، ولقد قاموا بشرح هذه الآية عملياً من خلال التدريب والتعليم والتخطيط والتنظيم…الخ .
لقد إهتم قادة المسلمين في مصر بتأهيل الفارس لكي يدخل الحرب وهو على أتم الإستعداد لها، وكان أغلب الملوك والسلاطين والأمراء من الفرسان المعدودين ومن الأبطال الشجعان الذين على علم بالرماية ولعب الرمح وضرب السيف وخفة الحركة في ساحة الميدان وبفنون القتال وباستخدام الأسلحة المعروفة في ذلك العصر، ولم تقتصر الفروسية على الوجهاء، بل كان أغلب الجنود أو قل جميعهم من الفوارس ومن المدربين على تلك الأعمال التي في نظرهم في مقدمة كل أمر، ومن أبرز الصفات عند الجيش المملوكي، والتي كان يركز عليها عند القادة في وقت الإعداد والتدريب والأخذ بالأسباب:
أ ـ العمومية والشمولية: إن التدريب كان يشمل المؤخرة، كما يشمل المقدمة، والتشكيلات كما في القطعات والوحدات، والفرد كما في المجموعات، والجندي كالقائد، والبحرية كالقوات البرية، ولا يستثنى أحد، وكانت هذه التدريبات تتناول جميع أنواع التدريب وأشكاله وطرائقه، كما تتناول جميع أنواع الأسلحة المستخدمة في القتال، والتدريبات التي تحافظ على اللياقة البدنية، وترفع من قدرة الجندي القتالية، كألعاب السباق والمصارعة، وبهذه العمومية والشمولية توصل الجيش المملوكي إلى توازن قتالي بين صفوف قواته وإختصاصاتها المختلفة، وإلى وحدة الجيش الحربية، وإلى ثقل الضغط والخرق، فإن ركز جهوده الرئيسية إلى قطاع من دفاعات العدو تراه يجمع كل الجهود لهذا القطاع، كما حدث تماماً في معركة عين جالوت عندما خرق الدفاع وإستطاع أن ينفذ من اليمين والشمال وأن يصل خلف القوات المغولية بالرغم من الصمود وثبات الدفاع.
ب ـ ملازمة التدريب العقائدي مع التدريب القتالي: كان المماليك يدربون على أصول العقيدة وأحكامها ونظرتها إلى الجهاد تحت إشراف مدربين إشتهروا بالتربية والتعليم، وكان يعلمونهم القرآن الكريم حتى أن بعض المدربين كانوا يحفظون القرآن الكريم عن ظهر قلب، وكذلك كانت علوم شرعية متنوعة في التفسير والحديث والسلوك واللغة، وبعد نجاحه في أمور العقيدة وإتمامه هذه المرحلة، وبعد أن يكبر، يسلم إلى مدربين في أمور الحرب والقتال، فيتدربون على ركوب الخيل ويتدرجون من السهولة إلى الصعوبة،فيقاتل على ظهرها بسلاح واحد ثم يصل إلى جميع الأسلحة ويتدرب في حالة الركض والوثوب عنها، ثم ينتقل إلى الرمي والدقة في الإصابة على القبق والضرب بالسيف والطعن بالرمح وإستخدام الدبوس ولعب الصولجان، ثم يتدرب على طرق القتال في الميدان وهذه هي أصعب مرحلة في التدريب يخرج من بعدها مقاتلاً قوياً في عقيدته قوياً في قتاله وهو بهذا لا ينقطع عن التدريب العقائدي أو القتالي بل يظل ينمي تدريباته، حتى يصل إلى أعلى مستوى من التدريب المتلازم.
ج ـ التدريب بشكل متواصل: إن المقاتل المملوكي بعد أن ينهي هذه المراحل جميعها لا يتوقف عن التدريب ابدا، وإنما هناك الميادين المتعددة التي يلتقي فيها المقاتلون ليقوموا بتدريباتهم المعتادة ويوصل العسكري المملوكي تدريبه على جميع أنواع القتال وعلى اختلاف الأسلحة في جميع الظروف والأحوال الصعبة، ويبقى من الصباح حتى المساء حتى ولو كان الجو ماطراً أو بارداً أو حاراً، فالمهم عنده تنفيذ البرنامج التدريبي المقرر وكذلك كان التدريب العقائدي فقد كان الموجهون المشايخ كثيرين، وكذلك فإن دور العلم التدريب كانت كثيرة وهي لا تخلو من المقاتلين الذين يلازمون هذه الأماكن التي كانت منتشرة بشكل واسع.
س ـ التخصص في التدريب: لقد شاع التخصص في الوظائف العسكرية في الجيش المملوكي فكل مادة لها مدربون خاصون بها، فالنشاب اختص به قادة عسكريون عرفوا به، فهم يقومون بتدريبه وتعليمه للفوارس المبتدئين، كما كانوا يؤلفون الكتب العديدة التي تبحث في هذا السلاح وقواعده رميه وأصوله وأجزائه التي يتألف منها وعمل كل جزء واستخدامه في الميادين وفي ساحات القتال التي تفرض عليه أن يتخذ أوضاعاً مناسبة لكل سلاح، على أن هذا التخصص زاد من المعارف، وأكسب المدربين والمتدربين الدقة والسرعة وأداء الحركات بكل اتقان وفنية عالية، وكان المدرب يتدرج حسب خبرته وتحصيله للعلوم إلى ثلاث درجات الاولى يكون فيها معلماً والثانية أستاذاً. والثالثة رئيساً، ولا يرقى من درجة إلى درجة أعلى إلا إذا حصل على نجاح في الفحص وقدم شيئاً من مؤلفاته وخبرته في العلوم العسكرية.
لقد دخل المماليك المعركة بعد إعداد وأخذ بالاسباب وحققوا نصراً ساحقاً على المغول، لقد اتخذ قادة المماليك مجموعة من الاجراءات والأعمال كان الهدف منها التأثير على القوات المغولية في عين جالوت وكان من أهم هذه الاجراءات:
ـ الرد الفوري على الأنذار: درج المغول خلال حروبهم السابقة على توجيه إنذار قتالي إلى زعيم البلاد أو قادتها يحمله مراسلون يتضمن الأعمال المجيدة التي قام بها الجيش المغولي والبطش الذي إستخدمه، والشدة التي عامل بها تلك الجيوش التي تصدت له، مذكراً ما حل بالمعاندين من دمار وخراب ثم يدعوهم إلى الاستسلام والطاعة، فإن أبى الخصم ذلك إبتدأت المعركة على أشدها لا تبقي ولا تذر، أما المماليك فقد كانوا يخشون لقاء المغول، ويتوجسون شراً من الاقتتال معهم، وقبل عين جالوت وصل رسل هولاكو وسلموا الإنذار إلى السلطان قطز زعيم البلاد، وفي هذا الإنذار من الوعد والوعيد وأهم ما يتضمنه الإستسلام، أو القتال، أو الجلاء عن البلاد، إلا أن القيادة المملوكية ردت على هذا الإنذار بقتل الرسل وإعلان الحرب والاستعداد للمجابهة.
ـ مجلس الحرب: إنعقد مجلس الحرب في القوات المسلحة المملوكية مباشرة بعد الإنذار، ويتألف من السلطان القائد الأعلى رئيساً، وعضوية كل من أتابك العساكر وشيخ الإسلام وقضاة الإسلام وأمراء المئين، أي قادة التشكيلات المقاتلة وأعيان المشايخ، ومن مهمته النظر في مشروعية الحرب، وتعبئة الجنود، وإعلان النفير العام والتدريب، وتأمين الأسلحة والذخائر، وتحضير الأموال اللازمة وتعيين أمير التجريدة العام والأمراء الذين بصحبته والذين يشكلون أركان الجيش وقادة التشكيلات، ودارت المناقشة التي كان يرأسها قطز، وكان كل عضو يعبر عن رأيه بكل صراحة ووضوح، وكانت المناقشة جادة ومسؤولة، وانفض المجلس على قرار تاريخي، وتحضير قتالي، وإستعداد مع هذا اللقاء الحاسم.
ومن الإجراءات التي تم العمل بها، التحضير والإعداد للحرب، تحشيد الناس، والتوجيهات العملياتية، وتقسيم المحاور القتالية والاهتمام بالطليعة والتحييد والحرص على التفوق الكمي والكيفي والإعتناء والإخفاء والتمويه، وإختيار مكان المعركة وزمانها، ومنطقة التمركز، ومخادعة العدو ونصب الكمائن والمطاردة، والتضليل الإستراتيجي والمحافظة على المقاتل والتقليل من الخسائر، الترتيب القتالي، والتشكيلات القتالية، والقتال الإستراتيجي بالجيوش المتلاقية والبريد الحربي ووسائط الاتصال، ومراعاة ميزان القوى، والتصميم للوصول للهدف، وتحقيق النصر السياسي الذي بدوره يقود إلى النصر العسكري، وغير ذلك من الخطوات المهمة التي ساهمت في تحقيق النصر.
6 ـ عبقرية التخطيط: إشتهر قادة المماليك بالقدرة على التخطيط والتنفيذ، ومعرفة قوانين الحرب والمبادئ التي تلعب دوراً هاماً لبلوغ النصر وإذا أمعنا النظر في معركة عين جالوت بصورة خاصة والمعارك التي تلت بصورة عامة لأدركنا تماماً أن قادة الجيش المملوكي كانوا يطبقون هذه المبادئ إلى أبعد الحدود ولا سيما الظاهر بيبرس الذي إشترك في هذه المعركة بالذات وفي المعارك التي شهدها بنفسه فيما بعد:
أ ـ الاقتصاد في القوى: لم يشأ قطز القائد الأعلى للجيش أن يشرك القوى جميعها في معركة عين جالوت، ولكنه كان يقود القوى الرئيسية للجيش، وبيبرس كان يقود الطليعة، وقد إشتبكت الطليعة ـ وهي جزء من الجيش ـ مع حامية غزة، كما إشتبكت القوة الرئيسية هذه مع الجيش المغولي، كما إشتبكت الميمنة مع ما يقابلها وكذلك الميسرة بأعداد تناسب القوة التي كانت تجاهها، وكان قطز حريصاً كل الحرص على أن يوزع قواته بصورة تتناسب مع القوات التي تقاتل ضده من الجيش المغولي، فقد أفرز قوة للمجنبات وأخرى للالتفاف القريب، وثالثة للبعيد، ورابعة للكمين، وخامسة لإعاقة وجذب قوى العدو، وأما بيبرس فقد أظهر براعة حربية في الاقتصاد في القوى في هذه المعركة عندما قاد الطليعة وقاتل وهو في طريقه إلى عين جالوت، ثم في الكمين الذي نصبه للعدو، ثم في المطاردة التي كان فيها هذا المبدأ واضحاً كل الوضوح، إذ أرسل القوى المناسبة على كل محور من المحاور وعلى كل إتجاه سلكته القوات المهزومة من الجيش المغولي.
ب ـ تجميع وحشد الجيوش على الإتجاهات الرئيسية: لما أراد الجيش المملوكي مقابلة الجيش المغولي في معركة عين جالوت جمع سيف الدين قطز الجيش المصري وأرسل إلى الجيش الشامي وحشد الإمكانات المتاحة، وأرسل في القرى والمدن والبادية يحث الميليشيات الشعبية والتفت هذه التشكيلات جميعاً في أمر المعركة وركزت الجهود الرئيسية نحو تجميع الجيش المملوكي الذي كان يتحرك بإتجاه مرج بن عامر، وسار بإتجاه الساحل بكتلة واحدة، فوحدة الجيش وقتاله ككتلة واحدة متماسكة يساعد الجيش على تحقيق النصر وهو ما قد تم في عين جالوت.
جـ ـ الضغط على الأعداء: كان ذلك واضحاً في معركة عين جالوت عندما تصدى قادة الجيش لقادة الجيش المغولي وثبتوا ثبوت الرواسي أمامه، وأمام كل عنجهيتهم وإنذارهم، ولما تقابلا لم يصمد الجيش المغولي وخرقت جبهته، وتعقبه الجيش المملوكي، ولم ينفصل عنه أبداً حتى إذا أدركه وضع فيه السيف ولحقه إلى أطراف الشام والبادية، وبدأ الضغط واضحاً في عدة أمور، أهمها رفض الإنذار وقتل الرسل، والتفوق العددي الذي أوجس منه خيفة قائد الجيش المغولي وتردد كثيراً في طلب المدد ليكون هناك توازن بين الجيشين، وإجبار الجيش المغولي أن يفتح وأن يقاتل في مكان غير مناسب والسرعة في التحرك وحسم الأعمال القتالية، والصمود القوي أثناء القتال، فما كانت تفتح ثغرة حتى يبادر قطز إلى صدها، وأهم المواقف الصمودية هو الموقف الذي صمدت فيه الجبهة وبخاصة الميسرة الذي كاد أن يتداعى، والهجوم الصاعق الذي أدى إلى قائد الجيش المغولي وقتله، والمطاردة التي ظل فيها الجيش المملوكي على تماس وضغط على الجيش المغولي الذي هرب وظن بهروبه النجاة، ولكنه كان ملاحقاً كيف إتجه ومطارداً أينما سار.
ح ـ تحقيق المفاجأة: أن المفاجأة قد تمت في هذه المعركة بالإخفاء والتمويه وبظهور أعداد قليلة من الجيش أمام القوات المغولية في الأراضي السهلية، إنما قوة الجيش الرئيسية فقد بقيت إلى الخلف وراء التلال والمساتر في مرج ابن عامر، وبصمود الجيش المملوكي وقتاله الذي وضع كتبغا في حيرة وتشكيلة القتال الجديدة/، وبنصب الكمائن، وبث الدوريات أمام تقدم القوات المغولية، وبالتطويق الكامل، وبالصمود أمام هجمات المغوليين المتتالية، بقيت المطاردة التي لم تنته إلا بقتل وتشريد المنهزمين وإبادتهم، وبالشدة والتنكيل والقسوة والحزم والبطش الذي لم يكن يتوقعه المغول أبداً، هذه المفاجأة مكنت الجيش المملوكي من تحقيق النصر.
س ـ وضوح الهدف: كان قطز القائد الأعلى للجيش واضح الهدف، إذ أعلن القضاء على الجيش المغولي وتدميره والانتصار عليه منذ أن أعلن الحرب وقتل الرسل، هذا هو الهدف النهائي الذي سبقه أهداف مرحلية كالتخطيط لهذا القتال، وإستخدام الرجال والأسلحة التي تستطيع أن تقضي على العدو وجمع الأموال والاتفاق مع الصليبيين في عكا على الإلتزام جانب الحياد.
ش ـ المناورة بالقوى والوسائط: وزع قائد الجيش المملوكي القوي الوسائط قبل بدء القتال، وأثناؤه ظهرت ضعف الميسرة، فنقل القوى والوسائط إليها وقواها، وهنا ظهرت عبقرية هذا القائد عندما نقل بعض المجموعات القتالية وسد الثغرة التي أحدثها الجيش المغولي، كما إستطاع أن يقود الإحتياطي الموضوع تحت تصرفه ويناور به ليصل إلى قبالة هذا الخرق فيتصدى للقوات المغولية فيوقفها، كما قام بدور مهم عند نقل بعض القطعات من المجنبات لتقوم مع النسق الثاني بالهجوم المعاكس، وفعلاً كانت السرعة مذهلة في المناورة عندما تحرك هؤلاء الجنود وقاموا جميعاً بهجوم مضاد وقضى على الوحدات والقطعات المغولية التي تسربت خارقة دفاع الجيش المملوكي، وقد ظهرت هذه البراعة أيضاً عندما تلقى قائد الجيش المملوكي معلومات عن قوة العدو وضعفه وأماكن تمركز قوته، فناور بقواته وأعاد تشكيلها، بما يتلاءم مع هذه المعلومات الجديدة.
ع ـ السرعة في الأعمال القتالية: تجاوب القائد الأعلى للجيش المملوكي بمجرد سماعه التهديد المغولي وأعلن التعبئة وعقد مجلس الحرب وإتخذ إجراءات تحضيرية سريعة، فتحركت القوات مستجيبة لهذا النداء الجهادي لملاقاة العدو وسبقه إلى أرض المعركة المناسبة قبل أن يتحرك الجيش المغولي فيهاجم الديار المصرية، ويغزو المماليك في عقر دارهم، ومن الأهمية بمكان أن نذكر دور قائد الطليعة وسرعته، والتفويت على قائد ((الجيش المغولي بيدرا)) كل مبادرة مما أتاح لبيبرس أن يقضي على حامية كبيرة متقدمة قرب غزة من جراء السرعة التي قام بها رئيس أركان الجيش المملوكي.
ص ـ المخابرات العسكرية: بث قطز العيون واعتمد على الأهالي الذين كانوا يتجاوبون مع طلبات الجيش على حقد من المغول وتصرفاتهم، ولهذا فإن المعلومات كانت تصل تباعاً إلى هيئة أركان الجيش المملوكي، في حين أن الجيش المغولي لم يعتمد كثيراً على الاستطلاع، بل إعتمد على قواته وشدته في الحروب ولم يأبه لما يجري حوله، ولم يقم بإجراءات كشف العملاء والجواسيس الذين كانوا يدخلون معسكراته، ويأخذون منها الأخبار ويوصلونها إلى المماليك، وبالإضافة إلى ذلك فإن بيبرس عندما اصطدم بحامية غزة المغولية استطاع أن يتلقى أخباراً صحيحة عن قوة الجيش المغولي وتحركاته واسلحته وقادته، وكذلك فإن قادة الجيش المملوكي ارسلوا حراسات متقدمة عبارة عن مخافر، تصنت وإنذار من مهامها نقل المعلومات عن الانساق وعن تحركات الجيش المغولي، وكان من مصادر الاستخبارات المملوكية، عمال البريد الذين كانوا يكلفون بمهام مخابراتية بالاضافة إلى نقل البريد الحربي، إن هذا الجهاز كان يتحرى أحوال العدو وإمكاناته ومعرفة البؤر والجهات الخطرة من الداخل والتحري من الاعمال الهدامة، أو الاشخاص الذين يقومون بدور العمالة والتجسس على القوات الصديقة وكان يطلق على رئيس هذا الجهاز(( صاحب الخبر والتحري)) الذي كان له خبرة واختصاص، إن للاستخبارات دوراً كبيراً في الحروب الماضية والحاضرة في إحراز النصر، ولقد كانت الاسباب الصحيحة التي تلقاها قادة الجيش المملوكي وبنوا قرارهم على هذه معلومات صحيحة فكان القرار سليماً والنصر محققاً.
7 ـ بعد نظر سيف الدين قطز وسياسته الحكيمة:شعر قطز قبل أن يستلم السلطنة بالخطر على دولة المماليك وبخاصة من قبل المغول الذين دخلوا البلاد واكثروا فيها القتل والعذاب، ولابد له إزاء هذا الخطر أن يتخذ عدة إجراءات سياسية تضمن له النصر على اعدائه الذين لم يلبثوا إلا أياماً معدودات أو شهور حتى يتوجه الجيش المغولي إلى أراضي الشام ومصر، وبدأ التفكك الداخلي واضحاً عند استلام المماليك الاتراك، إذ حكمت إمرأة ولم يوافق الخليفة في بغداد على سلطنتها، وتزوجت فيما بعد من عزالدين أيبك لتحصل على الاعتراف الخليفتي، واحتدم الصراع بينها وبين زوجها أدى إلى قتلهما، واستلم الحكم علي بن أيبك وهو غير قادر على إدارة الحكم لصغر سنه، ولما كان قطز هو نائب السلطان والوصي على الصبي وهو يعلم أنه قادم على معركة فاصلة، أراد لكي تتاح الحرية السياسية والتصرف بالامور العسكرية والسياسية، أن يتخلص من السلطان الصغير، فاستلم الحكم وهذا إجراء سياسي داخلي، اتخذه هذا السلطان بعد أن استلم البلاد وهو مهم بالنسبة للمعركة القادمة، فقد هرب بعض أمراء المماليك البحرية إلى الملك المغيث صاحب الكرك لما رأو أنهم لا يستطيعون أن يؤثرون على المسيرة التي انتهجها قطز لاصلاح البلاد وتحضيرها، هربوا لكي يجدوا الحليف ضد هذا القائد، وحاولوا القتال وزحفوا نحو مصر في سنة 655هـ /1257م، لكن قطز تصدى لهذه المؤامرة وتغلب على الأمراء وأوقع فيهم القتل وردهم على أعقابهم، ولم يمكنهم أبداً من العبث بأمن الدولة وقدرتها  وتصديها للعدو المرتقب، المغولي، وظل صامداً يتابع توجيه السياسة وأصلاح البلاد وتخليصها من الفتن والاضطرابات وتوحيد جبهتها الداخلية، حتى إذا اقتربت معركة عين جالوت وإزداد الخطر رأى أنه من المناسب إعادة الصف بينه وبين الامراء الهاربين الذين حاربوه لتجتمع الكلمة وليستفيد من خبرتهم في الحروب وفي قيادة الجيوش، وهكذا كان الإجماع الداخلي على التصدي للعدو المغولي وتوج هذا الإجماع بقرار مجلس الحرب وبحضور جميع الساسة في البلاد، وتحققت الوحدة الداخلية، وبعد ذلك إهتم بالوضع السياسي الخارجي وعمل على تحييد الصليبيين وعقد معاقدة صلح معهم وإستفاد من المرور بأراضيهم، ولم يقاتل على جبهتين، وقابل المغول في عين جالوت وانتصر عليهم، وإستمرت الأعمال السياسية والإدارية بعد المعركة، فقد أرسل قطز رسلاً إلى بعض الدول يخبرهم فيها عن إنتصاره، كما أعلن ذلك على الشعب في مصر والشام وبذلك ثبت دعائم الأمن والاستقرار السياسي، كما نظم البلاد من الناحية الإدارية، وعين النواب وبسط نفوذه على كل البلاد التي كان يحتلها المغول في الشام. وهذا دليل على بعد نظره وحنكته السياسية.
8 ـ توفر صفات الطائفة المنصورة: لم يظهر سيف الدين قطز من فراغ وإنما سبقته جهود علمية وتربوية على أصول منهج أهل السنة والجماعة، وأصبح ذلك الجيل الذي أكرمه الله بالنصر في معركتي عين جالوت تنطبق فيه كثيراً من صفات الطائفة المنصورة والتي من أهمها:
أ ـ أنها على الحق: وللطائفة المنصورة من ملازمة الحق وإتباعه ما ليس لسائر المسلمين، وهي إنما إستحقت الذكر والنصح وتمسكها بالحق، حين أعرض عنه الأكثرون، ومن الجوانب البارزة في الحق الذي إستمسكت به حتى صارت طائفة منصورة ما يلي:
ـ الاستقامة في الإعتقاد وملازمة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مجانبة البدع وأهلها فهم أصحاب السنة.
ـ الاستقامة في الهدي والسلوك الظاهر والباطن والسلامة من أسباب الفسق والريبة والشهوة المحرمة،
ـ الاستقامة على الجهاد بالنفس والمال والأمر بالمعروف والنهي على المنكر، وإقامة الحق على العاملين.
ب ـ أنها قائمة بأمر الله: وهذه الخصيصة بارزة جداً في الوصف النبوي لهذه الطائفة، فهم أمة قائمة بأمر الله، وقد قامت دولة سيف الدين قطز بأمر الله، من الإعداد، والتخطيط، والدفاع عن الإسلام والمسلمين.
جـ ـ أنها تقوم بواجب الجهاد في سبيل الله: والطائفة المنصورة جاءت الأحاديث النبوية في وصفهم بأنه ((يقاتلون على الحق))، أو يقاتلون على أمر الله، وكان سيف الدين قطز وجيشه قاموا بالجهاد الشرعي في سبيل الله وقتال أعداء الله من الكفار وغيرهم، وتحقق نصر الله لهم في معركة عين جالوت.
د ـ أنها صابرة: فقد خص الله الطائفة المنصورة بالصبر، وقد رأيت كيف تسلح سيف الدين قطز وجنوده بالصبر الجميل في جهادهم ولم تستطع القوة الظالمة أن تخرجهم عن منهجهم وهدفهم الذي يسعون إليه، ولهذا وصف الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم بأنهم: لا يضرهم من كذبهم، ولا من خالفهم، ولا يبالون من خالفهم، وهذه التعبيرات النبوية الكريمة تشير إلى هؤلاء العاملين الذين عرفوا أهدافهم وسلكوا طريقهم فلم ينظروا إلى خلاف المخالفين وعوائق المخزلين ولا تكذيب الأعداء الحاقدين، وكانوا يواجهون كل المتاعب بصبر وثبات ويقين، وهذه الصفات التي جاءت في الأحاديث النبوية لوصف الطائفة المنصورة، قد إنطبقت على جيش سيف الدين قطز والمماليك الذين حققوا النصر في معركة عين جالوت، إن الانتساب إلى الطائفة المنصورة ليس شعاراً ولا هو دعوة وإنما هو تحقيق وعمل وتحقيق للصفات الشرعية لهم، وعمل بالواجبات الشرعية عليهم، فمن حقق الصفات وقام بالواجبات كان من الطائفة المنصورة ولو كان وحده، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون * إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص" (الصف ، آيات : 2 ـ 4).
9 ـ سنة التدرج ووراثة المشروع المقاوم: قدم أمراء السلاجقة الكثير من أجل دحر الصليبيين، وقد حقق عماد الدين زنكي إنجازاً عظيماً بوضعه لمشروع رائد ـ ربما رأى الكثيرون في ذلك الوقت ـ إستحالة تحقيقه على بساطته، وهو مشروعه الوحدوي التحرري والذي حقق إبنه نور الدين جزئه الأول، وحقق صلاح الدين قسماً مهما من جزئه الثاني، ولذلك نرى إنتصار صلاح الدين في حطين تتويجاً لمشروع عماد الدين الوحدوي التحرري، فلولا الله ثم متابعة نور الدين لخطا والده في توحيد الشام ثم توحيد مصر مع الشام، لما تحقق هذا النصر، الذي تم بفضل الله ثم جهود التوحيد التي قامت على عقيدة الإسلام الصحيحة التي تدعو للوحدة الإسلامية التي لا تفرق بين جنس أو لون، أو طائفة، وإنما جمعتهم الأخوة في الله والتي لم تفرق بين الأتراك والأكراد والعرب والفرس ولا غيرها من الأمم التي انضوت تحت راية الإسلام، قال الشاعر:
        ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً
                            الشام فيه ووادي النيل سيان

        وإينما ذكر إسم الله في بلد
                            عددت أرجاءه من لب أوطاني

ولقد تفاعلت العوامل التي ساعدت على الوحدة في عهد صلاح الدين مع الزمن والوقت، وخضعت لسنة التدرج وأعطت ثمارها في معركة حطين وتوجت بفتح بيت المقدس، وأصبح المؤمنون فبتوادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها الغزاة من أجل تمزيق أرجاء العالم الإسلامي، فقد نجحوا في تقطيع أراضي المسلمين، ولكنهم لم ينجحوا في تمزيق قلوبهم، وظل المسلم محباً لأخيه المسلم، ولسان حال كل منهم يقول:
        أبا سليمان قلبي لا يطاوعني
                            على تجاهل أحبابي وأخواني
        إذا إشتكى مسلم في الهند أرقني
                            وإن بكى مسلم في الصين أبكاني
        ومصر ريحانتي والشام نرجستي
                            وفي الجزيرة تاريخي وعنواني
        أرى بخارى بلادى وهي نائية
                            وإستريح إلى ذكرى خراسان
        فأينما ذكر إسم الله في بلد
                            عددت ذاك الحمى من صلب أوطان
        شريعة الله لمت شملنا وبنت
                            لنا معالم إحسان وإيمان

إن سلاطين المماليك ساروا على نهج عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين وأخلصوا النية لله وحده وجددوا دعوة الجهاد معاً، فهذا سيف الدين قطز بأقواله وأفعاله يبرهن على ذلك، فبعد معركة عين جالوت وقف خطيباً وقال: لقد صدقتم الله الجهاد في سبيله فنصر قليلكم على كثير عدوكم، إياكم والزهو بما صنعتم، ولكن أشكروا الله واخضعوا لقوله وجلاله إنه ذو القوة المتين، واعلموا انكم لم تنتهوا من الجهاد وإنما بدأتموه، وإن الله ورسوله لن يرضيا عنكم حتى تقضوا حق الإسلام بطرد اعدائه من سائر بلاده، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، والواقع اننا إذا تتبعنا أعمال سلاطين دولة المماليك في هذا المجال ندرك أن الدافع الاساسي لهم كان الجهاد في سبيل الله للذود عن ممتلكات المسلمين، ولما كان ذلك لا يتأتى إلا بتوحيد كلمة المسلمين، فإنهم قد سعوا جاهدين لتحقيق ذلك، فبدأوا جهودهم بتجميع الفلول الإسلامية التي فرت من وجه العدوان المغولي وحشدها داخل الأراضي المصرية، وخرج السلطان قطز على رأس تلك الجموع بعد أن غرس فكرة الجهاد في نفوسها وأشعل الحماسة في صفوفها إلى بلاد الشام وتمكن من كسر المغول في عين جالوت التي تعتبر بحق بداية النهاية للوجود المغولي في بلاد الشام، ترتب عليها إعادة الوحدة مرة أخرى بين مصر والشام، ليمهد الطريق لمن أتى بعده من السلاطين لمواصلة الجهاد ضد المغول والصليبيين، ذلك الجهاد الذي كان يعد في نظرهم فرض عين على كل مسلم لا يقل عن كونه ركناً من أركان الإسلام، وخلاصة القول أن سلاطين المماليك استفادوا من الجهود التراكمية التي سبقتهم وبنوا عليها وجددوا الدعوة للجهاد وتحرير أراضي المسلمين من المشاريع الغازية المغولية والصليبية.
10 ـ الاستعانة بالعلماء واستشارتهم:كانت من القيم الراسخة في دولة المماليك، قيمة العلوم الشرعية وعلماء الدين، فطول أيام الايوبيين في مصر، ومنذ أن رسخ صلاح الدين المذهب السني في مصر بعد قضائه على الدولة الفاطمية، وقيمة العلماء مرتفعة في أعين الناس والحكام على السواء، حتى أنه لما صعدت شجرة الدر إلى كرسي الحكم، وقام العلماء بإنكار ذلك وكتابة الرسائل المعادية للملكة وتحفيز الناس على رفض هذا الأمر، ما استطاعت شجرة الدر ولا أحد من أعوانها أن يوقفوا هذه الحركة الجريئة من العلماء، وكان من طبيعة العلماء في ذلك العصر النزول في ساحات القتال وتحريض الناس على الجهاد كما حدث في الحملة الصليبية السابعة عام 648هـ، وكان من أشهر هؤلاء العلماء العز بن عبد السلام، وكان مقرباً ومحبباً لسيف الدين قطز، وأخذ بترشيده وقتاويه ونفذ ذلك وخصوصاً تلك الفتوى الشهيرة المتعلقة بوجود المال اللازم للإعداد ما يلزم الحرب، فعقد سيف الدين قطز مجلساً للمشورة في قلعة الجبل وحضر قاضي القضاة بدر الدين حسن السنجاري والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكان السؤال حول أموال العامة ونفقتها في العساكر، فقال ابن عبد السلام: إذا لم يبق في بيت المال شيء وأنفقتم الحوائص الذهبية ونحوها من الزينة وساويتم العامة في الملابس سوى آلات الحرب، ولم يبق للجندي إلا فرسه التي يركبها ساغ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء، إلا أنه إذا دهم العدو وجب على الناس كافة دفعه بأموالهم وأنفسهم، وانقضى الاجتماع ويفهم مما تقدم أن المسلمين لم يكونوا يوافقون على فعل شيء أو دفع ضريبة إلا إذا أقرها علماء الإسلام، وأصدروا الفتاوى بجوازها، وهذا يعني الخضوع للشريعة، ومن جهة أخرى فإن السلطان ملتزم بما صدر عن إفتاء العلماء، بل راح الأمراء ورجال الدولة يقدمون ما يملكون وأحضروا ما في بيوتهم من حلي نسائهم وأموالهم، وأقسموا لم يتركوا شيئاً، وذلك طواعية دون إرغام أو تهديد وإنما إستجابة لرأي الشريعة، ولما كانت هذه الأموال لا تقوم بالمطالب إستعان السلطان قطز بالرعية بعد أن تساووا جميعاً، وفرض إجراءات من أجل توفير المال اللازم للحرب، ومن ثم كانت الأموال التي أنفقها المسلمون في حرب التتار في موقعة عين جالوت أموالاً طيبة ساهمت في تحقيق الإنتصار، وكان السلطان سيف الدين قطز يحترم ويقدر وينفذ فتاوى العلماء وكان يستعين بهم ويطلب مشورتهم في النوازل وكان العلماء والفقهاء يقومون بدورهم الكبير في توعية الشعب بالأخطار المحيطة به ويحرضون الناس على طلب الشهادة، والإستجابة لنداء الجهاد، فقد حدث تكامل بين أمراء المماليك والعلماء في مقاومة التتار، فكان ذلك الإنسجام والتعاون المستمر من أسباب النصر في عين جالوت، فبين العلماء أحكام الله تعالى في الجهاد، كيف يتعامل مع أموال العامة، حتى تصبح حلالاً لا ظلم ولا عدوان فيها، مع الإستعداد النفسي لدى السلطان قطز في تنفيذ حكم الله وأثر ذلك على شعور الناس بقيمة العدل التي ساهمت في جعل روح جديدة تسري في كيان الشعب تحت قيادة قطز.

11 ـ الزهد في الدنيا: لما تحدثنا عن أسباب سقوط الدولة الخوارزمية، ذكرنا منها، حب الدنيا وكراهية الموت، وكيف كان حب الدنيا مهيمناً على القيادة والشعب في ذلك الوقت، وقد دبت الهزيمة النفسية في قلوب المسلميين وتعلقوا بدنياهم الذليلة تعلقاً ورضوا بأن يبقوا في قراهم ومدنهم ينتظرون الموت على أيدي الفرق المغولية، وقد رأينا، محمد بن خوازم، وجلال الدين بن خوارزم والناصر لدين الله، والحليفة العباسي المستعصم بالله، وبدر الدين لؤلؤ، والناصر الأيوبي، كيف كانت نهايتهم أما قطز وشعبه، فقد فطنوا لهذا المرض، وزهدوا في الدنيا وكان سيف الدين قطز قدوة ومثلاً حياً بين الناس، فقد باع ما يمتلكه ليجهز جيوش المسلمين المتجهة لحرب التتار، ولم يطمع في كرسي الحكم، بل عرض القيادة على الناصر يوسف الأيوبي على قلة شأنه، إذا قبل بالوحدة بين مصر والشام، ولم يطمع في استقرار عائلي أو إجتماعي أو أمن أو أمان، فكرس حياته للجهاد والقتال، على صعوبته وخطورته، ولم يطمع في أن يمتد به العمر، فخرج على رأس الجيوش بنفسه ليحارب التتار في حرب مهلكة، ولا شك أنه يعلم أنه سيكون أول المطلوبين للقتل، ولا شك أنه يدرك كذلك أنه إذا لم يخرج بنفسه، وأخرج من ينوب عنه فإن أحداً لن يلومه؛ لأنه الملك الذي يجب أن يحافظ على نفسه لأجل مصلحة الأمة لكنه اشتاق بصدق إلى الجهاد وتمنى الموت بين صليل السيوف وأسنة الرماح فزهد في هذه الدنيا الفانية وكانت حياته تطبيقاً عملياً كاملاً لكلماته، فكانت تلك الكلمات قد سرت روحها في أركان حربه وجنوده وشعبه وتحركوا لأحد الحسنين فكان النصر الكبير في معركة عين جالوت.
12 ـ صراعات داخل بيت الحكم المغولي: وصلت الأخبار إلى هولاكو بوفاة أخيه الأكبر منكو خان وتنازع أخوية الآخرين "قوبيلاي" "واريق بوقا" على ولاية عرش المغول فوجد نفسه مضطراً إلى العودة إلى مقره الرئيسي مدينة مراغة ليكون قريباً من مجرى الحوادث في منغوليا، ليسهل عليه التحرك إلى منغوليا إذا دعته الحاجة إلى ذلك، وبالرغم من أن هولاكو هو الابن الرابع لتولوي خان من حقه أن ينافس أخويه في تولي ذلك المنصب، غير أنه لم يولي ذلك المنصب اهتماماً، ولعل ذلك راجع إلى ما تهيأ له من النجاح والظفر في ايران والعراق والشام، فضلاً عن خوفه من ازدياد هوة الخلاف وتعقيد الأمور ولكنه في الوقت نفسه كان يرى أن أخاه قوبيلاي أجدر بتولي العرش من أخيه الآخر ارقيق بوقا وحرص على أن يحضر الانتخابات ليزكي ترشيح أخاه قوبيلاي خاناً أعظم للمغول ومن ناحية أخرى لاننسى ما كان من ازدياد العلاقات سوءا بين هولاكو وابناء عمومته خانات القبيلة الذهبية "القبجاق"، الذين باتوا يهددون ممتلكاته ـ وهذا صرفه عن مدّ الامدادات اللازمة للمغول في بلاد الشام، وكذلك لم يستطع قيادة جيش كبير للانتقام من هزيمة معركة عن جالوت ورد الاعتبار والهيبة للمغول ـ إذ أن بركة خان زعيم القبيلة الذهبية كان يميل إلى المسلمين في الوقت الذي كان هولاكو وحاشيته يعملون جاهدين على ارضاء المسيحيين واستمالتهم إليهم وتطور الأمر ببركة إلى أن اعتنق الدين الإسلامي، وتعرض هولاكو للتقريع والتأنيب من قبله وصار بركة يتهدده بالانتقام منه بسبب ما اقترفه من مذابح راح ضحيتها ألوف من المسلمين، وما أنزل بهم من دمار وخراب، فضلاً عما تعرض له الخليفة العباسي من الهوان وتجرئه على قتله، لذلك كثيراً ما وقع الاحتكاك بينهما عند جبال القوقاز التي تفصل بين نفوذهما، بل ذهب بركة خان إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث قام باضهاد القبائل المسيحية التي كانت تسكن تلك المناطق وذلك رداً على ما سلكه هولاكو من سياسية تعسفية تجاه المسلمين بقصد اذلالهم، ويبدو أن هولاكو أراد أيضاً حداً لتصرفات التهكم والانتقام التي مارسها بركة ضده، فحاول أن يفرض سلطانه على الجانب الشمالي لجبال القوقاز، ولكن بركة أعد لذلك الأمر عدته، واستطاعت جيوشه أن تنزل بجيوش هولاكو هزيمة ساحقة، وهناك أسباب أخرى ذكرت في دفع هولاكو للعودة إلى عاصمته بالمشرق فإن الذي يهمنا قوله هو أن ذلك الحدث المفاجيء كان تحولاً خطيراً، غير مجرى سياسة المغول التوسعية التي جعلت هولاكو لم يعد إلى فارس بمفرده، بل عاد ومعه جموع من عساكره، وهذا مما ساهم في تحقيق النصر في معركة عين جالوت.
13 ـ سنة الله في أخذ الظالمين والطغاة:
قال تعالى:"ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون" "ابراهيم، آية: 1" وقال تعالى:"إن ربك لبالمرصاد" "الفجر، آية:14" إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، لقد عاش التتار في الأرض فساداً، وتحقق لهم الفوز في غالب معاركهم، واجتاحوا الشرق بأكمله، وتصوروا بعد أن سقطت الشام أمام جحافلهم، أنه ليس أمامهم إلا مصر وبعدها يكونون قد ملكوا أزمة الأمور، وقد انتابهم غرور عظيم مع ظلم وطغيان وأنذر إلى ما جاء في رسالتهم لقطز: .. فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرفق لمن أشتكى، وقتلنا معظم العباد فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم وأي بلاد تحميكم؟ فما من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع والعساكر لقتالنا لا تنفع ودعاؤكم علينا لا يسمع. وهذا يعني الغرور الذي لاحد، وحان وقت الخلاص منهم بقدرة السميع العليم وأراد أن تكون هزيمتهم بل مصرعهم وإنهاء ملكهم في الشام على يد السلطان سيف الدين قطز.
إن الأسباب في انتصار المسلمين في عين جالوت متشابكة ومتداخلة، ويؤثر كل منها في الآخر تأثيراً عكسياً، فالنجاح السياسي، ويؤثر في الجانب الاقتصادي، ويتأثر به وهكذا وما ذكرنا من الأسباب لا يمكننا أن نقول هذه فقط لا مزيد عليها فقد يأتي غيرنا ويزيد عليها، ومطلوب منا التفكر والتأمل والتدبر لنستخرج الدروس والعبر والسنن والقوانين في قيام الدول وسقوطها، وانتصار الشعوب وهزيمتها، ومعرفة صفات قيادة التمكين، وفقهاء النهوض وعوامل صناعة التاريخ لنستخدمها لنصرة الله عز وجل، ودينه القويم قال تعالى:"لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" "يوسف، آية:111".

سابعاً: نتائج وآثار معركة عين جالوت:
ترتب على انتصار المسلمين على المغول في معركة عين جالوت نتائج وآثار كثيرة منها:
1 ـ تحرير بلاد الشام من المغول:كان لوصول خبر انتصار الإسلام في عين جالوت أثر على أهل دمشق وهرب نواب التتار وأصبحت دمشق بدون حكومة لضبط الأمن، وما قام به المسلمون في دمشق من قتل الخونة والعملاء ومن كاد للإسلام وللمسلمين أثناء وجود حكم التتار للمدينة، لم يكن عملاً متطرفاً أو تعصباً ضد النصارى أو اليهود، بدليل أن العقوبات الشعبية لحقت بكل العناصر حتى المسلمين وكما قال المقريزي: ثار أهل دمشق بجماعة من المسلمين كانوا من أعوان التتار وقتلوهم، وهذا دليل على أن ثورة المسلمين كانت ضد الخونة ومن تعاون مع الأعداء وهذا الأمرمن حق المسلمين تأديب من بغى على أهل الإسلام، وبالفعل تمّ تطهير دمشق من المغول واذنابهم والخونة معهم، وواصل الأمير بيبرس البندقداري مطاردة فلول التتار بعد عين جالوت، واستمر المسلمين في تطهير بلاد الشام وفلسطين وشرق تركيا من المغول، ولم يُسمع عن التتار في هذه المنطقة لعشرات السنين، بعد ذلك واختفى القهر والظلم والبطش والتشريد، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأرضهم وأعراضهم.
2 ـ تحقق الوحدة بين الشام ومصر:ومن أهم نتائج هذه المعركة، إعادة الوحدة بين شطري الجبهة الإسلامية، مصر وبلاد الشام، وهي الوحدة التي تعرضت لمحنة التمزق والانقسام منذ مقتل الملك المعظم تورانشاه في المحرم سنة 648هـ والمعلومات التاريخية تفيد أن المظفر قطز كان يدرك أن انتصار المسلمين في عين جالوت لن يؤتي ثماره إلا بتحرير الشام من سيطرة المغول، ومن ثم فإنه جعل هذه الغاية شغله الشاغل، فبمجرد أن تحقق له النصر في عين جالوت، بعث برسالة عاجلة إلى أهل دمشق، يخبرهم ويطمئنهم، وبذل جهده في توحيد الشام بمصر، وعادت الوحدة من جديد وليس ثمة غير الوحدة من طريق في ماضينا وفي حاضرنا، إنه السير على منهج قادة الجهاد، كعماد الدين ونور الدين وجاء صلاح الدين وبنى على جهدهم انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين وحرر القدس وها هي معركة عين جالوت تشد الآصرة مرة أخرى وتمنح المسلمين الأرضية التي سيتحركون عليها عبر العقود القادمة لمجابهة الخصوم، ودفعهم إلى إحدى اثنتين، الإذعان لكلمة الإسلام، أو العودة من حيث جاؤوا.. لقد ملأت المعركة الفراغ المخيف الذي كان يمكن أن يتمخض عن سقوط الخلافة العباسية وتفتت الدويلات الإسلامية كالزنكية والايوبيين والخوارزمية، والسلاجقة، فأتاحت للقيادة المملوكية الشابة أن تقوم بتوحيد الشام ومصر.
3 ـ خمود القوى المناوئة للمماليك:قضى المماليك على ما تبقى من الايوبيين الذين كانت لهم بعض الزعامات داخل المملكة، فقد ارسل السلطان بيبرس في ربيع الآخر سنة 659هـ / شباط 1260م جيشاً إلى الشوبك فاحتلها، وبعد عدة أشهر أرسل جيشاً آخر إلى الكرك لإظهار قوته، وفي شهر ربيع الآخر سنة 661هـ /شباط1262م توجه الملك الظاهر إلى دمشق وأرسل في طلب المغيث ملك الكرك في حيلة إستطاع على أثرها أن يقبض عليه ويسجنه في سجن القاهرة ثم قتله، وسار بنفسه إلى الكرك مع جيش يحتوي على جميع صنوف الأسلحة بما فيها الصناع والوحدات الفنية والهندسية وضرب الحصار على المدينة، فاستسلمت وأعادها إلى حكم المماليك، وقد حدثت ثورات في الكرك ضد الحكم المملوكي إستطاع الظاهر القضاء عليها، ولم يكتف الظاهر بملاحقة الأيوبيين، وسلاطينهم، بل طاردهم وتعقب فلولهم حتى على مستوى جندي في القوات المسلحة، وذلك بتسريح كل أمراء وضباط وجنود وخدم الأيوبيين، وذلك إعتقاداً منه في توظيف الجيش، وجعله مختصراً فقد على أولئك الضباط والجنود الموالين، فأحال على التقاعد الجندي فخر الدين، وتخلص من الأمير سيف بين نجم الأيوبي، وضايق على الدولة البدرية التي كانت تقع في الجزء الشرقي من سوريا، وتضم الموصل، والجزيرة ونصيبين وماردين، وكان على الموصل الملك الصالح ابن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ، وفي نهاية المطاف قضى الملك الظاهر بيبرس على الدولة البدرية وضمها إلى الدولة المملوكية وضغط الجيش المملوكي بشدة على قوى الإسماعيلية الذين كانوا يسكنون في مصياف المنطقة الغربية في حمص وحماه وكانت هذه المنطقة تتميز بالقلاع والحصون، وقبل أن يتهيأ الإسماعيليون للحرب فاجأهم بيبرس بهجوم إستولى في نهايته على مصياف ثم توالت هجماته حتى إستولى على قلاعها، وانتصر عليهم إنتصاراً ساحقاً.
4 ـ إنتصار الإسلام على الوثنية: ليس من المبالغة القول إن عين جالوت شهدت معركة حاسمة على المستويات العسكرية، والسياسية والعقيدية والحضارية عموماً، لقد كان إنتصار المسلمين يعني إنتصار الإسلام على الوثنية، والتحضر على الجاهلية، والقيم على الإنفلات، وفي معركة عين جالوت نشهد المعادلة الواضحة التي لا تمنح جوابها العادل إلا إذا تجمع طرفاها في تكافؤ مقابل، الأخذ بالأسباب، والإيمان الواثق العميق بالله، وبعدالة القضية التي يجاهد المسلمون من أجلها، وبدون تحقق هذا التقابل، فلن يكون نصر أو توفيق، ولن يحتاج الأمر إلى مزيد شواهد أو نقاش، فإن مجرى التاريخ الإسلامي الطويل يعرض علينا عشرات بل مئات وألوفاً من الشواهد على هذا الذي تعرضه علينا واقعة عين جالوت، وهذه شهادة المؤرخ الإنجليزي المعاصر ستيفن رنسيمان في كتابه تاريخ الحروب الصليبية يقول: تعتبر معركة عين جالوت من أهم المعارك الحاسمة في التاريخ، ومن المحقق لو أن المغول عجلوا بإرسال جيش كبير عقب وقوع الكارثة لتيسير تعويض الهزيمة، غير أن أحكام التاريخ حالت دون نقض ما يتخذ في عين جالوت من قرار، فما أحرزه المماليك من إنتصار إنقذ الإسلام من أخطر تهديد تعرض له، فلو أن المغول توغلوا إلى داخل مصر لما بقي للمسلمين في العالم دولة كبيرة شرقي بلادي المغرب، ومع أن المسلمين في آسيا كانوا من وفرة العدد ما يمنع من إستئصال شأفتهم، فأنهم لم يعودوا يألفون العنصر الحاكم ولو إنتصر كتبغا المسيحي، لإزداد عطف المغول على المسيحيين، ولأصبح للمسيحيين في آسيا السلطة لأول مرة منذ سيادة المحن الكبيرة في العصر السابق عن الإسلام، لقد كانت موقعة عين جالوت أول صدمة في الشرق لجيوش المغول وخاناتهم الذن ظن المعاصرون أنهم قوم لا يغلبون.
5 ـ حدث حاسم في تاريخ البشرية: إن إنتصار المسلمين في معركة عين جالوت وما أعقبه من طرد المغول نهائياً من بلاد الشام يعتبر بحق من الحوادث الحاسمة ليس في تاريخ الشام ومصر فحسب، ولا في تاريخ الأمم الإسلامية بمفردها وإنما في تاريخ العالم بأسره، إذ أن ذلك الإنتصار العظيم لم ينقذ العالم الإسلامي وحده، بل أنقذ العالم الأوربي والمدينة الأوربية من شر ذلك الغزو، فلو تم للمغول، إكتساح الأراضي المصرية والنفاذ إلى الشمال الأفريقي لتمكنوا بسهولة من سلوك الطريق التقليدي إلى أوربا عبر صقلية وجبل طارق، لذا فإنه لا يختلف إثنان في أن هذه المعركة تفوق في أهميتها المعارك الحربية الحاسمة في العصور الحديثة.
6 ـ روح جديدة في الأمة: كان لإنتصار المسلمين في معركة عين جالوت من العوامل التي ساهمت على إنتشار الإسلام وقتئذ،فقد بعث هذا الإنتصار روحاً جديدة في المسلمين لا سيما مسلمي فارس الذين إرتفعت روحهم المعنوية وأخذوا يصمدون أمام مناورات المسيحيين وينافسونهم في تبوء مركز الصدارة في دولة المغول في إيران، وصاروا يشرحون للمغول تعاليم الدين الإسلامي حتى كللت متاعبهم بنجاح باهر، أثمر إعتناق المغول في غرب آسيا الدين الإسلامي، بعد أن ثبت لهم صلاحيته لكل زمان ومكان وشموله لكل نواحي الحياة من خلال معاشرتهم لأهله، ولبعده كل البعد عن الخلافات الجوهرية التي إبتلى بها الدين المسيحي وذلك لكون الإسلام خاتم الأديان تكفل الله بحفظه إلى أن يرث الأرض ومن عليها.
وسيأتي الحديث عن دخول المغول في الإسلام مفصلاً بإذن الله تعالى في كتابنا القادم عن الملك الظاهر بيبرس.
7 ـ إنحسار المد المغولي: بعد هزيمة عين جالوت حاول المغول عدة محاولات لإستعادة مجدهم، ورد إعتبارهم وإرجاع سمعتهم الحربية التي تلطخت بالعار مع الجيش المملوكي، فقد شنو عدة غارات وسيروا الحملات العسكرية لكي ينالوا من المماليك، فالحقد يملأ قلوبهم، والانتقام يتميز غضباً في نفوسهم، أنهم كانوا اقوى جيوش العالم، والآن أصيبوا بالضعف والوهن وزالت هيبتهم، وإستطاع المسلمون أن يتغلبوا في عين جالوت على الهزيمة النفسية التي كانوا يعانون منها، وخروج من الإحباط الشديد وعلموا أن الأمل في الله لا ينقطع أبداً، وأنه مهما تعاظمت قوة الكافرين فإنها بلا شك إلى زوال، قال تعالى : "لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد" (آل عمران ، آية : 196 ـ 197).
8 ـ فشل التحالف بين الصليبيين والتتار: ترتب على إنتصار المماليك في عين جالوت أن ضعف أمل الصليبيين في التعاون مع المغول ضد المسلمين وذلك بسبب ظهور قوة دولة المماليك الإسلامية التي تمكنت من إبعاد الخطر المغولي إلى حدود العراق، بل حاول المماليك غزو العراق وإستخلاصه من التتار.
9 ـ إضعاف الوجود الصليبي: كان لإنتصار المماليك في معركة عين جالوت دور كبير في إضعاف بقايا الوجود الصليبي على ساحل بلاد الشام، فالذي لا شك فيه أن الصليبيين أصيبوا بخيبة أمل كبيرة بعد ذلك النصر العظيم والذي حققه المسلمون ضد المغول في هذه المعركة، فسارع زعماؤهم ـ بعد أن أدركوا أن نهايتهم آتية لا محالة ـ بالتقرب إلى السلطان بيبرس، وطلب مراحمه، فعقد معهم معاهدات أملى شروطها بنفسه وقام في الوقت نفسه بإبرام سلسلة من المعاهدات والإتفاقات الودية مع الدول الأجنبية القريبة من بقايا الصليبيين في بلاد الشام، وتمكن من أحكام العزلة على الصليبيين وذلك بحرمانهم من أي معونة خارجية، الأمر الذي عجل بإقتلاع جزورهم نهائياً من ساحل بلاد الشام.
10 ـ مدينة القاهرة: لم تقتصر عين جالوت على النواحي السياسية بل تعدت إلى النواحي الحضارية، حيث جنبت مصر ويلات الغزو المدمر القاهرة لما تعرضت له بغداد ودمشق، وغيرهما من مدن إيران والعراق والشام من الخراب والدمار الذي عطل ما كانت تزخر به هذه المدن الإسلامية من الآداب والعلوم والفنون والمعالم الحضارية، وبقية القاهرة مكاناً هادئاً آمناً يهرع إليه العلماء والأدباء والفنانون حتى إكتسبت عاصمة المماليك مكانة ممتازة في هذا المجال إلى جانب مكانتها السياسية، التي برهنت على ما إكتسبه المماليك المسلمون من هيبة وقدرة في شئون السياسة والحرب، وإتضحت في علاقاتهم الخارجية والدولية الواسعة الإنتشار وفي إصلاحاتهم وإداراتهم الداخلية الحازمة.
11 ـ ميلاد دولة المماليك الفتية: في الوقت الذي كانت قوات الحملة الصليبية السابعة تنزل على شاطيء البحر المتوسط أمام دمياط، كانت جحافل التتار بقيادة هولاكو تطوي بلدان المشرق الإسلامي وتقترب من عاصمة الخلافة العباسية الواهنة في بغداد، وإذا كانت إنتصارات المماليك في المنصورة وفارسكور سنة 648هـ/1250م هي صرخة الميلاد للدولة المملوكية، فإن معركة عين جالوت ـ التي حسرت المد المغولي ـ كانت تأكيداً للدور التاريخي الذي ينتظر دولة سلاطين المماليك، وهو دور القوة الضاربة المدافعة عن العالم الإسلامي، وتمكنت الدولة الجديدة ـ بقيادة السلطان الظاهر بيبرس ـ أن تغير مصير المنطقة في أكثر من إتجاه إذ طاردت فلول المغول وقضت على بقايا الأيوبيين، كما أحاطت بالمستوطنات الصليبية من كل إتجاه، وعلى الرغم من الضجة التي أحدثها المغول في تاريخ المنطقة إلا أن خطرهم على العالم الإسلامي لم يكن كبيراً مثل خطر الصليبيين الذين كان الصراع ضدهم صراع وجود، ويتأكد هذا القرض من خلال الحقيقة القائلة: أن المغول الذين غزو المشرق الإسلامي لم يلبثوا أن إعتنقوا الإسلام، وصاروا من أكثر المدافعين عنه حماسة بعد جيلين فقط من هزيمة عين جالوت.
12 ـ الدور الرمزي للخلافة العباسية: تأكد الدور الرمزي والعاطفي للخلافة العباسية، فقد كان إحياء الخلافة العباسية في القاهرة سنة 659هـ/1261م بمثابة الحل السعيد الذي وجده السلطان الظاهر بيبرس لإضفاء الشرعية على دولته العسكرية التي قامت بدور هائل في تصفية الوجود الصليبي، وقد أثبتت الأحداث طوال عصر سلاطين المماليك أن الخلفاء العباسيين في القاهرة لم يكن لهم من الخلافة سوى إسمها، كما تحددت إقامة معظمهم بحيث كانت أقرب إلى الإعتقال.
13 ـ تطوير الجيش المملوكي وتحديث عتاده وأنظمته: إزداد حجم الجيش بعد معركة عين جالوت وتعددت تشكيلاته القتالية، ففي أعقاب المعركة وفي زمن الملك الظاهر كان هناك ثلاث جيوش، أحدهما في مصر وثانيهما في دمشق وثالثهما في حلب، ولقد أطلق على الجيش الذي يقوده القائد الأعلى جيش الزحف، ويبلغ عدده أربعين ألف مقاتل، وبلغت إحدى التجريدات في عهد الملك الناصر مائة وخمسين ألف مقاتل ثم تطور هذا الجيش، فأصبح يضم قوات مركزية في مصر وقوات إحتياطية ودخل في قوامه جيوش القبائل العربية والتركمان والأكراد، ووصل حجمه إلى ثلاثمائة وسبعة وخمسين ألفاً ، وكذلك فإنه طرأ تطوير كبير على نوعية الأسلحة والاختصاصات المتعددة في الجيش، وتم بناء الجسور والقناطر والترع، كما كان سلاح النفط والنيران في مقدمة الأسلحة التي أصابها التطوير، إذ تنوعت المواد الخارقة وإستخدمت على نطاق واسع وغير ذلك من أنواع الأسلحة.
هذه أهم نتائج وآثار معركة عين جالوت على العالم الإسلامي والإنسانية.







الخلاصة

أهتم الكتاب بجهود المماليك في التصدي للمشروع المغولي، وأنصفهم، وترجم لسيف الدين قطز، ترجمة مفصلة اهتمت بفقه في إدارة الصراع مع المشروع المغولي وقفت مع أسباب انتصار المسلمين في عين جالوت مع نوع من التحليل، واستخرج السنن، واستلهام العبر، والدروس، والتي كان من أهمها، القيادة الحكيمة، ووضح الرؤية والهدف ونقاء الهوية والحرص على الشهادة، وعدم موالاة أعداء الأمة وتوسيد الأمر إلى أهله، والجيش القوي، وأحياء روح الجهاد والأخذ بسنة الأسباب، كملازمة التدريب العقائدي مع التدريب القتالي، والتدريب بشكل متواصل وعبقرية التخطيط وبعد نظر سيف الدين وسياسته الحكيمة وتوفر صفات الطائفة المنصورة في الجيش المملوكي وسنة التدرج ووراثة المشروع المقاوم والاستعانة بالعلماء واستشارتهم والزهد في الدنيا وصراعات داخل بيت الحكم المغولي، وسنة الله في أخذ الظالمين والطغاة سنواصل بإذن الله تعالى دراسة عهد المماليك دراسة شاملة وسيلحق هذا الكتاب، بعض الكتاب حتى نغطي عهد المماليك بإذن الله تعالى، فما كان في هذه المباحث من صواب فهو محض فضل الله علي فله الحمد المنة، وما كان فيه من خطأ فاستغفر الله تعالى، وأتوب إليه، والله بريء منه وحسبي أني كانت حريصاً أن لا أقع في الخطأ وعسى أن لا أحرم الأجر، وأدعو الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب إخواني المسلمين، وأن يذكرني من يقرؤه في دعائه، فإن دعوة الأخ لأخيه في ظهر الغيب مستجابة إن شاء الله تعالى، وأختم هذا الكتاب بقوله تعالى:( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) (الحشر، آية:10) وبقول الشاعر الذي عاصر عهد المماليك (ابن الوردي):
        واتق الله فتقوى الله ما
                        جاوزت قلبَ إمريء إلاَّ وصل
        ليس من يقطع طرقاً بطلاً
                        إنما من يتقِ الله البطل
        واهجر الخمرة إن كنت فتىً
                        كيف يسعى في جِنون من عقل
        صدّقِ الشرع ولا تركن إلى
                        رجل يرصد بالليل زحل
        حارت الأفكار في قدرة من
                        قدْ هدانا سُبُلنا عز وجل
        كتب الموت على الخلق فكم
                        فلَّ من جمع وأفنى من دول
        أين نمرود وكنعان ومن
                        ملك الأمر ووليَّ وعزل
        أين عادٌ أين فرعون ومن
                        رفع الأهرام من يسمع يخل
        أين من سادوا وشادوا وبنوا
                        هلك الكلُّ ولم تغنى القلل
        أين أرباب الحجا أهل النّهى
                        أين أهل العلم والقوم الأُول
        سيعيد الله كلاً منهم
                        وسيجزي فاعلا ما قد فعل
        أيْ بني اسمع وصايا جمعت
                        حكماً خُصَّت بها خير الملل
        أطلب العلم ولا تكسل فما
                        أبعد الخير على أهل الكسل
        واحتفل للفقه في الدين ولا
                        تشتغل عنه بمال أو خَوَل
        واهجر النومَ وحصِّله فمن
                        يعرف المطلوب يحقر ما بذل
        لا تقل قد ذهبت أربابه
                        كل من سار على الدرب وصل
        في ازدياد العلم إرغام العِدى
                        وجمال العلم يا صاحِ العمل
        أنا لا أختار تقبيلَ يدِ
                        قطعها أجمل من تلك القبل
        واترك الدنيا فمن عادتها
                        تخفض العالي وتعلي من سفل

        قيمة الإنسان ما يحسنه
                        أكثر الإنسان منه أو أقل
        إن نصف الناس أعداء لمن
                        ولي الأحكام هذا إن عدل
        قصَّرِ الآمال في الدنيا تفز
                        فدليل العقل تقصير الأمل
        غِبْ وزُرْ غبّاً تزد حباً فمن
                        أكثر الترداد أضناه الملل
        حبك الأوطان عجز ظاهر
                        فاغترب تلْقَ عن الأهل بدل
        فبمكثِ الماء يبقى آسناً
                        وسُرى البدرِ به البدر اكتمل
" سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك"
أهم المراجع والمصادر

1 ـ تاريخ الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، مؤسسة الإعلامي بيروت.
2 ـ تاريخ بيت المقدس في العصر المملوكي، محمد أحمد النظر، دار البداية، عمان الأردن، الطبعة الأولى 2006م ـ1426هـ.
3 ـ تاريخ المغول والمماليك، د.أحمد عودات، جميل بيضون، شحادة الناطور،دارالكتدي ،إربد ، 1990.
4 ـ قيام دولة المماليك الاولى في مصر والشام، أحمد مختار العبادي، دار النهضة العربية، بيروت لبنان.
5 ـ كتاب الروضتين في اخبار الدولتين، لأبي شامة عبد الرحمن اسماعيل، تحقيق د.حلمي أحمد القاهرة سنة 1956م.
6 ـ الفخري في الآدب السلطانية، لابن طباطبا، محمد بن علي، القاهرة سنة 1326 هـ بيروت دار صادر، 1389 هـ/ 1966م.
7 ـ المواعظ والاعتبار للمقريزي، تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر ط القاهرة 1270.
8 ـ تاريخ ايران بعد الإسلام، عباس إقبال، نقله إلى العربية د.محمد علاء منصور، نشر دار الثقافة العربية 1415 هـ 1994م.
9 ـ دولة آل سلجوق للأصفهاني، للبنداري، القاهرة طبعة قديمة 1900م.
10 ـ جنكيز خان قاهر العالم غروسية نقله إلى العربية خالد أسعد عيسى، دمشق 1982م.
11 ـ صبح الأعش في صناعة الإنشا للقلقشندي.
12 ـ أخبار الدولة السلجوقية، تصحيح محمد إقبال لاهور.
13ـ الملك الصالح وانجازاته السياسية والعسكرية، فاطمة زبار الحمداني، كلية الآداب، جامعة بغداد رسالة ما جستير عام 1995م.
14 ـ في التاريخ الأيوبي والمملوكي د.أحمد مختار العبادي مؤسسة شباب الجامعة الإسكنرية.
15 ـ الأيوبيون بعد صلاح الدين أو الحملات الصليبية، الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، على محمد الصلابي.
16 ـ قصة التتار من البداية إلى عين جالوت د.راغب السرجاني مؤسسة اقرأ، الطبعة الأولى 1427هـ ـ 2006م.
17 ـ أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، د.إبراهيم علي شعوط، المكتب الاسلامي، الطبعة السادسة 1408 هـ 1988م.
18 ـ منهج الرسول في غرس الروح الجهادية د.سيد نوح.
19 ـ مصر في عهد بناة القاهرة، ابراهيم شعوط.
20 ـ تاريخ الشعوب الإسلامية، كارل بروكلمان نقله إلى العربية نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت طبعة 14 يناير 2000م.
21 ـ دولة المماليك سمير فراج، مركز الراية للنشر والإعلام.
22 ـ السلطان المظفر سيف الدين قطز، قاسم عبده، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1419هـ ـ 1998م.
23 ـ صفحات مطوية من حياة سلطان العلماء العز بن عبد السلام سليم عيد الهلالي، دار ابن الجوزي الطبعة الأولى 1410 هـ 1990م.
24 ـ العز بن عبد السلام للزحيلي، دار القلم دمشق الطبعة الأولى 1412 هـ ـ 1992م.
25 ـ بيت المقدس والمسجد الأقصى دراسة تاريخية موثقة، محمد محمد حسن شُراب، دار القلم دمشق، الطبعة الأولى 1415 هـ ـ 1994م.
26 ـ تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام وإقليم الجزيرة، محمد سهيل طقوش، دار النفائس الطبعة الولى 1420هـ/ 1999م.
27 ـ تاريخ الحروب الصليبية، محمود سعيد عمران، دار النهضة الطبعة الثانية 1999م.
28 ـ الشرق الأدنى في العصور الوسطى الأيوبيين د.السيد الباز العريني، دار النهضة العربية.
29 ـ السلوك لمعرفة دول الملوك، أحمد بن علي المقريزي، تحقيق محمد مصطفى زيادة، نشر لجنة التاليف والترجمة والنشر القاهرة 1971م دار الكتب القاهرة 1972م.
30 ـ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة المؤسسة المصرية العامة لتأليف والترجمة، ابن تغري بردي جمال الدين أبو المحاسن يوسف.
31 ـ نهاية الأرب في فنون الأدب أحمد عبد الوهاب النويري الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 1395هـ.
32 ـ الجواري والغلمان في مصر في العصرين الفاطمي، والأيوبي نجوى كمال كيرة، مكتبة زهراء الشرق القاهرة، مصر الولى 2007م.
33 ـ كنز الدرر وجامع الغرر، أبو بكر بن عبد الله الدوادراي تحقيق صلاح الدين المنجد القاهرة 1961م.
34 ـ مذكرات جوانفيل، جان جوانفيل، ترجمة د.حسن حبشي، دار المعارف، مصر 1968م.
35 ـ الحروب الصليبية بين الشرق والغرب د.محمد مؤنس عوض، الطبعة الأولى 1999/2000م، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية.
36 ـ شفاء القلوب في مناقب بني أيوب لأحمد إبراهيم الحنبلي، مكتبة الثقافة الدينية، طبعة سنة 1996م،1415هـ.
37 ـ في تاريخ الأيوبيين والمماليك قاسم عبده قاسم طبعة 2007م مزيدة ومنقحة عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية.
38 ـ بدائع الزهور في وقائع الدهور إبن أبي أياس أبي البركات الناصري محمد بن أحمد بن إياس الحنفي الطبعة الأولى 1975م.
39 ـ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، عبد الرحمن الجبرتي القاهرة الطبعة 1958م.
40 ـ الدولة الأيوبية تاريخها السياسي والحضاري د. عرب دعكور، دار المواسم طبعة سنة 2006م بيروت لبنان.
41 ـ في التفسير الإسلامي للتاريخ، نعمان السامرائي مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى 1406هـ/1995م.
42 ـ أيعيد التاريخ نفسه، محمد العبده، الطبعة الثالثة، 1419هـ ـ 1999م.
43 ـ هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس د. ماجد عرسان الكيلاني، الدار السعودية للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1405هـ/1985م، جدة.
44 ـ الجبهة الإسلامية لمواجهة المخططات الصليبية، جبهة الشام وفلسطين ومصر د. ماجد غنيم أبو سعيد، دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى 1428هـ/2007م.
45 ـ السنن الإلهية د. عبد الكريم زيدان، دار الرسالة.
46 ـ الدولة الأموية عوامل الإزدهار، وتداعيات الإنهيار د. على محمد الصَّلاَّبي، دار المعرفة، بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1426هـ/2005م.
47 ـ التفسير الكبير لفخر الدين الرازي.
48 ـ الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد القرطبي، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الخامسة 1417هـ/1996م.
49 ـ رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابن تيمية.
50 ـ تفسير الألوسي روح المعالي في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، إدارة الطباعة بالهند، بدو ذكر سنة الطبع.
51 ـ في التأصيل الإسلامي للتاريخ، عماد الدين خليل.
52 ـ نظام الحكم في الإسلام بين النظرية والتطبيق د. أحمد عبد الله مفتاح، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
53 ـ صحيح البخاري، عبد الله بن محمد بن إسماعيل البخاري أعني به أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية، الرياض 1419هـ/1998م.
54 ـ الضعف المعنوي، وأثره في سقوط الأمم، د. حمد بن صالح السحيباني، كتاب المنتدى، الطبعة الأولى 1423هـ/2002م.
55 ـ دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى في الجهاد ضد الصليبيين خلال الحركة الصليبية د. آسيا سليمان نقلي، مكتبة العبيكان الطبعة الأولى 1423هـ/2002م.
56 ـ تاريخ مصر الإسلامية، زمن سلاطين بني أيوب د. أحمد فؤاد سيد، مكتبة مدبولي القاهرة، 2002م.
57 ـ صلاح الدين الأيوبي للصًّلاَّبي، دار المعرفة، الطبعة الأولى 1429هـ/2008م.
58 ـ السلاطين في المشرق العربي، معالم دورهم السياسي والحضاري د. عصام محمد شباور، دار النهضة العربية طبعة 1994م.
59 ـ شجرة الدُّر قاهرة الملوك، نور الدين خليل دار الكتب المصرية.
60 ـ موسوعة تاريخ مصر، لأحمد حسين.
61 ـ شجرة الدُّر، د. يحي الشامي، دار الفكر العربي، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2004م.
62 ـ ولاية المرأة في الفقه الإسلامي، إعداد حافظ محمد أنور، دار بلنسية، السعودية.
63 ـ تدوين الدستور الإسلامي، أبو الأعلى المودودي.
64 ـ جامع البيان، للطبري، محمد بن جرير الطبري، المكتبةالتجارية، مكة المكرمة 1408هـ.
65 ـ قيام دولة المماليك الأولى للعبادي، أحمد مختار العبادي طبعة 2002م، مؤسسة شباب الجامعة.
66 ـ العدوان الصليبي على بلاد الشام، د. جوزيف نسيم دار النهضة عام 1981م بيروت.
67 ـ العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية، د. منذر الحايك، الطبعة الأولى 2006م الأوائل دمشق سوريا.
68 ـ معاهدات الصلح والسلام بين المسلمين والفرنج، د. يوسف حسن غوانمة، الطبعة الأولى 1415هـ/1995م، دار الفكر.
69 ـ تاريخ القبائل العربية، محمود السيد، مؤسسة شباب الجامعة.
70 ـ تاريخنا بين تزوير الأعداء وغفلة الأبناء، يوسف العظم.
71 ـ سير أعلام النبلاء، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، الطبعة السابعة 1990م بيروت، لبنان.
72 ـ نزهة الأنام في تاريخ الإسلام، لصارم الدين إبراهيم بن محمد بن أبدر العلائي الملقب بأبي دقماق، دراسة وتحقيق سمير طبارة، المكتبة العصرية لبنان.
73 ـ التحفة الملوكية في الدولة التركية بيبرس المنصوري، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى 1407هـ/1987م.
74 ـ شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد دار ابن كثير دمشق، بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ/1991م.
75 ـ المغول د. السيد الباز العريني، دار النهضة العربية، بيروت لبنان، 1406هـ/1986م.
76 ـ سقوط الدولة العباسية د. سعد الغامدي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1401هـ/1981م.
77 ـ العالم الإسلامي والغزو المغولي، إسماعيل الخالدي مكتبة صلاح الدين، مكتبة الفلاح الكويت، الطبعة الأولى 1404هـ/1984م.
78 ـ الحياة السياسية في العراق، د. محمد صالح القزاز، مطبعة القضاء في النجف 1970م.
79 ـ المغول في التاريخ، للدكتور الصياد، دار النهضة العربية، بيروت لبنان.
80 ـ البدايةوالنهاية للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل ابن عمر بن كثير القرشي، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، مركز البحوث والدراسات العربية الإسلامية بدار هجر طبعة أولى.
81 ـ الدعوة إلى الإسلام، أرنولد.
82 ـ المغول والأوربيون والصليبيون، محمود عمران دار المعرفة الجامعية قناة السويس مصر طبعة 2005م.
83 ـ سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث، تحقيق: عزت عبيد الدعاس، حمص الناشر: محمد السيد.
84 ـ فتح القسطنطينية، ترجمة الدكتور حسن حبشي.
85 ـ تفسير ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل، تحقيق عبد العزيز غنيم ومحمد أحمد عاشور ومحمد إبراهيم مطبعة الشعب، القاهرة، مصر.
86 ـ تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي الثاني، د. شوقي.
87 ـ مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري.
88 ـ الغزو المغولي لديار الإسلام، الفريق ركن د. محمد فتحي أمين، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1408هـ/1988م.
89 ـ جنكيز خان، العقيد محمد أسد الله، دار النفائس.
90 ـ حروب المغول، د. أحمد حطيط، دار الفكر اللبناني، الطبعة الأولى 1994م.
91 ـ الدولة العربية الإسلامية في العصر العباسي، د. عبد الجبار ناجي، صلاح عبد الهادي، د. إسماعيل النعيمي، د.مهين مجيد، مركز أسكندرية للكتاب طبعة 2003م.
92 ـ تاريخ المغول عباس إقبال.
93 ـ دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية ج 7 العدد الرابع في 137 مادة جنكيز خان المغول صـ343.
94 ـ العرب والتتار، إبراهيم أحمد العدوي، المكتبة الثقافية، القاهرة 1963م.
95 ـ تاريخ الأدب في إيران من الفردوس إلى السعدي ترجمة إلى العربية الدكتور إبراهيم أمين الشواري القاهرة 1373هـ/1954م.
96 ـ تاريخ العراق بين إحتلالين، عباس العزاوي بغداد 1353هـ/1935م.
97 ـ قضايا العالم الإسلامي ومشكلاته النبراوي، محمد نصر مهنا، منشأة المعارف الأسكندرية، الطبعة 1983م.
98 ـ الدولة الخوارزمية د. نافع العبود.
99 ـ معجم البلدات، شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت الحموي، بيروت، دار صادر 1979م.
100 ـ مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين محمد سالم بن واصل.
101 ـ الدولة الخوارزمية والمغول، حافظ حمدي دار الفكر العربي.
102 ـ الأتراك الخوارزميون، صبري سليم، مكتبة الثقافة الدينية، مصر طبعة 1419هـ/2000م.
103 ـ دولة السلاجقة، حسنين عبد المنعم مكتبة الأنجلو 1975م.
104 ـ السلاجقة في التاريخ والحضارة، أحمد حلمي، دار السلاسل، الكويت، الطبعة 1406هـ/1986م.
105 ـ العبر في أخبار من غبر للذهبي.
106 ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير، بيروت، دار الكتاب العربي، دار صادر سنة 1979.
107 ـ عودة الروح للخلافة الإسلامية، د.محمد صالح محي الدين، دار طويق، السعودية، الطبعة الأولى 1425هـ/2004م.
108 ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، الطبعة الثانية سنة 1959م.
109 ـ تاريخ مختصر الدول، الطبعة الثانية، المطبعة الكاثوليكية بيروت سنة 1308هـ/1890م.
110 ـ سيرة السلطان جلال الدين منكبرتي، محمد أحمد النسوي، تحقيق حافظ أحمد حمدي، دار الفكر العربي، مصر سنة 1953م.
111 ـ كيف دخل التتار بلاد المسلمين، د. سليمان العودة، دار طيبة للنشر، السعودية الطبعة الثانية 1417هـ/1997م.
112 ـ تاريخ بخارى، للنرشخي، أبو بكر محمد بن جعفر، عرّبه عن الفارسية وحققه د. أمين بدوي نصر الله الطرازي دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة.
113 ـ الإعلام للزركي، خير الدين الزركلي، دار العلم، بيروت، الطبعة الثالثة 1389هـ.
114 ـ هارولدلام جنكيز خان، نقله إلى العربية لواء بهاء الدين نوري، باسم: جنكيز خان إمبراطور الناس كلهم، بغداد سنة 1946م.
115 ـ تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، حسين بن محمد البكري، طبعة مصر 1283هـ.
116 ـ مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، سبط ابن الجوزي، الطبعة الأولى حيدر آباد الهند، سنة 1951 ـ 1952م.
117 ـ الدولة المستقلة في المشرق الإسلامي د. عصام الدين عبد الرؤوف الفقي، دار الفكر العربي، القاهرة مصر 1420هـ/1999.
118 ـ جامع التواريخ، رشيد الدين فضل الله الهمذاني، دراسة وترجمة الدار الثقافية للنشر، الطبعة الأولى 1420هـ/2000.
119 ـ العراق بين سقوط الدولة العباسية والعثمانية، عبد الأمير الرفيعي، الفرات الطبعة الأولى 2000م.
120 ـ رجال الفكر والدعوة في الإسلام، أبو الحسن ندوي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى 1420/1999.
121 ـ بنو أمية بين السقوط والإنتحار، د. عبد الحليم عويس، دار الصحوة، دار الوفاء، الطبعة الثالثة 1410هـ/1989م.
122 ـ الفتوحات الإسلامية لبلاد الهند والسند، د. سعد حذيفة الغامدي، مركز دار إشبيلية، الرياض، الطبعة الأولى 1417هـ/1996م.
123 ـ تاريخ المغول منذ حملة جنكيز خان، حتى قيام الدولة التيمورية، عباس إقبال، ترجمة عبد الوهاب عاشوب، المجمع الثقافي أبو طيب 1420هـ.
124 ـ الحوادث الجامعة لابن الغوطي.
125 ـ جهاد المماليك ضد المغول والصليبيين، د. عبد الله سعيد محمد سافر الغامدي، جامعة أم القرى، رسالة دكتوراه.
126 ـ تاريخ مصر لابن ميسر.
127 ـ دولة السلاجقة للصَّلاَّبي، دار المعرفة، بيروت لبنان.
128 ـ وثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي محمد ماهر حمادة، بيروت 1399هـ/1979م.
129 ـ دول الإسلام للذهبي، لأبي عبد الله محمد الذهبي، دار صادر، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1999.
130 ـ المختصر في أخبار البشر، أبو الفداء الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماه، بيروت بدون تاريخ طبع.
131 ـ تاريخ ابن خلدون المسمى، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر ط 1391هـ/1971م.
132 ـ مجالس المؤمنين للششتري، نور الله بن شريف، طهران 1299هـ.
133 ـ مآثر الأنافة في معالم الخلافة، للقلقشندي، تحقيق عبد الستار أحمد الفرج، عالم الكتب، بيروت لبنان.
134 ـ بغداد مدينة السلام وغزو المغول، سلمان التكريتي، مكتبة الشرف الجديد، بغداد 1988م.
135 ـ تاريخ دولتي المرابطين والموحدين للصَّلاَّبي، على محمد الصًّلاَّبي، دار ابن كثير، دمشق ـ بيروت، الطبعة الأولى 1428هـ/2007.
136 ـ دور نور الدين محمود في نهضة الأمة ومقاومة غزو الفرنجة، عبد القادر أحمد أبو صيني رسالة دكتواره معهد التاريخ العربي للتراث العلمي في الدراسات العليا.
137 ـ الدولة العباسية للخضري، محمد الخضري بك، مؤسسة دار الكتاب الحديث، بيروت لبنان 1989م.
138 ـ ذيل مرآة الزمان لليونيني، قطب الدين أبو الفتح موسى بن محمد بن أحمد بن قطب الدين اليونيني البعلبكي، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكة.
139 ـ في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، بيروت ط 11، 1402هـ.
140 ـ مجلة لواء الإسلام العدد الخامس، أبو زهرة.
141 ـ الترف وأثره في الدعاة والمصلحين، محمد موسى الشريف دار الأندلس الخضراء، جدة السعودية، الطبعة الأولى 1424هـ/2003م.
142 ـ أمير المؤمنين المستعصم بالله العباسي، رؤية تصحيحية، يحي محمود بن جنيد، الدار العربية للموسوعات، الطبعة الأولى 2005م/1426هـ.
143 ـ طبقات الشافعية للسبكي، عبد الوهاب علي السبكي، تحقيق عبد الفتاح الحلول وزميله، دار إحياء الكتب العربية القاهرة.
144 ـ فتاوي ابن تيمية، جمع عبد الرحمن قاسم، طبعة الرئاسة العامة للحرمين الشريفين.
145 ـ منهاج السنة، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة.
146 ـ الوافي بالوفيات، تأليف صلاح الدين آيبك الصفدي، تحقيق: هملوت ريتر ـ طبع: دار النشر فرانز ستانير ((ألمانيا)) 1381هـ/1962م.
147 .الحروب الصليبية، أرنست باركر، نقله إلى اللغة د. السيد الباز العريني، دار النهضة العربية، بيروت.
148 ـ النظم الإسلامية، حسن إبراهيم حسن.
149 ـ نحو رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي، عبد العظيم الديب، دار الوفاء، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية 1418هـ.
150 ـ أصداء الغزو المغولي مأمون جرّار، مكتبة الأقصى الطبعة الأولى 1403هـ/1983م.
151 ـ الدولة العثمانية للصَّلاَّبي، على محمد الصَّلاَّبي، دار الإيمان الأسكندرية، الطبعة الأولى 2003م.
152 ـ الإغداق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة لابن شداد، المعهد الفرنسي بدمشق للدراسات العربية 1953م.
153 ـ عقيدة الجمان في تاريخ أهل الزمان، البدر محمود بن أحمد بن موسى، تحقيق محمد أمين وزارة الثقافة القاهرة 1992م.
154 ـ أخبار الأيوبيين لابن العميد، مكتبة الثقافة الدينية بورسعيد ـ بلا.
155 ـ المسلمون من التبعية والفتنة إلى القيادة والتمكين، د.عبد الحليم عويس، دار العبيكان، الطبعة الأولى 1427هـ /2006م.
156 ـ دراسات تاريخية عماد الدين خليل، دار ابن كثير، الطبعة الأولى 1426هـ /2005م، دمشق، بيروت.
157 ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني.
158 ـ نيل الأوطان، للإمام الشوكاني.
159 ـ الروض الزاهر في سيرة السلطان الظاهر، محي الدين عبد الله بن رشيد الدين بن عبد الظاهر، تحقيق عبد العزيز الخويطر، الرياض 1396هـ /1976م.
160 ـ الأدب العربي من الانحدار إلى الازدهار، جودت الركابي دار الفكر المعاصر، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية 1422هـ /2001م.
161 ـ الملك المظفر قطز بن عبد الله المعزي، رحاب عكاوي دار الفكر العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى.
162 ـ مصر والشام في عصر الايوبيين، سعيد عبد الفتاح عاشور، دار النهضة العربية بيروت، لبنان.
163 ـ زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة ج 9، بيبرس الدوادار تحقيق زبيدة عطا.
164 ـ معركة عين جالوت، دراسة في الجيش المملوكي والمغولي، محمد ضاهر وتر، الطبعة الأولى 1409هـ /1989م.
165 ـ الفتوح الإسلامية عبر التاريخ، د.عبد العزيز ابراهيم العمري، مركز الدراسات والإعلام، درا اشبيليا، الطبعة الأولى 1418هـ /1997م.
166 ـ من أجل فلسطين، حسني ادهم جرار، مؤسسة الزيتونة للنشر، الطبعة الأولى 1419هـ /1998م الأردن، عمان.
167 ـ تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، عبد الرحمن بن حسن الجبرتي، دار الجيل بيروت، الطبعة الثانية 1978م.
168 ـ أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، محمد راغب الحلبي، المطبعة العلمية الأولى 1342هـ /1924م.
169 ـ تاريخ ابن الوردي، نعمة المختصر في أخبار البشر، زين الدين عمر بن الوردي، دار المعرفة، بيروت، لبنان 1389هـ /1970م.
170 ـ تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، ماجد عبد المنعم، مكتبة الانجلو المصرية بالقاهرة 1963م.
171 ـ صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبع دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، الطبعة الأولى 1374هـ /1955م.
172 ـ تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، علي محمد الصلابي، دار الصحابة، الشارقة، الطبعة الأولى.
173 ـ سنن سعيد بن منصور.
174 ـ تاريخ مصر، اسكندر عمون، مطبعة المعارف بشارع الفجالة بمصر، الطبعة السادسة 1342هـ /1923م.
175 ـ تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور محي الدين عبد الظاهر، الشركة العربية للطباعة والنشر بالقاهرة 1961م.
176 ـ صفة الغرباء، سلمان العودة، دار ابن الجوزي، الطبعة الثانية 1412هـ /1991م المملكة العربية السعودية.
177 ـ الطائفة المنصورة، سلسلة تصدر عن مجلة البيان.
178 ـ الوحدة الإسلامية بين الأمس واليوم، ابراهيم النعمة، طبعة 1425هـ /2004م، مطبعة الزهراء الحديثة.
179 ـ الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين والمغول في عهد العصر المملوكي، د.فايد حمّا محمد عاشور، جرّوس برس، طرابلس، لبنان، الطبعة الأولى 1995م /1415هـ.
180 ـ الطريق إلى بيت المقدس، د.جمال عبد الهادي محمد، د.وفاء محمد رفعت، الطبعة الثانية 1422هـ /2001م، دار التوزيع والنشر الإسلامية، مصر القاهرة.
181 ـ نهر التاريخ الإسلامي منابعه العليا وفروعه العظمى، د.ابراهيم أحمد العدوي، دار الفكر العربي، القاهرة.
182 ـ ماهية الحروب الصليبية د.قاسم عبده قاسم، ذات السلاسل، الكويت، الطبعة الثانية 1993م.
183 ـ الفقيه والدولة، الفكر السياسي الشيعي، فؤاد ابراهيم، دار الكنوز الأدبية، بيروت، الطبعة الأولى 1998م.
184 ـ التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، د.عبد العزيز الحميدي، دار الدعوة، الإسكندرية، الطبعة الأولى 1419هـ /1998م
185 ـ تاريخ الدولة المغولية في إيران، فهمي عبد السلام عبد العزيز، القاهرة 1981م.
186 ـ تاريخ فاتح العالم، عطا ملك الجويني، نقله عن الفارسية محمد التونجي، دمشق 1985م.
187 ـ الإسلام في آسيا منذ الغزو المغولي، محمد نصر مهنا، الطبعة الأولى 1990 ـ 1991م، المكتب الجامعي الحديث.
188 ـ العراق سياقات الوحدة والانقسام، بشير نافع، دار الشروق، الطبعة الأولى 1427هـ /2006م.
189 ـ أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية، د.ناصر القفاري، دار الرضا الجيزة مصر، الطبعة الثالثة 1418هـ /1998م.
190 ـ جواهر السلوك في أمر الخلفاء والملوك لابن إياس، تحقيق د.محمد زينهم، الدار الثقافية الطبعة الأولى 1426هـ 2006م.
191 ـ عصر الدولة الزنكية، علي محمد الصّلاّبي، دار ابن كثير، دمشق ـ بيروت، الطبعة الأولى 1428هـ /2007م.
192 ـ خلفاء بني العباس والمغول أسقطوا بغداد، تأليف السيد حسن شبّر، دار الملاك، الطبعة الأولى 1421هـ /2001م.
193 ـ دراسات في تاريخ الايوبيين والمماليك د.نعمان محمود جبران، د.محمدحسن العمادي، الطبعة الأولى 2000م.
194 ـ الظاهر بيبرس، بيتر توراو، ترجمة محمد جديد.
195 ـ الطريق إلى القدس د.محسن محمد صالح مركز الإعلام العربي، القاهرة الطبعة الأولى 1424هـ /2003م.
196 ـ مصر في العصور الوسطى، محمود محمد الحويري، الطبعة الثانية 2002م، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات سنة 2002م.
197 ـ التتار والمغول د.محمود السيد مؤسسة شباب الجامعة طبعة 2004م.
198 ـ موسوعة تاريخ العرب، عصر المماليك والعثمانيون، عبد المنعم الهاشمي، دار البحار بيروت 2006م.
199 ـ إدارة الجودة الشاملة في المؤسسات الإعلامية، بالتطبيق على قناة الجزيزة، دار العرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1429هـ /2008م. الشيخ فيصل بن جاسم بن محمد آل ثاني.
200 ـ المظفر قطز، ومعركة عين جالوت، بسام العسلي، دار النفائس، الطبعة السادسة 1408هـ /1988م.
201 ـ دراسات في تاريخ مصر في العصرين الايوبي والمملوكي، سحر السيد عبد العزيز سالم الطبعة 2005م، مؤسسة شباب الجامعة.
202 ـ مصر والشام في عصر الايوبيين والمماليك د.سعيد عبد الفتاح عاشور، دار النهضة العربية.
203 ـ تاريخنا المفترى عليه، يوسف القرضاوي، دار الشروق الطبعة الأولى 1425هـ /2005م.
204 ـ أبطال ومواقف، أحمد فرح عقيلان دار المعراج الدولية، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية 1418هـ /1997م.
205 ـ عين جالوت، فتحي شهاب الدين دار البشير، طنطا، الطبعة الأولى 1418هـ /1998م.
206 ـ الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية، أنور الجندي، دار القلم دمشق، الطبعة الأولى 1418هـ /1998م.
207 ـ ديوان ابن الوردي زين الدين عمر الوردي، دار الآفاق العربية، الطبعة الأولى 1427هـ /2006م مدينة نصر القاهرة.
فهرس الكتاب
                                           
الفصل الأول: قيام دولة المماليك.                                14
المبحث الأول: أصول المماليك ونشأتهم.                            14
أولاً: من هم المماليك.                                    14
    1 ـ نجم الدين أيوب والمماليك.                        16
        أ ـ الصالحية.                                17
        ب ـ ثكنات المماليك الصالحية في جزيرة الروضة.                18
        جـ ـ هل السلطان الصالح هو أول من سمّى المماليك البحرية بذلك؟    18
ثانياً: نظام التدريب والتربية والتعليم للمماليك.                        19
    1 ـ المرحلة الأولى.                                20
    2 ـ المرحلة الثانية.                                23
    3 ـ المرحلة الثالثة.                                23
    4 ـ نظام الأكل والثياب والراحة.                        24
    5 ـ نظام التخرج لإنهاء الدراسة.                        24
    6 ـ لغة المماليك.                                24
    7 ـ رابطة الأستاذية بين المماليك.                        25
    8 ـ رابطة الخشداشية ((أي الزمالة)).                        25
    9 ـ هل هؤلاء أجلاب؟                            26
    10 ـ الكليات العسكرية الحديثة.                        26
    11 ـ الشيخ عز الدين عبد السلام بائع أمراء المماليك.                26
    12 ـ عصر الأفذاذ.                                28
ثالثاً: جهود المماليك في دحر الحملة الصليبية السابعة.                    29
    1 ـ معركة المنصورة.                                30
    2 ـ تورنشاه يقود المعركة.                            30
    3 ـ صور من شجاعة المماليك.                        32
    4 ـ لويس التاسع في الأسر وشروط الصلح.                    32
    5 ـ من أسباب الصليبيين في الحملة الصليبية السابعة.                33
    6 ـ من نتاج الحملة الصليبية السابعة.                        34
        أ ـ إرتفاع شأن ومكانة المماليك.                        34
        ب ـ عجز فرنسا عن تحقيق أهدافها.                    34
    7 ـ مقتل تورنشاه وزوال الدولة الأيوبية.                    34
    8 ـ كيفية مقتل تورنشاه؟                            37
رابعاً: أسباب سقوط الدولة الأيوبية.                            38
    1 ـ توقف منهج التجديد الإصلاحي.                        39
    2 ـ الظلم.                                    42
    3 ـ الترف والإنغماس في الشهوات.                        43
    4 ـ تعظيل الخيار الشوري.                            44
    5 ـ النزاع الداخلي في الأسرة الأيوبية.                        45
    6 ـ موالاة النصارى.                                46
    7 ـ فشل الأيوبيين في إيجاد تيار حضاري.                    47
    8 ـ ضعف الحكومة المركزية.                            47
    9 ـ ضعف النظام الإستخباراتي.                        48
    10 ـ غياب العلماء الربانيين عن القرار السياسي.                49
    11 ـ وفاة الملك الصالح نجم الدين وعدم كفاءة وريثه.                49
المبحث الثاني: سلطنة المماليك بين شجرة الدر وعز الدين آيبك.                50
أولاً: شجرة الدر.                                    50
    1 ـ شجرة الدر أيوبية أم مملوكية؟                        50
    2 ـ سلطانة مصر.                                51
    3 ـ الدعاة لها.                                52
    4 ـ نقش توقيعها.                                52
    5 ـ الإحتفال بتنصيبها.                            52
    6 ـ رفض الخليفة والعلماء وعامة الناس لتولي شجرة الدر السلطة.            53
    7 ـ شجرة الدر تخلع نفسها.                            53
    8 ـ حكم تولي المرأة للولاية العامة.                        54
ثانياً: سلطنة عز الدين أيبك.                                56
    1 ـ الخطر الايوبي والصليبي.                            56
        أ ـ لويس التاسع واستغلال فرصة النزاع بين المسلمين.            57
        ب ـ تردد السفارات بين ملوك مصر والشام ولويس التاسع.        58
    2 ـ معركة بين المماليك والايوبيين.                        59
    3 ـ تحالف مملوكي صليبي.                            59
    4 ـ الخليفة العباسي وسعيه في الصلح.                        60
    5 ـ تمرد القبائل العربية ضد المماليك في مصر.                    61
    6 ـ خطر زملائه المماليك ومقتل الفارس أقطاي.                64
    7 ـ مقتل السلطان أيبك وشجرة الدر.                        66
    8 ـ سلطنة علي بن المعز ثم تولي سيف الدين قطز.                69
    9 ـ ترتيب سيف الدين قطز للأمور الداخلية.                    72
الفصل الثاني: معركة عين جالوت الخالدة.                            74
المبحث الأول: احتلال المغول لبلاد الشام والجزيرة.                        74
أولاً: صمود ميّافارقين.                                    74
    1 ـ آمد بمواجهة التتار.                            74
    2 ـ تحدي ميّافارقين للتتار.                            74
    3 ـ مشروع الكامل لمواجهة التتار.                        75
    4 ـ ردّ الناصر على مشروع الكامل.                        76
    5 ـ سقوط ميّافارقين واستشهاد الكامل.                    76
    6 ـ ماردين.                                    78
ثانياً: السلطان الناصر بين المقاومة والاستسلام.                        79
    1 ـ رد هولاكو على الملك الناصر.                        80
    2 ـ استنجاد الناصر بالمماليك.                            81
    3 ـ سقوط حلب.                                81
        أ ـ الاضطرار إلى التسليم.                        82
        ب ـ هدم أسوار المدينة وقلعتها ومساجدها.                83
        ج ـ غنائم لحلفاء هولاكو من النصارى.                    83
    4 ـ دمشق.                                    84
        أ ـ موقف بيبرس البندقداري.                        84
        ب ـ تسليم دمشق.                            84
        ت ـ تسليم جماة.                            85
        ج ـ موقف النصارى في الشام.                        85
    5 ـ نهاية السلطان الناصر الايوبي.                        87
المبحث الثاني: مقدمات معركة عين جالوت وسير أحداثها.                    88
أولاً: احتلال مصر هدف استراتيجي للمغول.                         89
ثانياً: خطوات سيف الدين قطز لتوحيد الصف الإسلامي.                    89
ثالثاً: رسالة هولاكو إلى سيف الدين قطز.                            94
    1 ـ مجلس شورى حربي.                            95
    2 ـ النفير العام.                                96
    3 ـ قتل سفراء هولاكو.                            97
رابعاً: اليوم الفصل.                                    98
    1 ـ مقدمات الصدام.                                98
    2 ـ تحرك جيوش المسلمين.                            99
    3 ـ معركة غزة.                                99
    4 ـ معلومات استخبارتية مهمة.                            100
    5 ـ الاشتباك مع المغول.                                100
    6 ـ شجاعة القائد المغولي.                                101
    7 ـ تحرير دمشق وبلاد الشام.                                103
    8 ـ وصول سيف الدين قطز إلى دمشق.                        104
    9 ـ ترتيب أمور الولايات الشامية.                            105
    10 ـ موقف هولاكو من الهزيمة.                            105
    11 ـ ما قيل من شعر في عين جالوت.                            106
خامساً: مقتل سيف الدين قطز.                                    108
    1 ـ أسباب مقتل قطز.                                109
    2 ـ الطريق إلى عرش المماليك.                            110
    3 ـ نتائج مقتل قطز.                                    111
    4 ـ قبر سيف الدين قطز وثناء العز بن عبد السلام عليه.                    113
    5 ـ ردة فعل المغول لمقتل قطز.                            114
سادساً: أسباب إنتصار المسلمين في عين جالوت.                            115
    1 ـ القيادة الحكيمة.                                    115
        أ ـ وضوح الرؤية ونقاء الهوية.                            117
        ب ـ الدعاء سلاح فتاك.                                117
        جـ ـ الحرص على الشهادة.                            117
        س ـ رؤيا صادقة.                                118
        ش ـ القدوة.                                    118
        ع ـ عدم موالاة أعداء الأمة.                            118
    2 ـ توسيد الأمر إلى أهله.                                119
        أ ـ الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري.                        119
        ب ـ الأمير فارس أقطاي المستعرب.                        120
        جـ ـ سينجر الحلبي.                                120
        د ـ أقوش الشمس الأمير جمال الدين.                        120
    3 ـ الجيش القوي.                                    121
    4 ـ إحياء روح الجهاد.                                122
    5 ـ الإعداد وسنة الأخذ بالأسباب.                            123
        أ ـ العمومية والشمولية.                                123
        ب ـ ملازمة التدريب العقادي مع التدريب القتالي.                    124
        جـ ـ التدريب بشكل متواصل.                            124
        س ـ التخصص في التدريب.                            125
    6 ـ عبقرية التخطيط.                                    126
        أ ـ الإقتصاد في القوى.                                126
        ب ـ تجميع وحشد الجيوش على الإتجاهات الرئيسية.                127
        جـ ـ الضغط على الأعداء.                            127
        ح ـ تحقيق المفاجأة.                                128
        س ـ وضوح الهدف.                                128
        ش ـ المناورة بالقوى والوسائط.                            128
        ع ـ السرعة في الأعمال القتالية.                            129
        ص ـ المخابرات العسكرية.                            129
    7 ـ بعد نظر سيف الدين قطز وسياسته الحكيمة.                    130
    8 ـ توفر صفاة الطائفة المنصورة.                            131
        أ ـ أنها على الحق.                                131
        ب ـ أنها قائمة بأمر الله.                                131
        جـ ـ أنها تقوم بواجب الجهاد في سبيل الله.                    131
        د ـ أنها صابرة.                                    132
    9 ـ سنة التدرج ووراثة المشروع المقاوم.                        132
    10 ـ الإستعانة بالعلماء وإستشارتهم.                            134
    11 ـ الزهد في الدنيا.                                    135
    12 ـ صراعات داخل بيت الحكم المغولي.                        136
    13 ـ سنة الله في أخذ سنة الظالمين.                            137
سابعاً: نتاج وآثار معركة عين جالوت.                                138
    1 ـ تحرير بلاد الشام من المغول.                            138
    2 ـ تحقق الوحدة بين الشام ومصر.                            138
    3 ـ خمود القوى المناوئة للماليك.                            139
    4 ـ إنتصار الإسلام على الوثنية.                            140
    5 ـ حدث حاسم في تاريخ البشرية.                            140
    6 ـ روح جديدة في الأمة.                                141
    7 ـ إنحسار المد المغولي.                                141
    8 ـ فشل التحالف بين الصليبيين والتتار.                        141
    9 ـ إضعاف الوجود الصليبي.                                141
    10 ـ مدينة القاهرة.                                    142
    11 ـ ميلاد دولة المماليك الفتية.                            142
    12 ـ الدور الرمزي للخلافة العباسية.                            143
    13 ـ تطوير الجيش المملوكي وتحديث عتاده وأنظمته.                    143
الخلاصة                                                144
أهم المراجع والمصادر                                        147
فهرس الكتاب
المؤلف في سطور
ـ ولد في مدينة بنغازي بليبيا عام (1383هـ/1963م).
ـ حصل على درجة الإجازة العالية (الليسانس) من كلية الدعوة وأصول الدين من جامعة المدينة المنورة بتقدير ممتاز. وكان ترتيبه الأول على دفعته عام (1413هـ/1414هـ ـ 1992/1993م).
ـ نال درجة الماجستير من جامعة أم درمان الإسلامية في السودان عام 1996م وكانت الرسالة العلمية: في الماجستير: ((الوسطية في القرآن الكريم))، وأما الدكتوراه فكانت: ((فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم)) عام 1999م.
ـ البريد الإلكتروني abumohamed2@maktoob.com

كتب صدرت للمؤلف:
1ـ السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث.
2ـ سيرة الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
3ـ سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
4ـ سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
5ـ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
6ـ سيرة أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب. شخصيته وعصره.
7ـ الدولة العثمانية: عوامل النهوض والسقوط.
8ـ فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم.
9ـ تاريخ الحركة السنوسية في إفريقيا.
10ـ تاريخ دولتي المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي.
11ـ عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين.
12ـ الوسطية في القرآن الكريم.
13ـ الدولة الأموية، عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار.
14ـ معاوية بن أبي سفيان، شخصيته وعصره.
15ـ عمر بن عبد العزيز، شخصيته وعصره.
16ـ خلافة عبدالله بن الزبير.
17ـ عصر الدولة الزنكية.
18ـ عماد الدين زنكي.
19ـ نور الدين زنكي.
20ـ دولة السلاجقة.
21ـ الإمام الغزالي وجهوده في الإصلاح والتجديد.
22ـ الشيخ عبد القادر الجيلاني.
23ـ الشيخ عمر المختار.
24ـ عبد الملك بن مروان بنوه.
25ـ فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة.
26ـ حقيقة الخلاف بين الصحابة.
27ـ وسطية القرآن في العقائد.
28ـ فتنة مقتل عثمان.
29ـ السلطان عبد الحميد الثاني.
30ـ دولة المرابطين.
31ـ دولة الموحدين.
32ـ عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج.
33ـ الدولة الفاطمية.
34ـ حركة الفتح الإسلامي في الشمال الأفريقي.
35ـ صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير البيت المقدس.
36ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم دروس مستفادة من الحروب الصليبية.
37ـ الشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء.
38ـ الحملات الصليبية (الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة) والأيوبيون بعد صلاح الدين.
39ـ المشروع المغولي عوامل الإنتشار وتداعيات الإنكسار.
40ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق